«صباح الخير يا لولاد»، «صباح الخير سيّدة عليا»... بمثل هذه التّحيّة الّتي كانت تتجدّد كلّ صبيحة أحد من كلّ أسبوع طيلة سنين طويلة، كان صوت «عليا ببّو» يعلن، عبر أمواج الأثير، عن قدومه وحضوره في كلّ البيوت الّتي كانت تملك مذياعا آنذاك، حيث يتسمّر الأطفال، وحتّى الكبار، طيلة ساعة، لسماع برنامجهم الأسبوعيّ «جنّة الأطفال». هذه المواظبة الأسبوعيّة لم تكن وليدة الصّدفة، فقد كان وراء صوت «سيّدة عليا» شخص «عليا ببّو» المرأة الّتي جعلت من تربية الأطفال وتنشئتهم رسالتها، ومن «جنّة الأطفال» فردوسها الوطنيّ. فمن هي هذه المرأة الّتي جعلت أطفال تونس يسمعونها؟
ولدت عليا ببّو يوم 14 أكتوبر 1923، وتوفّيت في 20 جانفي 2006 بتونس العاصمة، من أب تلقّى تعليمه بالصّادقيّة. وقد أمضت طفولتها الأولى في باب العسل بـ «ربط باب سويقة» قبل أن تنتقل بعد ستّ سنوات للسّكن في صلامبو بالضّاحية الشّمالية. تلقّت تربية محافظة، فقد حملت الحجاب منذ سنّ الثّانية عشرة من عمرها ولم تخلعه إلاّ سنة 1951 في سنّ الثّامنة والعشرين. وبسبب تلك التّربية منعت من متابعة تعليمها الثّانوي رغم ختمها المرحلة الابتدائيّة بتفوّق سنة 1936. ولكنّها التحقت في نفس السّنة بمدرسة لافيجري Lavigerie بقرطاج الّتي تشرف عليها الأخوات الرّاهبات، وكان يختلف إليها بنات البورجوازيّة التّونسيّة وبعض الأميرات. وهناك حصّلت تعليما مهنيّا متنوّعا. ولكنّها لم تستمرّ فيها، فقد غادرتها سنة 1939 بسبب مواقفها الوطنيّة، فأكملت تعلّمها العصاميّ في المنزل، محاولة التّخصّص في مجال الخياطة الّذي برعت فيه. وقد دفعها قلقها الوجودي الباكر ووعيها الحادّ بذاتها (Alia Babbou, Itinéraire, Tunis, Apollonia, 2002, p.111.) وهي في سنّ الحادية أو الثّانية عشرة إلى التّوسيع من نطاق ثقافتها بقراءات متنوّعة في مجالات مختلفة من العلوم والمعارف العامّة. ثمّ ازداد أفقها اتّساعا بشغفها الشّديد بالسّفر (dromomanie)، فقد رشّحتها كثرة البلدان الّتي زارتها إلى أن تصبح عضوا في «النّادي العالمي لكبار الرحّالين» (Club International des Grands Voyageurs) في 8 مارس 1987. وقد بلغ بها هذا الشّغف أن زارت بلدانا نائية كزيلندة الجديدة Nouvelle-Zélande حيث فوجئت وهي تزور متحف أوكلاند Auckland بأسماء أماكن تونسيّة (مارث ومدنين والنّفيضة) مكتوبة على نوافذ كتب عليها أسماء ساحات المعارك الّتي شارك فيها الجنود الزيلنديّين خلال الحرب العالميّة الثّانية.
تزوّجت عليا ببّو يوم 17 أكتوبر سنة 1947 من موظّف في الشّرطة ولها من العمر 20 سنة، وأنجبت منه بنتين نائلة وهند. وبعد سنتين انتقلت معه إلى الكاف. وفي تلك المدينة بدأت تمتهن الخياطة، ثمّ أصبحت، منذ عودتها إلى صلامبو ، متخصّصة في «الخياطة الرّاقية».
شاركت مع شاذليّة وسيّدة بوزقرّو في تأسيس أوّل شعبة دستوريّة نسائيّة، ترأّستها في البداية، وبعد الانتخابات الأولى شغلت خطّة أمينة المال إلى جانب مناضلات أخريات كخديجة طبّال وخديجة المطويّة (رابح) وأمّ السّعد (يحيى) ومنجية عبد الرّحمن ويمينة زدّام، رغم معارضة الحزب في البداية. وكان لهنّ الفضل في نشر روح الكفاح الوطنيّ في صلب العائلات، إضافة إلى مشاركتهنّ الفعليّة في الاستقلال وتعرّضهنّ لمخاطر كثيرة.
بعد الاستقلال كانت من المساهمات البارزات في تأسيس «الاتّحاد الوطني للمرأة التّونسيّة» في فيفري 1956، وظلّت بحكم تاريخها النّضاليّ قريبة من دائرة القرار، مقرّبة من الرّئيس الحبيب بورقيبة، تُستدعى لحضور المناسبات الكبرى. وكانت من حين إلى آخر تكلّف ببعض المهامّ، لعلّ أبرزها تلك المهمّة الّتي ستجعلها شهيرة من شهيرات تونس. ففي نوفمبر من سنة 1957، طُلب منها أن تُعدّ برنامجا إذاعيّا يتوجّه إلى النّساء، فوافقت على الفور، إلاّ أنّ بثّ حصّته الأولى تأخّر إلى يوم 3 فيفري 1958، وهو تاريخ انطلاق مغامرتها الفعليّة في الإذاعة.
في ذلك الوقت، كان برنامج «جنّة الأطفال» يعتبر من أقدم البرامج الإذاعية، إذ تعود بداية بثّه إلى سنة 1949، وكان يعدّه الشّاعر الكبير مصطفى خريّف بمعيّة «عمّ راشد». ثمّ تداول على إعداده ثلّة من المنتجين الآخرين على غرار الشّاعر محمود بورقيبة والإذاعي محمد حفظي. وقد لاحظ بعض المهتمّين بالإذاعة سنة 1957 أنّ البرنامج قد صار رتيبا كأنّه موّجه للكبار لا للصّغار. في تلك السّنة انقطعت العلاقات الدّيبلوماسيّة بين تونس وفرنسا بعيد الاستقلال بسبب اختطاف فرنسا للزّعيم الجزائري أحمد بن بلّة. وبسبب تلك الحادثة، غادر العديد من المنتجين الجزائريّين إذاعة باريس الّتي كانوا يعملون بها وتحوّلوا إلى تونس. ومن بين هؤلاء الصّحفي والأديب عبد الحميد بن هدوقة الّذي كلّفته إدارة الإذاعة الوطنيّة التونسيّة بإنتاج برنامج «جنّة الأطفال» وبعث روح جديدة فيه. وقد نجح في مهمّته، إذ أصبح الأطفال يساهمون بأفكارهم التّلقائيّة في البرنامج. وكانت «سيّدة عليا» تشارك فيه بإعداد فقرة خاصّة عن السّياحة والآثار في تونس، وهي عبارة عن جولة إذاعيّة تأخذ فيها الأطفال إلى إحدى المدن أو أحد المواقع أو المعالم التونسية التّاريخيّة. وفي ماي 1960، استدعاها الشّاذلي القليبي، المدير العامّ للإذاعة الوطنيّة آنذاك، وكلّفها بأن تعدّ في نطاق البرمجة الصّيفيّة برنامجا صباحيّا للأطفال. فأنتجت في شهر جويليّة حصّة كان نصفها يبثّ يوم السّبت ونصفها الآخر يوم الأحد. وقد شجّعها نجاح البرنامج الصّيفي على مواصلة التّجربة. وفي شهر أكتوبر من السّنة نفسها، كلفتها إدارة الإذاعة بإنتاج «جنّة الأطفال» كاملا، فأدخلت عليه تغييرات كثيرة، فأصبح الأطفال ينتجون بأنفسهم كلّ الفقرات الغنائيّة والتّمثيليّة والفكريّة...، وأصبح البرنامج عبارة عن منوّعة إذاعيّة تسجّل في أستوديو 9 كلّ يوم جمعة، ويحضرها جمهور غفير من الأطفال وأوليائهم ومن بعض المعجبين.
ولم يقتصر نشاط سيّدة علياء الإذاعي على إنتاج برامج للأطفال، فقد كلّفتها إدارة الإذاعة الوطنيّة بعد معركة الجلاء ببنزرت في 19 جويليّة 1961 بإعداد حصّة أخرى هي «دنيا الأطفال» في القناة الدّوليّة بمساعدة هادي زهّاق، فبدأ البثّ يوم 17 سبتمبر 1961، واستمرّ بفضل نجاحه إلى شهر جوان 1967، فانتقلت إلى برنامج «المجتمع الجديد» الّذي انطلق يوم 10 أكتوبر 1958، وكانت تشارك فيه بإعداد روبرتاجات لم تلفت إليها الانتباه إلاّ لمّا أعدّت تحقيقا جريئا عن سجن النّساء المدني، فكان وقعه كالقنبلة لمّا بثّ يوم 8 جويليّة 1961. واستمرّت تعمل في هذا البرنامج طيلة اثنتي عشرة سنة حتّى شهر سبتمبر 1970، تاريخ نهايته. وبعد سلسلة من المضايقات الّتي منعتها من مواصلة إنتاج برنامجي «جنّة الأطفال» و«دنيا الأطفال» وجدت نفسها مضطرّة إلى مغادرة الإذاعة والعمل في نطاق ترويج موادّ التّجميل وتوزيعها في ولايات من شمال تونس براتب في الأسبوع يفوق راتبها الشّهريّ في الإذاعة. ولكن سرعان ما أعيدت إلى الإذاعة، فاقتصرت على إنتاج برنامج «جنّة الأطفال» الّذي ظلّ يبثّ دون انقطاع من أكتوبر 1970 إلى فيفري 1984. وتخلّلت تلك المدّة سنتان أنتجت فيهما برنامج «دنيا الأطفال» للتّلفزة. وفي سنة 1971، بدأت تشتغل مع دار متخصّصة في الملابس وهو ما أوحى إليها بأن تؤسّس شركة مع ابنتها هند متخصّصة في صناعة ملابس البنات الصّغار.
وفـي سنـة 2002، أصـدرت كتابهـا «مسـار» (Itinéraire) الّذي تحصّلت به في السّنة نفسها على جائزة الديدون الذّهبيّ الّتي نالتها على كامل مسيرتها. وقد صاغت فصوله في شكل مذكّرات بدأت كتابتها يوم 14 أكتوبر 1984 وفرغت منها يوم 21 جويليّة 1997. وقد تقاطعت فيها قصّة حياتها الشّخصيّة وعائلتها بالتّحوّلات المدهشة الّتي عرفها المجتمع التّونسيّ قبل الاستقلال وبعده. فتمكّنت، بفضل استطراداتها الكثيرة، من كشف جوانب أخرى من شخصيّة «عليا ببّو» لم يكن فيها لوجه المنتجة الإذاعيّة النّصيب الأوفر، مقارنة بالوجوه الأخرى كالمناضلة النّسويّة، والمشاركة في المقاومة الوطنيّة، والشّاهدة على عصرها، والرّحّالة المسافرة في معظم أصقاع المعمورة، والمرأة المنفتحة على ثقافات الآخر بروح مشبعة بقيم الحداثة.
العادل خضر
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية