تُعدّ بشيرة بن مراد رائدة النضال النّسائي الوطني الحديث في تونس وخاصّة في النصف الأوّل من القرن العشرين الذي برزت خلاله عديد الوجوه النسائيّة المناضلة النيّرة التّي تمثّل مفخرة في تاريخ تونس المعاصر.
ولدت بشيرة بن مراد في 11 أوت 1913 في وسط عائلي ديني علمي ذلك أنّ والدها هو الشيخ محمد الصالح بن مراد، أحد شيوخ الإسلام الحنفي والمدرّس بجامع الزيتونة (1881-1979) ووالدتها، التي توفّيت في سنّ الثّلاثين وخلّفتها وهي في سنّ العشر سنوات تقريبا، هي إبنة شيخ الإسلام محمود بلخوجة.
وقد تلقّت بشيرة بن مراد تعليما دينيّا وأدبيّا وعلميا متكاملاً عن بعض شيوخ جامع الزّيتونة آنذاك و منهم محمد مناشو وفرج عباس وجدّها أحمد بن مراد الذي كان يلقّنها دروسا في الفقه والتّفسير صحبة أخواتها بمنزل العائلة الكائن بتُربة الباي بمدينة تونس، أو بمنزلهم الثّاني صيفًا الكائن بضاحية سيدي بو سعيد.
وقد عُرفت في الوسط العائلي بطيبتها وكرمها وتضحياتها، إذ رغم صغر سنّها عند وفاة والدتها لم تدّخر جهدًا في المساعدة على تربية إخوتها. وفي سنة 1929 تزوّجت بشيرة بن مراد بالشّيخ صالح الزّهار وكان سنّها خمس عشرة سنة. ولئن لم ترزق بأطفال، فإنّها لم تكُن تتردّد في مساعدة الآخرين كعنايتها بأبناء زوجها الذين إكتشفت وجودهم يوم وفاته لكونه أخفى عليها زواجه بامرأة ثانية.
وتجدر الإشارة إلى أن بشيرة بن مراد وجدت كلّ التّفهم والدّعم من قِبَلِ زوجها ووالدها الذي حرص على تعليم بناته وساندهنّ في عملهنّ النضالي. وهو ما أكدته بشيرة بن مراد لتبيّن حقيقة موقف والدها الذي أُعتبر ضد حريّة المرأة بإصداره كتابه «الحِداد على امرأة الحدّاد». ففسّرت بشيرة بن مراد ذلك بأنّ الشيخ بن مراد عبّر فقط عن رأيه فيما يخصّ كتاب الطاهر الحدّاد «إمرأتُنا في الشريعة والمجتمع» الذي رأى فيه تهديدا للإسلام والهوية التونسّية في زمن الإستعمار، مؤكّدة أنّه لا يمكن لوالدها أن يكون ضدّ المرأة وحريّتها وهو الذي علّمها ولم يمنعها من نضالها أو يحدّ من حريّتها التيّ لا تتنافى و أٌطر ديننا و مجتمعنا العربيّ الإسلاميّ.
وقد تميّزت بشيرة بن مراد بنظرتها المعتدلة في مسألة حريّة المرأة، إذ إرتكزت في ذلك على فكر والدها، فكانت تُناضل لتحرير تونس من المستعمر وتكريس حريّة المرأة لا بتقليد أعمى للغرب بل بالنّقاش والّنقد والإقناع. فبشيرة بن مراد تقول : ”إن البعض من النساء يعتبرن الإسلام، الذي كان يمثل الحاجز الواقي، دينا رجعيّا، ولكنّهن مخطئات. فأنا مثلا مسلمة إسلاما عميقا، ومع ذلك فقد خرجت في المظاهرات ونظّمت الدروس وشاركت في حملات التّبرع وفي المناقشات مع الرّجال... أما المساواة فقد كانت بالنسبة إليّ تتم من خلال المشاركة في المظاهرات بالشّارع وفي رفع الجهل ونشر المعرفة. فهل هذه هي الرجعيّة؟ (فيصل العش، «بشيرة بن مراد رائدة الحركة النسائيّة في تونس»، المجلّة الإلكترونية الإصلاح عن منتدى الفرابي للدّراسات والبدائل).
ورفعت بشيرة بن مراد، التى لم تتحجّب يومًا، العلم التونسي وجابت الشّوارع لتقود المظاهرات. وتقول بشيرة بن مراد : «سنة 1935 تميّزت بغليان سياسي، حيث تعرضت العديد من الشخصيات السياسية البارزة إلى الإيقاف والإبعاد من البلاد، فأصدرتُ نداء إلى 1500 امرأة من نساء أعرق العائلات في البلاد، ولكن 15 فقط منهن استجبن لندائي. وبعد أسبوع وجّهتُ الدعوة إلى عدد آخر من النساء، فاستجابت لدعوتي هذه المرّة 50 امرأة. ومرّت سنة، وشيئا فشيئا، بدأت الاجتماعات تتوالى، وبدأ التونسيون يشعرون بوجودنا وبحركتنا النسائية؛ عندها بدأت التشجيعات تُغدَق علينا من النساء والرجال. كما بدأت الصحافة تهتمّ بنا وتنشر بعض المقالات حول نشاطنا (المرجع السابق).
وساهمت بشيرة بن مراد منذ الثلاثينات بالكتابة الصحفيّة في عدد من الدّوريات من بينها مجلّة والدها «شمس الإسلام» و عملت على تأسيس أوّل إتحاد نسائي تونسيّ ناضلت للحصول على رخصة القانونية له من سنة 1936 حتى سنة 1951. وهو«الاتّحاد النّسائي الاسلامي التّونسي»، برئاسة بشيرة بن مراد ومشاركة عدد مهمّ من النّساء من بينهنّ توحيدة بن الشيخ وأخوات بشيرة بن مراد حميدة وآسيا ونجيبة، ولمّ شمل النّاشطات في الحقل الوطني والثّقافي بما يخدم القضيّة الوطنيّة ويرتقي بأحوال المرأة التّونسية.
وحصلت بشيرة بن مراد عند بعث الإتحاد النسائي الإسلامي على مساندة قيادات الدساترة كعلي بلهوان وجلّولي فارس ورشيد إدريس والمنجي سليم الذين كانت بشيرة بن مراد تتابع نشاطهم دون معرفتهم شخصيًّا.
وقد زَكَّتْ هذه القيادات التونسية الشابة المشروع كما ساعدت في تأسيسه وكانت سندا هامًّا لبشيرة بن مراد واتحادها النّسائي. ونذكر من بين هؤلاء فرحات حشّاد الذي كان مع النوري البودالي يُساعدان في الطباعة عند الحاجة كما كانت والدة فرحات حشّاد وزوجته تحضران الإجتماعات التي كانت تُقيمها بشيرة بن مراد للمرأة ببيتهم بتُربة الباي. هذه الإجتماعات التّي أقلقت السُّلط وجعلتها تتدخّل لغلق المكان وتشميعه لمنع الإجتماعات. ولكنّ كل ذلك لم يجعل النساء يتوقّفن عن النّشاط بما أنهنّ ظللن يلتقين في بيوت البعض منهنّ كنجيبة بن مراد شقيقة بشيرة وبدرة بن مصطفى وتوحيدة بن الشيخ إيمانا منهن بأهميّة نشاطهنّ (ليليا العبيدي، «جذور الحركة النسائية بتونس»، مطبعة تونس قرطاج، 1987، 80 صفحة).
ووسّعت هذه الجمعية عملها بإقامة حفلات خيرية تُجمع فيها المساعدات لطلبة شمال إفريقيا من أبناء المغرب العربي الذين كانوا يزاولون دراستهم بفرنسا وكانت مناسبة للاحتفاء بالناجحين منهم كالحفل الذي أُقيم على شرف توحيدة بالشيخ والذي ألقت خلاله بشيرة بن مراد خطابا بقي شهيرًا عبّرت فيه عن فخر تونس بتوحيدة بالشيخ كأول إمرأة طبيبة في تونس والمغرب العربي مذكّرةً بأهمية تعليم المرأة لبناء أسرة ومجتمع سليم ومستنير.
وكانت بشيرة بن مراد ورفيقاتها فاعلات في الشأن السياسيّ والنضاليّ الوطنيّ والعالميّ إذ شاركت الحركة في أحداث 9 أفريل 1938 بتونس وبين 1947 و 1948 ساهمت في إعانة الشعب الفلسطيني بإرسال مساعدات.
وشجّعت بشيرة بن مراد على بعث فروع لجمعيّتها النسائيّة كفرع بنات المدارس وفرع الكشاّفة، كما أحدثت فروعَا للجمعيّة في عدّة جهات وولايات تونسيّة كفروع الكاف والقيروان ونابل وسوسة وتطاوين، وفروع ضواحي العاصمة كفروع المرسى ورادس وحمّام الأنف حيث زار الزعيم الحبيب بورقيبة أوّل مرّة الإتحاد : الحبيب بورقيبة الذي كان يُتابع ويُشجّع نشاطها والإتحاد حتى وهو بفرنسا بإرسال رسائل مساندة وحضور زوجته مفيدة في الإحتفالات التي يُنظّمها الإتحاد.
وإنّ نضال بشيرة بن مراد من أجل وطنها والمرأة لم يتوقّف بحصول تونس على الإستقلال في 1956 فبشيرة بن مراد كرّست حياتها وكلّ جهودها للدّفاع عن تصوّرها لما يجب أن تكون عليه المرأة من وعي ومعرفة وعلم لتُمثل سندا لوطنها وذويها وتساعد في بناء نفسها وأسرتها ومجتمعها ووطنها على الوجه المثاليّ المنشود.
ورغم محدوديّة علاقة بشيرة بن مراد بالخارج فقد كان لعملها من أجل المرأة صدًى مكّن من التعريف بنضالها و دعوتها في الستينات كأحد المؤسّسين للحركة النسائية في العالم لكُوبنهاق ثمّ لبولونيا ورومانيا، وهي سفرات عبّرت إثرها بشيرة بن مراد عن حجم إيمانها بقدرات المرأة وتقديرها لِمَا حقّقته عالميّا على جميع الأصعدة، خاصة المهنيّة منها.
ونجد اليوم صورة أيقونة تونس بشيرة بن مراد على طابع بريدي، كما أُحدثت منذ سنة 2019 جائزة بشيرة بن مراد للصحافة الحرّة ليخلّد بعض من نضالها في سبيل عزّة وطنها تونس وهي التي نادت في خطابها الشهير سنة 1955 بضرورة تمكين المرأة التونسيّة من نفس الحقوق التي يتمتّع بها أخوها المواطن الرّجل لأنّ القانون الانتخابي في انتخابات المجلس القومي التأسيسي عام 1955 كان يحرم المرأة من حق التصويت.
هند السّوداني
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية