درّة بوزيد هي صحافيّة من أوائل الصحافيّات التّونسيّات ورائدة الصحافة النّسائيّة في تونس ومؤسسة أوّل صحيفة نسوية عربية-إفريقية، وناشطة نسويّة ملتزمة كرّست مسيرتها الإعلامية الاستثنائية للدفاع عن حرية المرأة واستقلاليتها ولتعزيز دورها في المجتمع. وهي شاهدة وفاعلة خلال فترة الانتقال، من الاستعمار إلى الاستقلال، حيث أسهمت بشكل كبير في النشاط الإعلامي من أجل تحرير الوطن وتحرير المرأة والفكر والثقافة وبناء تونس الجديدة. وهي ثالث صيدلانيّة تونسيّة بعد إيفات حدّاد وجليلة رباعي، وأولى صيدلانيّة متخصّصة في علم الأمصال (Sérologie)، وهي كذلك ناقدة فنيّة وشخصية بارزة في المشهد الثقافي التونسي ذات تنوع مذهل في المواهب والمهارات مع ديناميكية لا تعرف الكلل وشغف دائم بكل ما تفعله.
ولدت درّة بوزيد في 10 مارس سنة 1933 بمدينة صفاقس من أب مثقف وفنان وناشر مشهور هو حامد بوزيد وأم من أولى المعلمات التّونسيّات هي شريفة ملياني. لم تعرف والدها إذ توّفي عندما كان عمرها سنة واحدة. وبعد وفاته تزوجت والدتها من الكاتب الكبير والمناضل الوطني والنقابي محمود المسعدي الذي أصبح الأب الروحي لدرة ولأختها معوّضا بذلك غياب والدهما، فترعرعتا على يده في جوّ منفتح ومتسامح. ولقد حرص مع والدتهما على تعليمهما مبادئ الإنسانيّة والعطاء والنّزاهة والحفاظ على الهويّة والنّضال ضدّ المحتل.
زاولت درّة بوزيد تعليمها الابتدائي بالمدرسة الفرنسية للبنات بتونس العاصمة والثانوي بمعهد أرماند فاليير (Armand- Fallières) المجاور لمدرسة البنات الابتدائية والذي يعرف اليوم بمعهد نهج روسيا. وبعد إنهاء دراستها الثّانوية في أواخر الأربعينيات، أرادت مواصلة تعليمها العالي في مجال الفنون فالتحقت بمدرسة الفنون الجميلة بتونس إلاّ أنّ والديها أصرّا على أن تكون لها "وظيفة حقيقية" تمكّنها من كسب رزقها وتسمح لها بالاكتفاء الذّاتي والاستقلال الاقتصادي، ولهذا أجبرتها أمّها على التحاق بكليّة الصيدلة في باريس سنة 1951، بعد أن كانت تتوق لأن تصبح عازفة بيانو وراقصة بالي ومغنية ورسامة.
وبما أنّها كانت مشبّعة بالأفكار الوطنيّة والنقابيّة لوالديها القياديين في الاتّحاد العام التّونسيّ للشّغل منذ سنّ مبكرة، فقد انضمت حال تواجدها في باريس، إلى الاتّحاد العام السّري لطلبة تونس (UGET) فكانت الفتاة الأولى والوحيدة العضوة في مكتبه آنذاك، وأسّست بمعيّة رفاقها الجريدة النضالية "الطالب التونسي" (L'Etudiant Tunisien) وقد ناضلت ضدّ المستعمر من خلال مقالاتها، ونادت بقوة بضرورة حقوق المرأة والحرية، كما انضمت إلى جمعيّة الطلاب المسلمين في شمال أفريقيا (AEMNA) وشاركت بفعاليّة في نشاط هذه الجمعية. وهكذا بفضل تأثير والديها انخرطت في النضال منذ كانت طالبة.
وفي سنة 1955 اكتشفها البشير بن يحمد، مؤسّس الجريدة الأسبوعية النّاطقة بالفرنسية " أفريك- أكسيون" (Afrique- Action) في الاتّحاد العام لطلبة تونس بباريس أين كانت تعنى مع رفاقها بجريدة "الطالب التونسي". وكان بن يحمد قد أحدث عمودا نسويا أسبوعيا بعنوان "ليلى تخاطبكم" ولكنه لم يجد امرأة صحافية للقيام بمهمّة التحرير، فاقترح على درّة أن تكون "ليلى" وتقوم بكتابة العمود النّسويّ تحت اسم مستعار للاحتماء من القوى الرّجعيّة. ولقد أصبح هذا العمود فيما بعد صفحة كاملة بعنوان "العمل النسائي" وقسما مشهورا في الجريدة يهتمّ بمكانة المرأة في المجتمع وبالنّضال النّسويّ وحقّ التصويت، وكذلك العلاقة بين النسويّة والدين تنشر فيه درّة مقالات شديدة اللّهجة تطالب فيها بمنح المرأة حقوقها الكاملة، وتصبح بذلك الصوت النسائي القوي الذي يركّز على أهمية النّضال النّسويّ ويقود في فجر الاستقلال، أوّل معركة إعلامية نسويّة ووطنية في جريدة " أفريك- أكسيون" (Afrique- Action) التي أصبحت فيما بعد "Jeune Afrique". وهكذا ابتدأت درة بوزيد مشوارها في الصحافة وهي ما زالت طالبة بصدد اجتياز آخر امتحاناتها في الصيدلة.
ومنذ ذلك الوقت واصلت درّة دون كلل الالتزام بالكتابة والنشر لصالح تحرير المرأة التونسيّة والعربيّة.
وإثر تخرّجها من كليّة الصيدلة بباريس في سنة 1956 تخصّصت في علم الأمصال وتحصّلت في جوان 1957 على شهادة في هذا الاختصاص من الكليّة نفسها.
وكانت ترغب إثر الاستقلال باعتبارها مناضلة وطنيّة في الرّجوع إلى الوطن لتساهم في العمل لبناء تونس المستقلة والحديثة. وهذا ما قامت به بالفعل بعد إنهاء دراستها في الصيدلة، فعادت إلى تونس حيث تمّ انتدابها في مستشفى الحبيب ثامر سنة 1957 لتخلف الصيدلانية الفرنسيّة التّي كانت تعمل هناك وتقوم بإدارة الصيدلية، وتصبح بذلك ثاني صيدلانيّة تونسيّة مسلمة. وبالإضافة إلى مسؤوليتها في الصيدلية، أنشأت مخبر تحاليل بيولوجية في هذا المستشفى وذلك بفضل دبلومها في علم الأمصال.
عملت درّة بوزيد ثلاث سنوات بمستشفى الحبيب ثامر، ثمّ قررت الانتقال إلى القطاع الخاصّ على الرغم من عملها أيضا كصيدلانية بيولوجية. لذلك اشترت صيدلية في شارع إسبانيا سنة 1960، ولكن بالتوازي مع عملها بالقطاع الخاصّ واصلت التعاون مع مستشفى الحبيب ثامر واستمرت إلى غاية سنة 1970 في إدارة صيدلية ومخبر المستشفى من خلال اتفاقية عمل كمتعاونة.
وقد واصلت إلى جانب عملها كصيدلانية، نشاطها الصحفي بجريدة " أفريك- أكسيون "، متبنية الفكر البورقيبي فيما يخص حقوق المرأة ومدافعة عن مجلة الأحوال الشخصيّة بشجاعة وجرأة ملحوظتين.
وإلى جانب عمود "ليلى تخاطبكم" الذي استمر حتى سنة 1961، أسّست مع صفية فرحات، في سنة 1959، أوّل مجلة نسائيّة عربيّة إفريقية ناطقة بالفرنسية تحت عنوان "فايزة" وتولت رئاسة تحريرها. وللقيام بمهمتها في أحسن الظروف، قامت بانتداب فريق من المساعدين ثم سهرت على تكوينهم شيئا فشيئا. ولقد سلطت "فايزة"، التي تواصل صدورها إلى غاية سنة 1967، الضوء على مختلف القضايا الوطنية وخاصّة تلك المتصلة بتحرير المرأة والنهوض بها. ولقد أظهرت درة بوزيد قدرة كبيرة على تسيير مجلة "فايزة"، وكانت تمضي مقالاتها في هذه المجلة بأسماء مختلفة.
وخلال هذه الفترة حظيت درّة بوزيد "بدعم من الرئيس الحبيب بورقيبة شخصيا" الذي كانت تكنّ له إعجابا كبيرا -وحسب قولها- فإنّه كان يبادلها نفس الإعجاب. وبما أنها كانت الصحفيّة الوحيدة في ذلك الوقت، كان بورقيبة يدعوها بانتظام لاجتماعاته وحتى لمرافقته في بعض زيارته الرسمية إلى الخارج.
تعاونت بعد ذلك مع عدّة صحف تونسية كجريدة "لابرس" (La Presse) و"لوتان" (Le Temps) و"تونس هبدو" (Tunis Hebdo)، حيث كتبت أقسامًا نسوية وثقافية. وأخيراً وفي سنة 1998 ساهمت في تأسيس ملحق لمجلة "حقائق" (Réalités) الأسبوعية بعنوان "Femmes et Réalités" التي غادرتها في 2006. وفي المجمل فإنّ درّة بوزيد شاركت في تأسيس 9 وسائل إعلامية، بما في ذلك أوّل صحيفة نسائية ونسويّة عربيّة أفريقيّة. كما تعاملت، خلال مسيرتها الصحفية والإعلاميّة، مع العديد من الدوريات، فنشرت في أكثر من 35 جريدة ومجلّة تونسية وعربية ومغاربية وأوروبيّة ودوليّة باللّغات الثلاث، العربية والفرنسيّة والانجليزيّة. ولقد حظيت مقالاتها في هذه الصحف بتقدير كبير.
وبالإضافة إلى ذلك، أنتجت درّة، من 12 أفريل 1982 إلى 27 جوان 1983، برنامجا إذاعيا بإذاعة تونس الدّولية تحت عنوان "نقطة لقاء" (Point de rencontre).
وهكذا طوال حياتها المهنيّة، كان لدرّة بوزيد نشاط مزدوج، الصيدلة والصحافة، دون التخلّي عن أحدهما. إلاّ أنّها احتلت مكانة خاصّة في تاريخ الصحافة بصفتها أوّل امرأة تونسيّة كرّست حياتها للدفاع عن حريّة المرأة في البلاد وخاضت معركة جعلت منها رمزا للتّحرر، ومهّدت بذلك الطريق أمام النّساء اللاّتي اخترن فيما بعد هذه المهنة. ولقد "كان شارع إسبانيا، حيث كانت توجد صيدليتها مكانًا ضروريًا للمرور بالنسبة إلى الفنّانين والصحفيّين الذّين يأتون لتحيّة رائدة دائمة الالتزام" (شهادة شفوية للصحافي حاتم بوريال).
وإلى جانب نشاطها الصحفي كان لدرّة في المجال الثقافي، أنشطة فنيّة متعدّدة. فقد أنشأت في مهرجان قرطاج الدّولي "أمسية مدارس الرقص" الشّهيرة والتي كانت تنظمها كلّ سنة ولمدة 13 سنة، من 1976 إلى 1988. كما أصدرت في أكتوبر 1995 كتابًا فنيًا بعنوان: "مدرسة تونس" (Ecole de Tunis) والذّي يعتبر مرجعًا في الرسم التّونسي المعاصر.
كانت درّة بوزيد أيضا صحافية مناضلة وناشطة بارزة في المشهد الثّقافي إلى جانب امتهانها الصيدلة. ولم يمنعها ذلك من ممارسة الرقص والغناء والرسم والعزف على البيانو.
كان لدرّة بوزيد أيضا نشاط في العديد من الجمعيّات والنوادي والمنابر الفنية والإعلامية والنسائية من أبرزها "الاتّحاد القوميّ النّسائيّ" و"نادي الطاهر الحدّاد"، وأحرزت على عديد الجوائز والأوسمة وشهادات التقدير التونسيّة والأجنبيّة، كان آخرها وسام الاستحقاق الثقافي الفرنسي سنة 2010.
وفي مارس 2013 تمّ تخليد مسيرتها الاستثنائية في فيلم وثائقي من إخراج وليد الطايع بعنوان: "درّة بوزيد: نضال تونسيّة" (Dorra Bouzid: une Tunisienne, un combat) .
توفيّت درّة بوزيد في 24 سبتمبر 2023. وهي المرأة التونسيّة الشاهدة والفاعلة خلال الحقب المفصليّة التّي شهدت بناء تونس المستقلّة. ولقد كانت درّة بوزيد، وهي رائدة الصحافة والعلم والفنّ على جميع جبهات النضال الوطني والنسوي والثقافي. وقد نعتها الصحافة التونسيّة والأجنبيّة، وكذلك وزارة الشّؤون الثّقافية التّي تقدمت في بلاغ نعي بأحر التعازي إلى عائلتها والأسرة الإعلامية والثقافية.
"ولئن رحلت درّة بوزيد فإنّ كتاباتها في شتّى الأغراض وفي مقدّمتها قضيّة المرأة والأسرة والمجتمع التّونسي والعربي...، ستبقى حتما لعقود، بل لقرون أخرى".
بيبليوغرافيا:
1 - Dorra Bouzid : une tunisienne, un combat, um film documentaire de Walid Tayaa, 2012. https://artify.tn/player/5cc38b667bad0e3485837372/dorra-bouzid
5 - Moncef Zmerli : Dorra Bouzid, première officinale tunisienne, première femme journaliste en Tunisie, fondatrice de la presse féminine arabo-africaine. Essaydali, N°100, septembre 2006. Pages : 40 à 42.
6 – Le petit journal Tunis : HOMMAGE - Dorra Bouzid, une Tunisienne, un combat ; 29 septembre 2023. https://lepetitjournal.com/
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية