عرفت شريفة الدّالي السّعداوي بنضالها السّياسي والاجتماعي والنّسوي فهي من أبرز رائدات الحركة النّسوية في تونس، مند انخراطها في "اتحاد فتيات تونس" التابع للحزب الشيوعي التونسي ثمّ في "اتحاد نساء تونس" المتفرّع عن نفس الحزب، الذّي "تحمّلت فيه مسؤوليات قيادية" (شهادة شفوية للناشط السياسي والنقابي الأستاذ جنيدي عبد الجواد) كما ساهمت في النشاطات الاجتماعية للاتّحاد القوميّ النّسائيّ التونسيّ برئاسة راضية الحداد. ولئنْ مثّل الدفاع عن حرّية تونس واستقلالها وتخليص المرأة من براثن الجهل والفقر، المبدأ التوجيهي لالتزامها النّضالي أثناء حقبة الاستعمار الفرنسي، فإنّ النهوض بالمرأة كان هاجسها الأساسي بعد الاستقلال.
وقد ارتبط مسار شريفة الدّالي النّضالي ارتباطا وثيقا بالتزام زوجها ورفيق دربها حسن السّعداوي، أحد روّاد الحركة العمالية والشيوعيّة في تونس.
ولدت شريفة الدّالي السّعداوي في 9 نوفمبر سنة 1929 بتونس العاصمة. كان والدها، محمد الدالي الذي ينتمي الى القلّة المتعلّمة في ذلك الوقت، مؤدِّبا للأطفال في كتّاب ومناضلا نقابيا وناشطا في الحزب الشيوعي التّونسي. ولكن بالرغم من أفكاره التقدمية والتزامه الشيوعيّ، إلا أنّه لم يتصدّر لـمُعارضة رفض شقيقه الأكبر إرسال شريفة إلى المدرسة، فاضطر إلى سحب ابنته من مدرسة نهج الباشا الابتدائية بعد أن سجلها وألحقها بها. فحُرمت من التعليم في سنّ مبكّرة.
تضافرت عدّة عوامل لتجعل من شريفة الدّالي ناشطة سياسية وجمعياتيّة، أوّلها نشوؤها وتربيتها في بيت سياسيّ، كان له تأثير في انخراطها المبكر في النضال : "من هنا كانت بداية الوعي بجسامة النشاط السّياسي وصعوبته إذ كانت تشهد هي وإخوتها نشاط والدها السرّي " وثانيها زواجها في 5 جانفي 1945، وهي في الرّابعة عشرة من عمرها، من صديق والدها، المناضل الشيوعي والنقابي حسن السعداوي، الذي جعل منها "ناشطة نقابية وسياسية في وقت قياسي". فلقد شجّع حسن السعداوي زوجته على اكتساب المعرفة وحرص على تعليمها فأوكل إلى مؤدّب تدريسها العربية، واستقدم مدرّسة فرنسيّة أوكل لها مهمة تعليمها اللغة الفرنسية، لاعتقاده الراسخ بأن المرأة " يحميها العلم ولا يصونها الجهل.
ولقد مثّل انضمامها في سنّ مبكرّة إلى اتّحاد الفتيات التابع للحزب الشيوعي التونسي خطوة حاسمة في تدريبها على العمل الجمعياتي والميداني، وبالفعل فقد كان يوكل إليها خلال فترة التدريب توزيع المناشير ودعوة النّساء إلى اللّقاءات التوعوية التي كان ينظمها الاتحاد.
كما مكّنها التحاقها بمدرسة تكوين الإطارات النسائيّة في الحزب الشيوعيّ من صقل تكوينها السّياسيّ، الذي بدأ مبكّرا مع والدها ثم زوجها المناضلين الشيوعيين، مثلما مكّنها من تطوير قدراتها الشخصية أيضا. وكان ترتيبها الأولى من مجموع المتخرجات من تلك المدرسة.
بعد تخرّجها انخرطت شريفة الدّالي، سنة 1947 صلب العمل في اتّحاد نساء تونس المتفرّع عن الحزب الشيوعي و"تقلدت فيه مسؤوليّات قياديّة مع نبيهة بن ميلاد وڤـلاديس عدّة، ومكنتها صُحبة المناضلة وسيلة جاب الله من التغلغل في الأوساط النسائيّة الشعبيّة" (شهادة شفوية للناشط السّياسيّ والنقابيّ الأستاذ جنيدي عبد الجواد) إذ كانت شريفة ورفيقاتها يعتمدن في عملهنّ على الاتّصال المباشر بالنّساء في بيوتهن لإقناعهن بدورهنّ الفعّال في المجتمع وبضرورة تغيير واقعهن بالتعلّم والانخراط في العمل النضالي، مُساهمة من موقعهنّ في مواجهة الجهل والأميّة والتوعية بالمسألة الوطنية في ظلّ الاستعمار. ولقد كانت “ڤلاديس عدّة” تقول لهنّ في هذا المجال “يستمرّ الاستعمار مادام هناك جهل”.
وفي سنة 1950 أصبحت عضوة في اللّجنة المركزيّة للحزب الشيوعي التونسي. وهكذا، حصلت شريفة الدّالي السعداوي بفضل زوجها على تعليم بالمنزل ثنائيّ اللّغة، وأصبحت بعد ذلك إلى جانبه بفضل تأثيره ناشطة تقدميّة في وقت كان الرجال يعتبرون المرأة مواطنة من الدرجة الثانية، لا حقّ لها في التّعليم.
وشاركت بصفتها نائبة رئيسة اتّحاد النّساء الشيوعيات، رفقة مناضلات أخريات من هذه المنظّمة في العديد من المؤتمرات العالمية مثل المؤتمر العالمي للمرأة الذي نظّمته الفيدرالية الديمقراطيّة الدوليّة للمرأة سنة 1951 في برلين الشرقية (جمهورية ألمانيا الديمقراطية) حيث حرصت بهذه المناسبة وبنصيحة من زوجها على ارتداء الزّي التّقليديّ التّونسيّ لجذب انتباه الصحافة العالميّة من خلالها إلى تونس وإلى القضيّة الوطنيّة والوضع المزري الذي كانت تعيشه المرأة التونسية تحت الاستعمار الفرنسيّ. ولقد ألقت في هذا المؤتمر خطابا عارضة فيه التأثير الكارثيّ للاستعمار في وضع المرأة التونسية وفي أسرتها وفي مجتمعها ومعرِّفَةً بحالة الفقر والأميّة التي تعاني منها.
واصلت شريفة الدّالي السّعداوي بعد الاستقلال العمل صلب الحزب الشّيوعيّ، رغم التضييقات وإلى جانب مسئولياتها العائلية، ورعايتها لأطفالها الثمانية، ونشاطها السّياسيّ والجمعياتّي، والتحقت ابتداء من ديسمبر 1962، بمستشفى شارل نيكول، للعمل كمكلّفة بتعقيم الأدوات الطبيّة ومساعدة القابلة وقد اختارت العمل ليلا بهدف تخصيص وقتها خلال النهار لاهتماماتها الأخرى.
وبعد حل ّالحزب الشّيوعيّ التّونسيّ سنة 1963 ودعوة شريفة السعداوي ورفاقها إلى وقف جميع الأنشطة السياسية والنقابية والجمعياتيّة المتّصلة بهذا الحزب، انقطعت شريفة عن النشاط لتنشغل بتأمين حياة كريمة لأطفالها خاصّة وقد وجدت نفسها تتحمّل مسؤوليتهم بمفردها بعد وفاة زوجها المسترابة "داخل أحد مراكز الشرطة بالعاصمة إثر إيقافه يوم 12 فيفري 1963 وذلك بعد حظر نشاط الحزب الشيوعي التّونسيّ، ومنع صحف المعارضة في جانفي من نفس السنة" (شهادة شفوية للناشط السياسي والنّقابي الأستاذ جنيدي عبد الجواد).
مكثت شريفة السعداوي في بيتها مهتمّة بأبنائها وبتوفير حاجياتهم إلى أن التقت صدفة، خلال اجتماع لأولياء التلاميذ سنة 1966 براضية الحداد رئيسة الاتّحاد القومي النّسائي التي عرضت عليها لاحقا الانضمام إلى الاتحاد. وانتهى الأمر بشريفة إلى قبول العرض، دون حقد أو ضغينة معتبرة العمل في هذه المنظّمة النّسائيّة عملا تطوعيا للصّالح العامّ وليس عملا يُرَاد به السلطة في حدّ ذاتها، وكانت تلك فرصة سانحة لوضع تجربتها النّضاليّة الثّرية في خدمة الاتّحاد القوميّ النّسائيّ التّونسيّ برئاسة راضية الحداد والمساهمة في أنشطته الاجتماعيّة لتصبح فيما بعد رئيسة لأحد فروعه بعد أن بدأت مسيرتها فيه كمتطوّعة.
وقد انبعثَ الفرع في فترة رئاستها له مركزا للتّكوين المهني للفتيات لتعليمهنّ مهنة الخياطة وصنع الحلويات بهدف مساعدتهنّ على تحقيق استقلالهنّ الاقتصادي، وأشرفت شريفة على المركز بنفسها حتّى تاريخ نقله إلى حيّ الزهور1-2. كما ساهمت في بعث روضة للأطفال بالحفصية.
وبعد إقصاء راضية الحداد من الاتّحاد القوميّ النّسائيّ التّونسيّ، وجدت شريفة نفسها غير مرحّب بها فغادرته سنة 1972 ولكنّها ظلّت طوال حياتها وفيّة للقيم التي ناضلت من أجلها، وكذلك وفيّة لذكرى زوجها وحاملة لذكراه إلى حدّ نسيان نضالها هي وتضحياتها. ويقول الدكتور محمد الغّزي في هذا الصدد "شريفة هي المرأة التي أسهمت دون ضجيج في تحرير الوطن، وكابدت في صمت معاناة النضال، وآثرت أن تحّدث الناس عن تجربة زوجها غير عابئة بتجربتها، فلقد اختارت أن تتوارى لكي يبرز زوجها، وتصمت لكي يتكلم، وتبقى في الظّل لكي يكون أيقونة من أيقونات الحركة الوطنّية التونسّية، ففي سيرتها شيء من سيرة هذا الوطن، وشيء من سيرة نسائه، على وجه الخصوص".
وهكذا كانت "حياة المناضلة شريفة الدّالي السّعداوي زاخرة بالنّضالات والتضحيّات طيلة أكثر من سبعة عقود. فقد كرّست حياتها دون هوادة لنصرة القضايا العادلة عامّة ومن أجل تحرير تونس من الهيمنة الاستعمارية ولكي ينعم شعبها بالحريّة والديمقراطيّة والكرامة الإنسانيّة وبالمساواة الكاملة بين النّساء والرجال في الحقوق والواجبات" (شهادة شفوية للناشط السياسي والنقابي الأستاذ جنيدي عبد الجواد).
توفّيت شريفة السّعداوي في 24 فيفري 2024 بتونس العاصمة، وبوفاتها "تطوى صفحة مشرقة من تاريخ الحركة العمّاليّة والتقدميّة والنّسويّة في تونس" (شهادة شفوية للناشط السياسي والنقابي الأستاذ جنيدي عبد الجواد). ولكن ستبقى ذكراها حيّة لدى رفاقها وأهلها على غرار الناشط السياسي الأستاذ حبيب قزدغلي الذي قال في شهادة شفوية "سوف لن ننساك ولن ننسى نضالك وتضحياتك، وسيحتفظ تاريخ تونس السياسي والاجتماعي بذكراك كمناضلة نسويّة وسياسيّة"، وصرّحت كذلك ابنتها تونس السّعداوي بما يلي "ستبقين أمي في ذاكرتي وذاكرة من أحببتهم وأحبوك المرأة المتوقدة والخالدة بحبّ تونس، وستظل تونس وأنا ابنتك تونس أوفياء لطيّب ذكراك ولجليل إخلاصك".
بيبليوغرافيا:
1- أسامة الراعي : شريفة الدالي السعداوي مناضلة نسوية تونسية، جريدة الحدث + الالكترونية، 9 نوفمبر 2022: https://alhadathplus.tn/?p=29042
2 - برنامج قهوة عربي مع شريفة الدالي السعداوي على التلفزة الوطنية 1 في 14 فيفري 2021 http://www.watania1.tn
3 – سعدية بن سالم: بحلوها ... ومّرها: ذاكرة امرأة من باب الأقواس (في سيرة المناضلة شريفة الدّالي السّعداوي(، تونس، دار الشنفري، سلسلة "سيرة ذاتية" ، 92 ص.
أم كلثوم بن حسين
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية