ولدت عائشة بن عمر باللاّغة في غرّة جويلية 1916 وتوفيّت في ديسمبر 2002. لم تكن مسيرتها متميّزة في المجال الدّراسي والمهني فحسب، في فترة كانت تسود فيها الأميّة خلال الفترة الاستعماريّة، وبالخصوص بين الإناث، بل لأنّها أيضا، اضطلعت بأدوار اجتماعيّة حقوقيّة- نسويّة منذ هذه الفترة. ويبدو واضحا للباحث أنّ مسيرتها، مسيرة حافلة ومخضرمة، تحتوي العديد من الأبعاد النّضاليّة الوطنيّة والنّسوية والتّربويّة - التّعليميّة والتّوعويّة التثقيفيّة. فقد انطلقت مسيرتها النّضاليّة منذ كانت طالبة بفرنسا وتواصلت عند عودتها إلى تونس. حيث انخرطت في النّضالات النّسويّة والتزمت بالأفكار المدافعة عن الوطن، وحرصت إثر الاستقلال على نشر الوعي والتّعريف بمجلّة الأحوال الشّخصيّة في المحافل الدّوليّة. إضافة إلى أدوارها الأخرى وأهمّها المساهمة في تأسيس منظّمة نسائيّة جديدة والقيام برسالة تربويّة لا زال شاهدا عليها، اسم أحد المعاهد وسط العاصمة تونس الذي يحمل اسمها.
ولدت عائشة بن عمر باللّاغة بمدينة الدّار البيضاء بالمغرب الأقصى، إثر استقرار والدها عثمان بن عمر، المحامي والصّحفي مدير جريدة «الحقيقة» الّتي كانت تصدر بتونس. وذلك هربا من التّضييق الاستعماري. لكنّه لم يجد ضالته في المغرب الأقصى، فانتقل لاحقا إلى الاستقرار في باريس. زاولت عائشة بن عمر جزءا من التّعليم الابتدائي بباريس، ولكنّ وفاة والدها سنة 1926، جعلها تعود وعائلتها إلى تونس، حيث واصلت تعليمها بمعهد «أرمان فاليير» Armand-Fallières. ثمّ تحوّلت إلى مدرسة الاخوات «سان جوزيف» (Ecole des Sœurs) بقرطاج. وإثر حصولها على البكالوريا سنة 1937، انتقلت لإتمام تعليمها العالي بباريس في اختصاص العلوم الطبيعيّة.
انخرطت عائشة بن عمر باللاّغة بصفة مبكّرة، في جمعية طلبة شمال إفريقيا التي تأسّست منذ سنة 1927 بفرنسا والّتي تشبّع فيها العديد من الوطنيّين من الطّلبة المغاربة، بالأفكار الوطنيّة المناهضة للمستعمر، مثل الطاهر صفر وعلي البلهوان من تونس وأحمد الأفريج من المغرب وغيرهم... وبذلك واكبت عائشة بن عمر باللاّغة عن قرب الأفكار الوطنيّة ونشأ لديها وعي بسلبيّات الاستعمار منذ مزاولتها لدراستها بباريس.
إثر عودتها إلى تونس، أغلقت في وجهها الإدارة الاستعماريّة باب الانتداب إذ رفضت إدارة التّعليم العمومي في البداية انتدابها رغم حصولها على شهادة التّعليم العالي في العلوم الطبيعيّة بسبب غلق باب المناظرات وعانت كثيرا من الحيف الاستعماري. ورغم حصولها على شهادة عليا، فقد بقيت لمدّة أربع سنوات، تقدّم بعض الدّروس الخصوصيّة في الرّياضيات لتلاميذ المعهد الصادقي. تزوجت في الأثناء الأمين باللاغة وأصبحت تعرف بعائشة باللآغة بعد أن كانت عائشة بن عمر.
إثر مرحلة إقصائها من الانتداب بإدارة التّعليم العمومي، ربّما لمّا بلغ لعلم سلطات الحماية، قربها من الدّوائر الوطنيّة، منذ أن كانت في باريس، ثم من المناضلات الّتونسيّات، مثل سعيدة ساسي وشاذلية بوزقرو. عيّنت عائشة باللاّغة سنة 1950 قيّمة عامة بمعهد نهج الباشا في غير اختصاصها في فترة تميّزت بانفراج سياسي نسبي 1950 إثر تشكيل حكومة محمد شنيق التّفاوضيّة (1950- 1951) وفتح باب العديد من الوظائف أمام التّونسييّن.
انخرطت عائشة باللاّغة منذ عودتها النّهائيّة من فرنسا إلى تونس سنة 1946، في النّضال الوطني ببعديه السيّاسي والاجتماعيّ. حيث نشطت في الاتّحاد النّسائي الإسلامي الّذي ترأسته بشيرة بن مراد وذلك بشهادة زميلتها في الكفاح النّسوي، أسماء الرباعي بقولها و«عائشة باللاّغة كانت معانا في الاتحاد الإسلامي وهي امرأه مثقّفة قرات تعليم عالي في باريس ورجعت...». وعرفت بصفة مبكّرة، بنصرتها لقضايا تحرير المرأة التّونسيّة، إذ بادرت خلال شهر رمضان 1947 إلى تقديم محاضرة بمقرّ جمعيّة قدماء الصّادقيّة بعنوان «المرأة التونسية في مفترق الطرق». وقد كان لهذه المحاضرة صدى لدى فئات واسعة من المجتمع. كما انخرطت في الأثناء، في عديد المشاريع الخيريّة في مواجهة مخلّفات ضحايا الجفاف والأزمة الاقتصاديّة وانتشار مظاهر البؤس بالربوع التّونسيّة إثر الحرب العالميّة الثانية، فأشرفت بمعيّة زميلاتها في الاتّحاد النسائي الإسلامي، على مساعدة الفقراء والأطفال المتشرّدين بمختلف الأشكال.
لم يثن تسلّط السّياسة الاستعماريّة عائشة باللاّغة عن القيام بواجبها تجاه تلاميذها بمعهد نهج الباشا حيث حرصت على توعية التّلاميذ بسلبيّات الاستعمار ومساندة كل تحرّك تلمذي يساند المطالب الوطنيّة وهو أمر كلّفها وظيفتها حين قامت الفتيات المسلمات بمدرسة نهج الباشا بالتّظاهر في أحداث 18- 19 مارس 1952، مما جعل الجندرمة الفرنسيّة تحاول اقتحام المدرسة لإلقاء القبض على التّلميذات المتظاهرات. وحاولت عائشة باللاّغة، بكل السّبل حماية تلاميذها من الاعتقال بتهريبهم خارج المعهد وفي مقدمتهم التّلميذة راضية بلخوجة، وهو ما كلّفها العزل من وظيفتها. وإثر محاولة حكومة محمد صالح مزالي (1953- 1954) تهدئة الأوضاع بالمملكة، تمّ في هذا الإطار، إعادتها إلى وظيفتها وتعيينها أستاذة للتّعليم الثانوي بمعهد «بول كبنون» Paul Cambon بنهج مرسيليا إلى حدود 1961، تاريخ تعيينها مديرة لذات المعهد. وهي أوّل مديرة تونسيّة لهذا المعهد الذي، كانت دوما تديره مديرة فرنسيّة. وبقيت عائشة باللاّغة تشرف على إدارة هذا معهد نهج مرسيليا إلى تاريخ إحالتها على شرف المهنة سنة 1979.
على إثر الاستقلال الداخلي واصلت عائشة باللاّغة مسيرتها النّضاليّة والحقوقيّة بالموازاة مع حياتها المهنيّة، حيث عملت منذ سنة 1955 بمعيّة زميلاتها في النّضال النّسوي، ومن بينهنّ أسماء بالخوجة وسعيدة ساسي وراضية الحدّاد ونائلة بن عمّار وغيرهن ... وسعت إلى تفعيل هياكل الاتّحاد النّسائي الإسلامي ولكنّها كانت من بين أبرز المدافعين عن تأسيس منظّمة جديدة تستجيب لمقتضيات الظّروف الجديدة بعد الاستقلال حسب قولها «كلّ عصر له تفكير» وذلك بإنشاء منظّمة قائمة حسب رأيها على «مبدأ رؤية جديدة في بلد حديث العهد بالاستقلال تعتمد على مبدأ الشّموليّة في العمل». وبالفعل تحصّلت المنظّمة الجديدة: «الاتّحاد النّسائي التّونسي» على التّأشيرة في جوان سنة 1956 وتمّ تعيين عائشة باللاّغة أوّل رئيسة له حتّى تاريخ انعقاد مؤتمره الأوّل سنة 1958، قبل أن يقرّر الرّئيس الحبيب بورقيبة تعيين راضية الحدّاد بدلا منها. وواصلت عائشة باللاّغة بعد ذلك نشاطها في خطّة أمينة مال مساعدة للاتّحاد. ولم يتوقّف نشاطها في المراحل اللاّحقة، وهي التي اضطلعت دائما إلى- تاريخ انعقاد المؤتمر الخامس 13-16 أوت 1973- بعضويّة المكتب التنفيذي. وقد ترأست خلال هذا المؤتمر اللّجنة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ولكن رغم تقدمها إلى التّرشح ضمن الهيئة المركزيّة إلا أنّها لم تفز بعضويّة المكتب التّنفيذي ولكنّها رغم ذلك، بقيت تنشط في الهياكل القاعديّة للاتّحاد النّسائي بعد 1973.
لم يقتصر نشاط عائشة باللاّغة على الاتّحاد النّسائي، بل اضطلعت بعضويّة اللّجنة الاقتصادية والاجتماعية التّابعة للحزب الحاكم آنذاك وعضوة المجلس الاقتصادي والاجتماعي سنة 1969، كما اضطلعت بخطّة أمينة مال «منظمة التّنظيم العائلي» بين سنة 1966 وسنة 1970.
إنّ المتمعّن في نشاط عائشة باللاّغة في صلب الاتّحاد النّسائي التّونسي منذ أن كانت رئيسته، يلاحظ جيّدا نشاطها الحثيث المتواصل حتّى في المراحل واللّاحقة. فقد حرصت خلال ترؤسها للمنظّمة الّنسائيّة بين سنتي 1956 و 1958، على دعم النّساء اقتصاديّا بمضاعفة تأسيس تعاضديّات لغزل الصوف والنّسيج وإنشاء معامل للخياطة والحرص على توعية النساء وحثّهنّ على الاقبال على مراكز محو الأميّة. كما أشرفت على تقديم مختلف المساعدات خلال الشتاء القارس في فيفري 1956 وكذلك افتتاح مطاعم للأكلات الشعبية وملجأ للأطفال المشرّدين وأيضا مساعدة ضحايا زلزال سوق الأربعاء (جندوبة اليوم) والحرص على تفعيل برامج لتدريب الفتيات في الهلال الأحمر. وعملت خلال هذه الفترة مع زميلاتها ضمن الاتحاد النّسائي على تخويل المرأة حق الانتخاب. إذ كانت على رأس وفدين قابلا رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة في مناسبتين في 30 مارس و 14 ماي سنة 1957. وسعت وهي على رأس الاتّحاد النّسائي إلى تشجيع المرأة على التّرسيم في القائمات الانتخابيّة والإقبال على التّصويت. وقامت بمعيّة زميلاتها من المناضلات بالاتّحاد، على تقديم مترشّحات في الانتخابات البلديّة ضمن قائمات النّهوض الاجتماعي مع بقية المنظمات القومية الأخرى.
لم تنفكّ عائشة باللاّغة عن القيام بتأسيس فروع الاتّحاد النسائي في الداخل والقيام بحملات توعويّة للتّعريف بمجلّة الأحوال الشخصيّة. وكان التّركيز على التّثقيف في مجال الصّحة، بالخصوص صحة الأم والطفل. هذا وشمل نشاطها دعم قضايا المرأة خارج البلاد التونسيّة، حيث سعت إلى التّعريف بالتّجربة التونسيّة. كما شاركت بمعيّة جليلة بن مصطفى في مؤتمر النّساء اليوغسلافيات بزغرب في مارس 1961. وكانت عضوا فاعلا في إعداد ندوة النّساء الإفريقيّات، خلال أشغال اللّجنة التحضيرية في بامكو Bamako (بمالي) في جوان سنة 1962، وضمت هذه اللجنة أحد عشر بلدا من بينها تونس التي أوفدت عائشة بلاغة وسعاد بوغنيم وفائقة فاروق، وكانت مهمة هذه اللّجنة إعداد القانون الأساسي لندوة دار السلام في تنزانيا Tanzanie المنعقدة في 25 جويلية سنة 1962. وكانت عائشة باللآغة ضمن الوفد المشارك، بمعيّة راضية الحداد وفائقة فاروق، من أجل تمثيل الاتحاد النّسائي لتكوين منظمة نسائيّة تجمع البلدان الافريقية. كما شاركت في الوفد الذّي يمثّل تونس في المؤتمر الخامس لاتّحادات نساء إفريقيا وآسيا بكولمبو Colombo وكان من ضمن أحد أهمّ المواضع الرّئيسيّة للمؤتمر، تقديم مضامين مجلّة الأحوال الشّخصية. هذا وشاركت عائشة بلاغة كذلك في المؤتمر العالمي للسّلم ونزع السلاح بموسكو بالاتّحاد السوفياتي في جويلية سنة 1962. وكانت ضمن النّدوة التي عقدتها جامعة المنظّمات العائليّة بروما وترتّب على هذا المؤتمر أن حصلت عائشة باللاّغة على الكتابة العامة وخلفت بذلك فتحية مزالي. هذا إلى جانب إشرافها بمعيّة الرّئيسة راضية الحداد على الأيام الدراسيّة للطّالبات التّونسيّات الّتي نظّمها فرع باريس في مارس 1966.
وقد حرصت عائشة باللاّغة خلال مسيرتها التّربوية، بوصفها قيّمة ثم ّأستاذة تعليم ثانوي، على تأطير التّلميذات بمعهد الفتيات بنهج الباشا ومعهد بول كنبون بنهج مرسيليا وحثهنّ على مواصلة دراستهن. أمّا بعد الاستقلال فقد أشرفت خلال تولّيها رئاسة الاتحاد على نشاط تعليمي وخيري قامت فيه بتقديم العديد من المحاضرات لطلبة مدرسة الإطارات. ويبرز حرصها على القيام برسالتها التّعليميّة التّوعويّة بصفة مخصوصة، عندما كانت على رأس معهد نهج مرسيليا منذ سنة 1961. حسب شهادات شفويّة لمعاصريها ممّن عمل معها، كانت عائشة باللآغة، مديرة على جانب كبير من التّنظيم تسهر على التزام التّلميذات بقوانين المعهد. ولم تنفكّ عن الاضطلاع بدور توعوي حقوقي في تثقيف الفتيات وتحسيسهنّ بدور التّعليم في تحقيق رقيّهن. وحسب نفس االمصدر، تواصلت السيّدة المديرة في عدّة مناسبات في ساحة المعهد مع التّلميذات للتّعريف بمجلة الأحوال الشخصيّة وبحقوقهنّ داعية إلى مواصلة هذه الرّسالة بتبليغها للأجيال الموالية. وكانت حقوق المرأة، أحد الهواجس الرئيسيّة خلال إداراتها للمعهد إلى حدود حصولها على التّقاعد سنة 1979. وقد دعمت عائشة باللاّغة هذه الرّسالة التّعليميّة من خلال اضطلاعها بخطّة أمينة مال في منظّمة التّربية والأسرة في الفترة ما بين سنتي 1969 و 1972، وقد عملت خلالها على تشجيع الفتيات على مواصلة تعليمهنّ الثّانوي وإحداث دور إقامة للفتيات في المعاهد المختلفة وغير ذلك من الإجراءات...
لقد جمعت عائشة باللاّغة طوال حياتها بين النّضال الاجتماعي والنضال الوطني. وظلّت تدعم قضيّة حقوق المرأة وتعليمها بعدة أشكال وعلى عدة مستويات. ورغم تعرضّها للتّمييز أثناء الفترة الاستعماريّة وللأقصاء أحيانا إثرها. فقد توجّت مسيرتها النّضاليّة الوطنيّة والحقوقيّة النّسويّة والتّعليمية، بحصولها على عدّة أوسمة تكريما لها من بينها الصّنفان الثّاني والثالث من وسام الجمهورية ووسام الاستقلال. وبقي اسمها خالدا تتويجا لمسيرتها حيث يحمل اسمها أحد أهمّ المعاهد بتونس العاصمة الذّي ترأسته وهو معهد عائشة باللاّغة نهج مرسيليا.
فاطمة شلفوح
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية