تعتبر أحلام بلحاج، الأستاذة المبرّزة في الطبّ النفسي للأطفال، أيقونة من أيقونات النضال المتعدّد الأبعاد، النسوي والحقوقي والنقابي، والصحّي والاجتماعي والإنساني، إذ كانت نقابيّة وقياديّة صلب الاتحاد العامّ التونسي للشغل، محاربة من أجل الصحّة العموميّة والتدريس العمومي للعلوم الطبيّة، وكانت أيضا مدافعة شرسة عن حقوق المرأة والطفل وتكافؤ الفرص في الجمعيّة التونسيّة للنّساء الديمقراطيّات التي انضمّت إليها عضوا ثمّ ترأستها لاحقا طيلة دورتين، وكذلك في جمعيّة الطبّ النفسي للأطفال والمراهقين التي ساهمت في إنشائها ثمّ أصبحت رئيسة لها، وفي قسم الطبّ النفسي للأطفال في مستشفى المنجي سليم بالمرسى الذي أسّسته وأدارته لإعطاء هذا الاختصاص مكانته في منظومة الصحة العمومية في تونس.
اتّسم مسار أحلام بلحاج النضالي والمهني بالالتزام والثبات على المبادئ والنزاهة والصدق والسخاء، فكانت امرأة استثنائيّة وشخصيةّ بارزة ولجت النضال النقابي ومن ثمّ السياسي والنسوي منذ شبابها ومثلت بانخراطها في العديد من الأنشطة الاجتماعية عنصرا متفردا من عناصر النخبة المناضلة في تونس.
وُلدت أحلام بلحاج سنة 1964 في مدينة قربة من ولاية نابل حيث كان والدها مدرسًا ورئيسًا للبلدية لعدة سنوات، وفي هذه المدينة أكملت أحلام دراستها الابتدائيّة والثانويّة التي تُوِّجت بالحصول على عدد من الجوائز. كانت في سنواتها المدرسية رياضية متميزة خاصة في ألعاب القوى (العدو والقفز) ، وحققت عديد الإنجازات الرياضية مع فريق قربة ثمّ مع الملعب النابلي، قبل أن تلتحق بالمنتخب الوطني في القفز الطويل والقفز السريع (100 م) مما أكسبها عددًا من الألقاب والميداليات.
التحقت أحلام بلحاج بعد حصولها على شهادة الباكالوريا سنة 1982 بالجامعة فتمّ قبولها بكليّة الطبّ بتونس حيث واصلت دراستها الطبيّة وابتدأت بذلك رحلتها المبكّرة مع النضال بالانتماء للحركة الطلاّبيّة سنة 1983 وانخراطها في النشاط السياسيّ ضمن المجموعات الطلابيّة اليساريّة التوّاقة إلى الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعيّة. وفي نفس السنة بدأ اهتمامها بالنضال من أجل حقوق المرأة بعد أن شاركت في نشاط نظمته ناشطات نسويّات في نادي الطاهر الحدّاد في 8 مارس بمناسبة اليوم العالمي لحقوق المرأة وكان ذلك أوّل لقاء لها مع الحركة النسويّة.
وواصلت أحلام النضال النقابي بعد تخرّجها من الجامعة سنة 1989 صلب الحركة النقابيّة العمّاليّة إذ انخرطت فور مباشرتها العمل كطبيبة في الاتحاد العام التونسي للشغل، وشاركت في هياكله عضوا في نقابة الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان الاستشفائيين الجامعيين لثلاثة عقود وتولت كتابتها العامة مدّة أربع سنوات أي حتى تاريخ وفاتها حيث «كان الإصلاح العميق للنظام الصحّي هو الشاغل الرئيسيّ لأحلام، لأنّه الضمان الوحيد لصحة عمومية عالية الجودة ذات حوكمة رشيدة» (شهادة شفوية للدكتور طلال الباردي الكاتب العام المساعد للنقابة المكلّف بالإعلام). وفي هذا الإطار يقول عنها الأستاذ محمد جويني، عميد كلية الطب بتونس «كانت أحلام بلحاج ملتزمة منذ صغرها بالعمل النقابي والدفاع عن حقوق الإنسان وضحّت بجزء كبير من حياتها للنضال من أجل تحسين ظروف كلّ الاستشفائيين الجامعيين». وبصفتها نقابية في صلب الاتحاد العام التونسي للشغل ظلّت ملتزمة بقضيّة المرأة حيث ساهمت في العمل على تنشيط «اللجنة النسائية» صلب المركزية النقابية.
وبما أنّ أحلام بلحاج تعتبر قضايا المرأة مصدر انشغال أساسيّ، فقد انضمّت سنة 1992 إلى الجمعيّة التونسيّة للنساء الديمقراطيّات التي تأسّست عام 1989 وأصبحت عضوا في هيئتها التنفيذية ثمّ تمّ انتخابها مرتين رئيسة لها، في عام 2004 ثمّ في عام 2021 ممّا مكّنها من لعب دور رئيسي في صياغة دستور تونس 2014 وظلّت بعد ذلك عضوا في الهيئة المديرة للجمعيّة من سنة 2016 حتى تاريخ وفاتها، وبهذا تكون قد «مرّرت الشعلة دون أن تتخلّى عن المعركة». وبصفتها تلك، قامت بحملات ضد العنف المسلط على المرأة ومن أجل الحقوق الجنسية والإنجابية وضدّ جميع أشكال التمييز: الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي. لقد «جعل منها استعدادها وقدرتها على الاستماع وتقديم المساعدة لضحايا العنف من النساء دعامة صلبة لمركز الاستماع التابع للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات» (شهادة شفوية لخديجة الشريف الرئيسة السابقة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات).
شاركت أحلام بلحاج في العديد من النشاطات وظلت تدافع عن «نسوية أفقية تعبُرُ كل النضالات» حتى آخر نفس لها. فبالنسبة لأحلام «يتضمن المشروع المجتمعي بناء نموذج لمجتمع عادل في العلاقات بين الرجل والمرأة ممّا سيُغَيّر بقية العلاقات الاجتماعية».
تعتبر أحلام بلحاج المناضلة من أجل قضية المرأة الأبرز في تونس وقد كان هدف معركتها النسوية الأخيرة قبل وفاتها هو المساواة الاقتصادية للمرأة.
لم يعق نضالها المتحمّس دراستها الجامعيّة بل طبعها بالأحرى ببصمته إذ عَرَفَت كيف تربط بين النضال النسوي والبحث الأكاديمي فكان موضوع أطروحتها في الطبّ، التي ناقشتها بتونس سنة 1993، يتمحور حول «السلوك الجنسي الأنثوي» وهي دراسة استقصائية أجريت على عينة متكونة من 347 امرأة في تونس الكبرى وترتكز على المعارف والمواقف والممارسات. علاوة على ذلك، «كانت أحلام رائدة في هذا البحث المتعدّد الاختصاصات والنسوي، بتعاملها علميًّا مع مسألة لم يتمّ تناولها إلّا قليلاً في تونس وحتى في العالم العربي» (شهادة شفوية للدكتورة درة محفوظ، أستاذة العلوم الاجتماعية) وبهذا مثّلت قضايا المرأة الاهتمامات الأولى لأحلام بلحاج في ميدان البحث العلمي.
ولم يعرقل نشاطها النضالي كذلك مسار تخصّصها الأكاديمي في الطبّ النفسي الذي ارتسم في خط مستقيم من الإقامة الداخليّة إلى الإقامة ثمّ خطّة مساعدة ليتوّج هذا المسار بالتبريز وتصبح أحلام أستاذة الطبّ النفسي للأطفال في كلية الطب بتونس. ولقد سعت من خلال اختيار هذا التخصص إلى فتح مدخل للعلوم الإنسانية، لتهتمّ بالمجال الاجتماعي ولتفهم الناس وذلك كجزء من استمرارية نضالها.
وقد كرّست أحلام بلحاج بوصفها أستاذة مبرّزة في الطبّ النفسي وطبيبة متميّزة نفسها ووقتها وحياتها من أجل الصحة النفسيّة للأطفال والمراهقين على كافة المستويات. فبعد مسيرة طويلة في خدمة الطب النفسي للأطفال بمستشفى الرازي، أسست، سنة 2012، قسم الطب النفسي للأطفال في المستشفى الجامعي منجي سليم لإعطاء هذا التخصّص مكانه في منظومة الصحة العمومية. ولقد أدارت هذا القسم بأحدث الطرق العلميّة، وكوّنت فيه فريقا متكاملا وناجعا ممّا مكّنها من تطوير اختصاصها بشكل كبير وجعل قسمها مرجعا في مجال تخصُّصها. وباعتبارها رئيسة قسم للطبّ النفسي للأطفال في مستشفى عمومي، انخرطت أحلام بلحاج بنشاط في النهوض بقطاع الصحّة العموميّة.
وفي عام 2014، ساهمت في إنشاء الجمعيةّ التونسيّة للطبّ النفسي للأطفال والمراهقين (STPEA)، التي ترأستها ابتداء من ديسمبر 2020، وخلال فترة ترؤسها، القصيرة نسبيا، للجمعية استطاعت إرساء ديناميكية جديدة بإقامة شراكة فعالة من خلال بعث مشاريع تعاون لصالح الأطفال والمراهقين المصابين بالأمراض والاضطرابات النفسيّة. وفي هذا الإطار «وقعت بصفتها رئيسة للجمعية على اتفاقيات شراكة مع وزارات مختلفة كوزارة الصحة لإطلاق الخطة الوطنية للصحة العقلية للأطفال والمراهقين ووزارة التربية لتنشيط دورات تكوينية لصالح إطارات التعليم ووزارة شؤون المرأة والأسرة والطفولة وكبار السنّ لإعداد مشروع وطني يكرّس حقوق الأطفال المصابين بالتوحّد في الاستفادة من الخدمات والبرامج المتكاملة للطفولة المبكرة، وفي هذا الصدد شاركت في وضع دليل لدمج الأطفال المصابين بالتوحد في رياض الأطفال، كما عملت على تنظيم عدة ملتقيات متعددة الاختصاصات، وتبادل الخبرات على المستوى الدولي (مؤتمرات، وندوات عبر الإنترنت، وورشات عمل)» (شهادة شفوية لأعضاء مكتب STPEA).
وإلى جانب النضال النسوي والنقابي وفضلا عن نشاطها في المجتمع المدني وعملها طبيبة في مستشفى عمومي، كانت أحلام أستاذة جامعية بكلية الطبّ بتونس حيث مكنتها صفاتها الإنسانية والمهنية العالية من تكوين أجيال من الأطباء النفسانيين للأطفال الذين أثّرت فيهم من خلال نقلها المعرفة، والخبرة والمهارات الشخصيةّ إليهم. وإلى جانب تدريسهم علم النفس للأطفال فقد شجّعت العديد منهم على الانخراط في العمل الجمعيّاتي.
وكانت أحلام أيضا باحثة، وبهذه الصفة قامت بعدّة بحوث تهمّ محاور مختلفة في مجال اختصاصها كالتوحّد وعلم الوراثة والتدخّل المبكّر والتدخل العائلي وكذلك الصدمات النفسية للأطفال والتقييم والعلاج النفسي، ممّا مكّنها من المساهمة في كتابة ونشر 60 مقالة علميّة متوفّرة على منصّة Researchgate على الرابط التالي:
https://www.researchgate.net/profile/Ahlem-Belhadj/research
وقد تحلّت أحلام بلحاج بإنسانية عميقة وتميّزت بإتقانها للإنصات للآخرين وتضامنها مع الأكثر هشاشة وحرمانًا وفي هذا الصدد تقول عنها ناشطة نسويّة «أحلام كانت امرأة راديكاليّة، حازمة في مواقفها، لكنّها تستمع دائما إلى الآخرين وهي مليئة بالحب ّوالعطاء».
أحلام بلحاج هي «امرأة كلّ المعارك» من أجل الحريّة والديمقراطية وحقوق المرأة والأطفال والفقراء، لا يعرف الإحباط إليها سبيلا ففي مقابلة صحفية أجريت معها في جانفي 2021 قالت أحلام «إن الثورة التونسية لم تحقق توقعات الذين حملوها، لكن شعلة التغيير هذه لا تزال موجودة»
( https://npa45dotorg.files.wordpress.com/2021/01/antik553.pdf ) ولقد جلب لها نضالها وإنسانيتها تقديرا وطنيّا ودوليّا واسعا.
توفّيت الدكتورة أحلام بلحاج الطبيبة النفسيّة للأطفال وأستاذة الطبّ والمناضلة الحقوقيّة والناشطة النقابيّة والنسويّة بامتياز في تونس في 11 مارس 2023، وبعد الإعلان عن وفاتها عبّرت العديد من الشّخصيات والأطباء ونشطاء المجتمع المدني، وأيضا وزارتا الصحّة والأسرة والمرأة والطّفولة وكبار السنّ، وعمادة الأطباء، عن بالغ حزنهم مشيدين بالمرأة الاستثنائية التي كانت وستبقى..
أمّ كلثوم بن حسين
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية