هذه المرأة على خلاف غيرها من نساء التاريخ الحديث بالقطر التّونسيّ، مشهورة بقدر ماهي غير ثابتة الهويّة. أوّل من اعتنى بعزيزة عثمانة هو حسن حسني عبد الوهّاب (1883-1968) في سيرة هذه الشخصيّة وقد استند في بحثه إلى وثائق مؤسّسة الأحباس الّتي كوّنتها هذه المرأة المحسنة. كما اعتمد أيضا على الأقوال الشفويّة ليجمّع نتفا من فترات حياتها.
غير أنّ حسن حسني عبد الوهّاب وكلّ من أخذوا عنه قد نحوا في بحثهم منحى خاطئا لاعتبارهم عزيزة عثمانة ابنة لعثمان داي (توفّي سنة 1611م) وربّما زوجة لرجل من رجال الحكم: هو يوسف داي (توفّي سنة 1636 م) أو حمّودة باشا (توفّي سنة 1666م).
ولكن التحقّق المضبوط من أمر عزيزة عثمانة أصبح اليوم ممكنا بفضل مقابلة عديد المصادر التوثيقيّة: فهي تنحدر من أخ عثمان داي وهو شخصيّة غير معروفة يشار إليها بــ «اليلداشي» أي الجنديّ. وقد قدم عثمان وشقيقه مع حملة سنان باشا سنة 1574م عازمين على تخليف أحفاد لهم بالبلاد.
كان عثمان مجرّد جنديّ يسمح له ككلّ الانكشاريّين بتعاطي مهنة خارج الوقت المخصّص للجنديّة. وقد تعاطى عديد المهن ووضع نفسه على ذمّة الشركات الفرنسيّة لصيد المرجان مع ارتياده لزاوية الشيخ أبي الغيث القشّاش. وفي سنة 1593م، أي بعد تمرّد الانكشاريّين بسنتين، تمّ اختياره دايا. أمّا أخوه فلم يترك الكثير من الآثار لأنّه ارتقى إلى مناصب عليا في الجيش.
على أنّ أبناء عثمان داي وإن لم يكونوا ضمن الحكم السّياسي فإنّهم يعتبرون أمناء على ثروة اجتماعيّة ضخمة باعتبارهم من سلالة أوّل القادمين من الأتراك. وبانتهاء جيل واحد أصبحوا من «الشلابة» وهو نعت يوحي برفعة السلوك وأصل المنشأ. وقد نشأت هذه الوجاهة الجديدة بسرعة، على امتداد جيل واحد فقط، إلى درجة أنّ آل عثمان داي أصبحوا يمثّلون على المرجّح أكثر الديار هيبة خلال القرن السابع عشر، وأنّ نساءه صار يبحث عنهنّ للفوز بهنّ من طرف كلّ المتطلّعين إلى الحكم السّياسي.
وللمحافظة على سمعة هذا الرصيد الرمزي والماديّ تمّ تزويج عزيزة عثمانة بقاسم، وهو ابن عمّها من جدّ واحد وابن حفيد عثمان داي. غير أنّ هذا الزواج الواعد قد اصطدم بإكراهات الحياة والسّياسة. فقد توفّي قاسم على عجل ورغم ترمّل مبكّر لعزيزة فإنّها لم تتّخذ زوجا ثانيا. وإضافة إلى كلّ هذا فإنّ هذا الزواج لم يثمر إلاّ ولدا واحدا هو أبو العبّاس أحمد الّذي يعدّ من جملة رجالات تونس الأكثر شهرة. وعلى امتداد حياته تزوّج أحمد بامرأتين تنتسبان إلى عائلة أمّه. وبقي الرجل في دائرة السلطة زمن الحروب المدنيّة بين المراديّين. وقد رزق أحمد فاطمة وقمر ولكنّه كان ضحيّة حماقة السفّاح مراد الثالث الّذي اغتاله بيديه في الثاني من جوان سنة 1696م.
مات أحمد دون أن يخلّف ذكرا فكان ورثته أمّه عزيزة وابنتاه فاطمة وقمر ووريث موصى له وهو نسيب من ناحية الأب من سلالة أخيه عثمان. هكذا فقدت عزيزة عثمانة ابنها الوحيد، فكيف تمكّنت من تخطّي هذه المحنة؟ تبقى المصادر صامتة في هذا المجال. يقال إنّها ذهبت لزيارة مكّة والواقع أنّنا لا نجد حديثا عنها إلاّ بعد الفاجعة بعشرين سنة ، زمن تصفية ميراث أحمد. وفي الأثناء تزوّجت فاطمة من حسين بن علي، وهو المتعاون القويّ مع الموراديّين والمؤسّس مستقبلا للحكم الحسيني، وتزوّجت قمر من محمود سطا حفيد صاحب النفوذ أسطا مراد داي.
كان أحمد بن عثمان على رأس ثروة هائلة بقيت على الشياع بين الجدّة وحفيدتيها. ولم تتمّ عمليّة القسمة بينهم إلاّ في جوان 1719 م أي بعد وفاة أحمد بعشرين سنة. تحصّلت عزيزة على 20 ملكا فلاحيّا وحضريّا بينما تحصّلت فاطمة وأختها قمر على 150 ملكا لكلّ واحدة منهما. قامت فاطمة وجدّتها عزيزة بتحبيس أملاكهما سنة 1727م. وقد توفّيت عزيزة بعد ذلك بقليل وكان ورثتها وهما فاطمة وقمر وكذلك نسيب من الأب هو حسين بن محمّد بن حسن. هذا الأخير هو الأخ المنحدر من جدّ واحد لعزيزة.
ظلّ اسم عزيزة عثمانة مذكورا من خلال مؤسّساتها المحبّسة والّتي احتفظ التاريخ بأسمائها. وكان المستفيدون الأوائل من تلك الأحباس هم قرّاء القرآن على قبر ابنها أحمد وعلى قبرها هي بالذّات. وقد خصّصت مبلغا لاشتراء الزيت الّذي سيضيئ قبرها ولتنظيفه وزخرفته بالزهور والياسمين والورد. أمّا بقيّة الإرث المنتفع به فتمّ توزيعه على أعمال خيريّة: مبلغ هامّ، حوالي 400 ريال، خصّص لعتق عبيدها و 50 ريالا تمّ تخصيصها لإعاشة البعض من المسنّين الّذين كانت قد حصرت أسماءهم بنفسها. وخصّصت مداخيل أخرى لشراء الزلابية والخبز لتوزيعهما على الفقراء خلال شهر رمضان. وخلال الاحتفالات الشعائريّة كانت توزّع مبالغ ماليّة على الفقراء وتخصّص مبالغ أخرى لختان الأطفال وتوزيع الثياب والمال عليهم.
هكذا خلّدت عزيزة عثمانة اسمها عبر الزمن بفضل أعمالها الخيريّة المتعدّدة.
وقد دفنت عزيزة عثمانة -هذه المرأة المحسنة الكريمة، راعية الفقراء والمهمّشين- بمقبرة سيدي بن عروس، بمدينة تونس العتيقة، حيث لا يزال ضريحها هناك إلى اليوم.
ليلى البليلي
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية