ولدت أسماء بلخوجة يوم 16 جانفي 1930 بضاحية حمّام الأنف جنوب مدينة تونس، في عائلة ذات أصول تركيّة، اشتهر بعض أفرادها بتقلّد رتب دينيّة ومخزنيّة خلال الفترة الحسينيّة وأثناء الحماية الفرنسيّة بتونس. ولم يتسنّ لأسماء بلخوجة التعلّم في المدرسة، ولكنّها تلقّت هي وأختها الكبرى تعليما دينيّا في المنزل، أضافت إليه الفرنسيّة لاحقا.
نشطت أسماء بلخوجة إثر وفاة والدها سنة 1943، ضمن «الاتحاد الإسلاميّ النّسائيّ التونسيّ» الذي تزعّمته بشيرة بن مراد، ولكنّها سرعان ما انجذبت إلى طروحات الحزب الحرّ الدستوريّ التونسيّ الجديد، وإلى نضالات الاتحاد العام التونسيّ للشغل، ثمّ إلى كلّ تحرّك اجتماعي وإنساني يخفّف غَلْوَاء الجوع والفقر على التونسيّين.
تزوّجت أسماء بلخوجة بعد قصّة حبّ بـعزّوز الرباعي، الخطيب المفوّه للحزب الحرّ الدستوريّ الجديد وأحد قادته الشبّان، وذلك يوم 31 ديسمبر 1954، عشيّة الاستقلال الداخلي، وكان ذلك منطلقا لمرحلة جديدة من حياتها النضاليّة، إذ ساهمت مثلها مثل زوجها في بناء الدولة كما ناضلت معه ضدّ المستعمر، فكان أن أسّست بمعيّة نساء أخريات «الاتحاد القومي النسائيّ التونسيّ» في جانفي 1956 وكانت أوّل كاتبة عامّة له، وستكون عضوا منتخبا في المجلس البلدي لمدينة تونس أكثر من مرّة. وقد توفّيت أسماء بلخوجة الرباعي يوم 28 مارس 2011.
كان نشاطها مُتّسِمًا بالميْدانيّة، أيّا كان الهيكل الذي انتمت إليه خلال الفترة الاستعماريّة أو بعد الاستقلال، فهي امرأة تعشق هذا التوجّه، وكانت ترى فيه ذاتها التي تتحرّر من كلّ قيد. ولا يمكن فهم ذلك إلاّ إذا استوعبنا التنازع النفسي الذي ألمّ بها منذ الصغر والذي دفعها منذ بواكير شبابها إلى إنهاء حالة التناقض بين حبّها اللاّمتناهي للأب الذي كان حنونا معها ومع أخواتها، ولكنّه كان يمارس السلطة الذكورية بكلّ قوّة بالرغم من تعلّمه في الصادقيّة وفي باريس، إذ منعهنّ من التعلّم، بل وحتى من الخروج من البيت، وكم كانت أسماء شاهدة على استماتة أمّها التي تزوّجت بوالدها، وهي تصغره بأربعين سنة، من أجل أن يقبل بتعليم بناته في المدرسة، لكن دون جدوى، وكم كانت أسماء ترفض في قرارة نفسها زيجة أمّها مع والدها.
لذلك، كانت وفاة والدها المبكّرة سنة 1943، وهي لم تتجاوز ثلاث عشرة سنة من عمرها، «انعتاقها» الحقيقي، فاندفعت بكلّ قوّة إلى «الخارج»، إلى «الشارع»، للنشاط على الميدان، باعتباره متنفّسا لها، فانخرطت مبكّرا في الحركة النسويّة لأنّها كانت تعتقد أنّ هذا الاندفاع سيُنْهي سطوة الذكوريّة وإلى الأبد، وهي التي عانت منها كثيرا دون أن تتمكّن من تجاوزها وقتها.
هكذا أصبحت أسماء بلخوجة صوتا نسْويّا متمرّدا على العادات البالية التي تكبّل المرأة، وعلى الوجود الاستعماري في بلدها، وبدأت تعي شيئا فشيئا أنّ تحرّرها كامرأة من سطوة الذكر مرتبط بتحرّر تونس من سطوة المستعمر، وأنّ المرأة في تونس مكبّلة بسطوتين، عكس الرجل، لذلك فلن تتردّد في اكتساح ساحات الرجال من اجتماعات ومظاهرات ولقاءات، فكنت تراها أحيانا امرأة وحيدة ضمن حضور ذكوري كبير، وبذلك تحقق هي ذاتها التي كُبتت بشدّة في صغرها.
هذا الشعور بالذات هو الذي دفعها في ما بعد إلى الانسحاب من قائمة انتخابات المجلس البلدي لمدينة تونس سنة 1957 احتجاجا على سطوة الذكر على الأنثى وعلى تدخّل السلطة -التي ساهمت أسماء في أن تكون تونسيّة مستقلّة- في اختيار أعضاء القائمات.
وقد دفعها هذا الشعور أيضا إلى الاستقالة من «الاتحاد القومي النسائي التونسيّ» سنتين بعد تأسيسه لأنّها لم تعد قادرة على مزيد تحمّل سطوة هذا «الذكر» مرّة أخرى على «المرأة» داخل هذا الاتحاد، حتى وإن كان هذا «الذكر» الحبيب بورقيبة زعيمها و«محرّر المرأة»، فهي لم تكن ترى في تدخّل الدولة «السافر» في اتحاد المرأة إلاّ تذكيرا سيّئا لها بماضٍ خالت أنّه ولّى وانتهى إلى غير رجعة.
كما أنّه لا يمكن فهم اندفاعها الوطني بكلّ قوّة ومشاركتها في الاجتماعات الحزبيّة والعمّاليّة واحتكاكها بالقادة الوطنيّين، إلاّ من خلال رغبتها أيضا في إنهاء تناقضها الداخلي الذي يشعرها بأنّها سليلة عائلة كانت سائرة في ركاب سلطة البايات والمستعمر، فكانت تتقدّم المظاهرات، وأهمّها مظاهرة 15 فيفري 1952 التي اعتٌقلت خلالها وهي تحمل العلم التونسيّ وتنادي «يحيا بورقيبة».
( Gallot, Jean, Le beau métier d’avocat, Paris, Editions Odile Jacob, 1999, p : 149)
وقفت أسماء بلخوجة بـإباءٍ وشموخ وهي مُتلفّعة باللّحاف التقليديّ التونسيّ أمام قضاة المحكمة العسكريّة، وهي «السافرة» دوْماً، تدافع بكلّ قوّة عن قضيّة وطنها وعن الحزب الحرّ الدستوريّ الجديد الذي تنتمي إليه، موشّحة صدرها بميداليّة تحمل صورة الحبيب بورقيبة، فكان أن عمّدت بذلك «طُهورّيةً» فرضت فيها ذاتها كعنوان للتضحية الوطنيّة منهيةً تناقضها الداخلي، وقد دعمتها بالاقتران بمن كان يُتغنّى به في السجون رمزا للنضال والمقاومة، ألا وهو عزّوز الرباعي.
لكن، لم يكن سهلا أن توفّق أسماء الرباعي بين شعورها كزوجة أحبّت زوجها بكلّ قوّة، وواجباتها تجاه وطنها من خلال أنشطتها في عهد دولة الاستقلال، إذ وجدت نفسها تعيش «صراعا» آخر ينضاف إلى ما عرفته سابقا، إثر عزل «الأب الروحي» الحبيب بورقيبة لزوجها من كتابة الدولة للشباب والرياضة سنة 1958، ثم «حشره» في السجن سنة 1962. غير أنّها بالرغم من ذلك تمكّنت من أن تحافظ في ذات الوقت على ذاتها وكيانها كأنثى وزوجة، حاملة في أعماق وجدانها حبّ وطن لم يكن منصفا معها دوْمًا.
خالد عبيد
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية