ولدت المناضلة شريفة بنت محمد بن علي فيّاش وابنة زينة بنت الطّيب بن محمّد بوسعدة، سنة 1906 بالمطويّة من ولاية قابس بالجنوب التّونسي .يرتكز نشاط أهل المطوية أساسا على التّجارة والفلاحة واستغلال المياه الموجودة في العين. وقد كان الكثير من أهل المطويّة يهاجرون إلى تونس العاصمة بحثا عن توفير الرّزق لعائلاتهم و استقر البعض منهم في أحياء طرنجة وباب الخضراء والمرجانية ونهج الرّمانة وسوقي بالخير ورأس الطاّبية كما استقر البعض في الشّمال كجندوبة والدّهماني.
نشأت شريفة في عائلة تتألف من ستّة أطفال ذكور وستّ إناث، في جو تسوده المحبّة والتّفاهم. وكبنات جيلها ومنطقتها تعلّمت شؤون البيت والحياكة والصّناعات اليدوية. وكانت تقوم بجلب الماء الصالح للشراب من العين مع بنات ونساء المنطقة» (المؤرّخ محمد المرزوقي في كتابه (قابس جنّة الدنيا) ذكر أن ا»لعين بالمطوية «كانت ممرا للقوافل التجارية المتنقلة بين» قابس والقيروان» وكانت المطوية تسقى من عين تقع في الجهة الغربية للقرية تعرف حاليا ب العين القديمة بجانب الطريق الرابطة بين «قابس وقفصة «وهي المصدر الأساسي لمياه الشّرب وهناك تتجمّع النّساء للغسيل والاغتسال وتبادل الأخبار حول ما يحدث في القرية. وعلى اثر تجفيف عين الرقايقه خرجت نساء المطوية في أول مظاهرة نسائية احتجاجا على تجفيف العين وعدم صيانتها ونشرت إذاعة هنا لندن العالمية أخبار تلك المظاهرة .)
حفظت شريفة بعض السّور من القرآن الكريم والواجبات الدينية. وعندما بلغت سنتها الثّامنة عشرة، تقدم لخطبتها قريبها «مفتاح بن الأخضر» ورحب به والدها. تزوجت حسب العادة والعرف وأ قامت في بيت آل زوجها مع أسرته وأنجبت منه أبناء. في أواخر سنة 1930، قرّرت شريفة وزوجها الانتقال إلى العاصمة لتأمين رزق أسرتهما. تأثر الأهل بهذا القرار لكن لم يسعْهم أن يفعلوا سوى أن يدعوا لهما بالنجاح في هذه المغامرة الجديدة خاصة وأن العديد من العائلات في المطوية مرّت بنفس المصير وارتحت إلى العاصمة بحثا عن لقمة العيش فتوفق بعضهم في تحسين ظروفه المعيشية بفتح محلات تجارية والبعض الأخر في العمل في المواني البحرية التّجارية كحلق الوادي مما مكنهم من إرسال مبالغ من المال لمساعدة أهاليهم في المطوية .
تحولت «شريفة» وعائلتها إلى «تونس العاصمة» واستأجروا مسكنا متواضعا في أحد الأحياء الشعبيبة حيث تُقيم بعضُ العائلات المهاجرة من المطوية. وبعد بحث مضنٍ تحصل زوجها على شغل وبدأت العائلة تشعر بشيء من الاستقرار . إلا أنّ شريفة، ذات الحس المرهف، شعرت بمعاناة المواطنين من الفقر والجهل ومن ظلم المستعمر المهيمن على خيرات البلاد في كل جهة سواء في المطوية أو في تونس العاصمة وتعرفت عن طريق زوجها على قادة الحزب الدّستوري وعلى مبادئه ودوره في مقاومة الاستعمار فانخرطت فيه دون تردد.
في سنة 1938 علمت شريفة بقرار حزبها بتنظيم مظاهرةٍ احتجاجًا على الوضع المأساوي الذي عليه الشعب التونسي وما يعانيه من ظلم الاستعمار فتحمّست للموضوع وعبرّت لزوجها عن رغبتها في المشاركة في المظاهرة ولاقت رغبة شريفة تجاوبا واستحسانا لدى زوجها الذي ساندها بقوة وتوجه على الفور لإبلاغ قادة «الحزب الحر الدستوري «الذين رحبوا بمبادرة «شريفة» باعتبارها سابقة خير لأول مرة تشارك المرأة في مظاهر ة كبرى مع الرجال. تقررت المظاهرة يومي 8 و 9 أفريل سنة 1938 خرجت النّساء مع الرّجال للشارع يتظاهرن ضد الاستعمار الفرنسي وكان خطاب الزعيم علي البلهوان أكبر مشجع لكل المتظاهرين في ساحة الحلفاوين وساندت مظاهرة أخرى من رحبة الغنم يقودها الزعيم المنجي سليم. خرجت المظاهرة في جمع غفير ومرت بوسط العاصمة ومن أمام مبنى السفارة وأطلق الرّجال والنّساء شعارات تنادي بالحرية وبسقوط الاستعمار وبـ «برلمان تونسي» وتقول شريفة فياّش كان البعض لا يعرف ما معنى «البرلمان» نحن في قمة الحماس وإذا بالقوات الفرنسية المدججة بالسلاح تداهمنا بالضرب وبالرّصاص الحي واستشهد العشرات من المتظاهرين وسالت الدماء سواقي تغطي الأرض وكانت مواجهات عنيفة دامية ونحن عزل.
سقطت مجموعة من الشهداء. وتواصلت الهتافات بحياة تونس وسقوط الاستعمار وتأثرتُ .. ،وجدت نفسي أمام جرحى وشهداء ودماء تغطي الأرض... لا مجال للبكاء وبوازع ديني ووطني جمّعتُ كل قوتي وعملت مع الرجال على إنقاذ الأحياء وإسعافهم وفصلهم عن الشهداء. والإسراع بإسعاف الجرحى وقام البعض بحمل الشهداء على الأيادي وفي عربات مجرورة وغيرها كان يوما خالدا لا يمحي قمنا بإحصاء الجرحى والشهداء زادني هذا اليوم إيمانا وحماسا بمقاومة الاستعمار....». واصلت شريفة النّضال مع قادة وزعماء الحزب واتحّاد الشّغل وبعض النّساء الدّستوريات وكُلِّفَت بترويج بطاقات الانخراط في الحزب وتوزيع المناشير وجمع التبّرعات والحضور في الاجتماعات وتنشيط المظاهرات رغم ما كان يمثّله ذلك من مخاطر في تلك الفترة.
كانت سنة 1952 سنة المواجهة والقمع وبعد فشل المفاوضات وبداية «الكفاح التحريري المسلح». تمّ اعتقال الزعماء ونفي وسجن الكثير من المناضلين. سقط العديد من الشهداء في عدة جهات ويوم 15 فيفري انتظمت مظاهرة كبرى تم فيها تفجير القنابل اليدويّة من المتظاهرين وقد سقط البعض من قوات الأمن الفرنسي وتمّ اعتقال الكثير من النساء وتعرضت شريفة فيّاش إلى رصاصة اخترقت خدها الأيمن وتسبّبت في كسر أسنانها. تمّت معالجتها في البداية في مستشفى «عزيزة عثمانة» حيث تعرّضت للتحقيق. فلم تدل بأي سرّ وتمّ تهريبها من المستشفى وتواصل علاجها خارجه من طرف الدكتور الوطني «محمد ساسي (ساسي محمد ولد سنة 1912 بقابس وزاول تعلّمه في ظروف صعبة. وبعد نيله شهادة الباكلوريا توجّه إلى فرنسا لدراسة الطب بجامعة (مونبيلي Montpellier) وعاد طبيبا سنة 1940. وفي تونس العاصمة فتح عيادة بنهج الحلفاوين وكان كل يوم جمعة يقوم بفحص المرضى الفقراء مجانا.
وفي فترة «الكفاح التحريري» قام بعلاج المناضلين والمقاومين مجانا منهم المناضلة شريفة فيّاش. فكان مصيره الإبعاد إلى محتشد تطاوين من طرف «السلطات الفرنسية» : عن الطبيب التونسي لمحمد علي بلحولة ص 296 و 297) .
وقد ذكرت المناضلة أسماء الرّباعي بالخوجة في كتاب «منارات الفجر» لسيّدة الدوّ القايد أنّها: كنت سجينة سنة 1952 وعرفت في السجن شادلية بوزقرو وشريفة فياش من المطوية. وخديجة الطبال وآسية غلاب وعدة نساء من المطوية شاركن في الحركة التحريرية المسلحة. أمثال أم السعد بن يحيى و العربية بن المختار وزهرة الحسومي وشريفة فيّاش.
وفي سنة 1952 بعد فشل المفاوضات مع فرنسا وإعلان الزعيم الحبيب بورقيبة الكفاح التحريري في كامل الجهات ودعا المواطنين إلى تنظيم المظاهرات والمقاومة وأوفد مجموعة من النساء الدستوريات إلى بعض الجهات لتحسيس المواطنين بتكثيف المظاهرات ورفع الشعارات المنادية بالاستقلال والتنديد بمواقف الاستعمار. وتذكر شريفة فيّاش أن 13 مناضلة تجندن للتحول خفية إلى مختلف الجهات للاتصال برجال الحزب ونسائه للخروج إلى الشّارع في مظاهرات. وقبل انطلاق المظاهرة في جهة معينة يغادرنها إلى جهة أخرى دون أن يكتشف رجال الأمن دورهن. ومن بين الجهات التي زارتها المناضلات المذكورات «مدينة باجة» ، وكانت (السّيدة زبيدة بدّة) رئيسة الشّعبة الدّستورية فيها. استقبلتهن بكل ترحاب كمُوفَدات من الزّعيم الحبيب بورقيبة، وتمّ بينهن اجتماع سرّي بإحدى زوايا المدينة لضبط برنامج المظاهرة والاتصال بالمواطنين ثم نظمن مظاهرة قادتها «زبيدة بدّة» وخطبت السيدة شادلية بوزقرو في الجماهير خطابا حماسيا رافعة شعارات نضالية . واصلت المظاهرة طريقها في الوقت الذي غادرت فيه مجموعة السيدات الثلاث عشرة مدينة باجة بسرعة متّجهن إلى جهات أخرى. إلا أن قوّات الأمن والجندرمة تمكنت من ملاحقتهنّ وألقت القبض عليهنّ ومن بينهنّ شريفة فيّاش وشاذلية بوزقرو ووسيلة بن عماّر وأم السّعد بن يحيى وخديجة الطّبال و... تم اعتقالهن وإرجاعهن إلى باجة حيث تم التحقيق معهن ثم أودعن السجن. وقد ذكرت السيدة زبيدة بدّة أنّ المواطنين تظاهروا أمام مركز الجندرمة والسّجن للاحتجاج على اعتقال السيدات السجينات وطالبوا بإطلاق سراحهن. وفي سنة 1954 وقع اعتقال المناضلة شريفة فياش ورفيقتها المناضلة بختة الدّهان لأيام ثم أُطلق سراحهما.
في سنة 1955 شاركت المناضلة شريفة فيّاش في الاحتفال بقدوم الزعيم الحبيب بورقيبة يوم غرة جوان ثمّ وقعت خلافات بين الزّعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف حول الاستقلال وبنوده وانتظم مؤتمر الحزب بصفاقس سنة 1955 لحسم الخلاف بينهما بحضور ممثلي الحزب في كل الجهات ومن بينهم شريفة فياّش حضرت كنائبة ووقفت مع الزّعيم بورقيبة وساندت موقفه من الاستقلال الداخلي باعتباره خطوة إلى الأمام.
وفي سنة 1956 اقترح بورقيبة تكوين اتحاد نسائي يجمع كل النساء خاصة في المناطق الشعبية ترأسته عائشة بلاّغة والكاتبة العامة أسماء بالخوجة وأمينة المال سعيدة ساسي وكانت شريفة فيّاش وخديجة الطبال من بين الأخوات في الهيئة التأسيسية وأسست فرعا في المطوية وفي سنة 1958 انتخبت المناضلة شريفة فياش عضوًا في الهيئة المركزية والمكتب التنفيذي للاتحاد.
وفي سنة 1960 عادت شريفة فيّاش إلى مسقط رأسها بالمطوية وكانت محلّ تقدير على كلّ المستويات. وفي سنة 1961 عُيِّنت أولُ نائبةٍ جهوية للإتحاد القومي النّسائي التّونسي بولاية قابس وركّزت فيها عدة فروع،كما أسست فروعا مماثلة في كلّ من قبلي ودوز الغربية والشّرقية وعدّة فروع بالحامة وغنّوش لنشر الوعي لدى النّساء وتبليغ أهداف المنظّمة النّسائية في تلك الرّبوع وتطبيق ما جاء في مجلة الأحوال الشخصية. كما بعثت فرقا للشبيبة النّسائية وعملت على تكوين فروع بولايات قفصة وتطاوين وتشجيع الفتيات على مواصلة التعليم الثّانوي والعالي في كل الاختصاصات والتكوين المهني ورعاية الأطفال والمحافظة على الصّحة. واستقطبت شريفة فيّاش منذ الاستقلال، العديدَ من الكفاءات النسائية وحثَّتهنَّ على الانضمام إلى المنظمة النّسائية ورعتهنّ بكل حبّ وتقدير. ومن السيدات اللاتي تحملن المسؤولية كنائبات جهويات في المنظمة»نعيمة التويتي« سنة 1966 وتداولت على المسؤولية عدة نساء منهن الأستاذة شاذلية بوخشينة من قابس التي تحملت العديد من المسؤوليات السياسية والإدارية. وقد حظيت المناضلة شريفة فيّاش بوسام الاستقلال وبتقدير من الزعيم الحبيب بورقيبة الذي مكّنها من بطاقة دخول إلى قصر قرطاج، (Laissez-passer) دون تحفظ. وقد أُرسِلت على نفقة الدّولة للقيام بمناسك الحج عدّةَ مراتٍ. ووقع تكريمها في عدّة مناسبات من طرف الحزب الحرّ الدّستوري ومن جمعية مهرجان «العين بالمطوية» ومن بلديتها. وحظيت بوسام الاستحقاق للمرأة المناضلة من الإتحاد الوطني للمرأة التونسية. كما وقع تعيينها من طرف المنظمة النسائية عضواً دائماً بالمنظمة مكلّفة بشؤون المناضلات ومكّنتها الدّولة من جراية عمرية.
توفيت المناضلة شريفة فياّش يوم 25 أوت 1994 بتونس العاصمة ودفنت «بمقبرة الزلاج» وقد أبّنها قادة التجمّع الدستوري الديمقراطي والاتحاد الوطني للمرأة. كما حضر جنازتها عدد من أفراد عائلتها ومن المسؤولين بالمطوية. وأرسل الرئيس زين العابدين بن علي برقية تعزية إلى عائلة المناضلة شريفة فياّش، كما نعتها المؤلفة في إذاعة صفاقس وفي مجلة المرأة. وقد تمّ إحداث نهج باسم شريفة فيّاش في المطوية باقتراح من مركز البحوث والدّراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة (الكريديف) والإتحاد الوطني للمرأة وبلدية المطوية والمناضلين.
السيّدة الدّو القايد
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية