0 Loading ...

موسوعة النّساء التّونسيّات موسوعة النّساء التّونسيّات

علّيسة

مجالات النشاط
  • الحضارة والتاريخ

ليس أشهر وأكثر إيحاء في تاريخ البلاد التونسية من امرأة اسمها علّيسة، امرأة أسالت الكثير من حبر المؤرّخين والرّواة والشعراء القدماء منهم والمحدثين وأثارت العديد من التساؤلات ومن نقاط الاستفهام.

فالشائع أنهّا هي الّتي أسّست مدينة قرطاجة في سنة 814 قبل الميلاد كما نقرأ ذلك في كتب المؤرّخين القدماء. ولئن أثبتت البحوث الأثريّة اليوم فعلا مصداقيّة تاريخ تأسيس هذه المدينة (نهاية القرن التاسع ق.م.)، فإنّ المختصّين من المؤرّخين المحدثين لا يتوانون في وضع اسم مؤسِّستها، «علّيسة»، بين مُعقّفين، مشيرين بذلك إلى مسألة مصداقيّة تاريخيّة هذه السيّدة وتاريخيّة ملابسات تأسيسها للمدينة على الوصف الّذي بلغنا في كُتب القدماء وتآليفهم. فكلّ الّذين حدّثونا عنها كانوا من الإغريق واللاتينيّين المتأخّرين عن تاريخ التأسيس بما لا يقلّ عن خمسة قرون، إذ ليس لنا قطعا، إلى يومنا هذا، أيّ وثيقة قرطاجيّة مباشرة، نصّا كانت أو أثرا، تثبت علميّا تاريخيّتها.

أقدم ذكر لإسمها (علشة، Elishat, Elyssa) جاء على لسان المؤرّخ الإغريقي الصقلّي، تيمايوس الطّاوُرميني (Timaios de Tauroménion)، المعاصر لنهاية القرن الرابع والنصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد. يقول هذا المؤرخ :

«إنّها في لغة الفنيقيّين تُسمّى علّيسة، وهي أخت الملك بيجمليون، ملك مدينة-دولة صور، وهي الّتي أسّست مدينة قرطاجة في لوبيّا. وبما أنّ بيجمليون قد اغتال زوجها، فقد شحنت أمتعتها على متن سفينة وهربت من المدينة صحبة عدد من وُجهاء مواطنيها. وبعد مواجهتها للكثير من أهوال الرحلة، أرست أخيرا على الشاطئ اللّوبيّ فأطلق عليها السكّان المحليّون اسم ديدو (Deido, Dido, Didon) وذلك بسبب كثرة ترحالها. ولمّا أتمّت تأسيس مدينتها وبناءها، طلب ملك اللّوبيّين يدها للزواج فرفضت، لكنّ وُجهاء مواطنيها المرافقين لها ألحّوا عليها أن تقبل وأكرهوها على ذلك. ولمّا لم تجد بدّا من معارضتهم، خادعتهم بأن تظاهرت بالقبول وأغرتهم بأن لابدّ أن تتخلّص قبل ذلك من عهد الزواج الّذي كان يقيّدها بزوجها الأسبق، فكان عليها لذلك أن تهيّئ محطبة وتقيم محرقة تقدّم فيها الأضاحي والقرابين للآلهة. فأقامت بجانب قصرها المحرقة وألقت بنفسها في النار الموقدة» (تعريب المؤلف من النص الفرنسي لـ ستيفان قزال Gsell S., Histoire ancienne de lAfrique du Nord, I, p. 380).

ما هو المصدر الّذي استقى منه تيمايوس معلوماته؟ لا نعلم. غير أننّا لا نستبعد أنّه كان مطّلعا على مصادر قرطاجيّة مباشرة، كتابيّة كانت أو شفاهيّة.

وبالإضافة إلى هذا المؤرّخ، الّذي نعتبره مصدرا إغريقيّا غربيّا، لنا مصدر إغريقيّ آخر، لكنّه شرقيّ، وهو مِنَندروس الإفسُسّي (Ménandre dEphèse) الّذي عاش في النصف الأوّل من القرن الثاني قبل الميلاد. وقد حدّثنا عنه المؤرخ فلاويوس يوسِفوس (Flavius Iosephus) المعاصر للقرن الأوّل الميلادي، حديثا مفاده أنّه (أي منندروس) اطّلع مباشرة على حوليّات ملوك مدينة صورالّذين حكموا بالتّوالي على امتداد قرن ونصف، وهي حوليّات تذكر أهمّ الأحداث الّتي حدثت في فترة حكم كلّ منهم، ومن بينهم الملك بيجمليون (Poumaïyathan, Pygmalion) الّذي يقول منندروس إنّه: «عاش ستّا وخمسين سنة وحكم مدة سبع وأربعين سنة. وفي السنة السابعة من حكمه، هربت أخته إلى لوبيّا وأسّست مدينة قرطاجة» (Flavius Josèphe, Contre Appion, I, 18 (125)).

وأهمّ ما نقرؤه عن عليسة عند مؤرّخ لاتيني متأخّر عاش في القرن الثالث أو الرابع الميلادي، يُدعى يُوستينوس (Abrégé des Histoires philippiques)، هوّ أن هذه الأخيرة كانت مؤهّلة، مثل أخيها بيجمليون، لخلافة أبيها «مَعطى بعل» (Ma’athanba’al) على عرش مدينة-دولة صور، وأنّها تزوّجت من خالها، ذكربعل أو زكربعل (Acherbas, Zekerbaal)، كبير كهنة معبد الإله ملقرت (Milqart)، الإله السيّد لمدينة-دولة صور، وأنّ أخاها اغتال زوجها طمعا في ثروته، ثمّ إنهّا لمّا فرّت بثروة زوجها من صور على متن سفينة صحبة بعض الوجهاء من سادة مواطنيها وعدد من النّوتيّة، أرست سفينتها بجزيرة قبرص حيث كان من تقاليد الصّبايا الأبكار المؤهّلات للزواج في هذه الجزيرة أن يأتين إلى معبد ليس ببعيد عن الميناء (معبد الإلهة عَشترت؟) فيعرضن بكارتهنّ على البحّارة الغرباء من بين عابريّ السبيل، وتمارس كل واحدة منهنّ الجنس مع أحدهم في إطار ما يُعرف ب «البغاء المقدّس» عسى الإلهة عشترت (Ashtart) تقيهنّ مصيبة العُقم في مجتمعات كان للتكاثر الديمغرافي فيها أهميّة بالغة. واغتنمت عليّسة الفرصة فأمرت نوتيّتها باختطاف ثمانين صبيّة قُبْرصيّة قصد التزوّج بهنّ والإسهام في تعمير المدينة المُزمع تأسيسها. ثمّ أرست عليّسة أخيرا على الشاطئ اللّوبي حيث تقوم الآن مدينة قرطاجة (قَرتْ حَدَشْتْ، المدينة الجديدة) وقد لاقت ترحابا كبيرا من لدن الأهالي المحلّيّين واستقبالا رسميّا من قبل أعيان مدينة أوتيكه (Utica, Utique)، وهم أبناء موطنها من بين الصوريّين الّذين أسّس أجدادهم هذه المدينة من قبل ذلك بثلاثة قرون (سنة 1101 قبل الميلاد). وقد حثّها هؤلاء جميعا على تأسيس مدينتها حيث أرست سفينتها. ولا فائدة هنا من ذكر «خرافة جلد الثور» الّتي اختلقتها المصادر الإغريقيّة بجهل لمعنى كلمة «بيرصا» في اللغة الفنيقيّة القرطاجيّة، غير أنّ لها كلمة تشبهها في اللغة الإغريقية تعني «جلد الثور» (Byrsa)، فأطلقوا لخيالهم العنان وصوّروا عليّسة وهي تحتال على الأهالي المحليّين الّذين نزلت بأرضهم (قبيلة المكسيتانيين Maxitani) فابتاعت منهم (أو اكترت) أرضا لا تتجاوز مساحتها جلد ثور قصّته إربا إربا لتحصُل على خيط أحاطت به مساحة أكبر بكثير من المساحة المُتّفق عليها، أرض في شكل ربوة أطلقت عليها المصادر الإغريقيّة اسم «بيرصا»، ويذكرها المؤرّخ الإغريقي بوليبيوس (Polybios, Polybe) الّذي حضر نهاية أطوار الحرب البونيّة الثالثة في قرطاجة (أفريل 146 ق.م.) وقد دارت رحى آخر معاركها في شوارع الأحياء السكنيّة الّتي كانت قائمة على سفوح هذه الربوة.

والحاصل لدينا هو أنّ هذه الأميرة الفنيقيّة الشرقيّة، بتأسيسها لمدينة صارت من بين أعظم المدن في تاريخ الحضارات والشعوب القديمة وأقواها، كان لها الفضل بقدومها إلى البلاد التونسيّة (لوبيّا) في دخول التاريخ من بابه الواسع اذ جاءت، وجاءت معها الحروف الأبجدية والكتابة والعلوم والمعارف الشرقيّة، فمثّلت بذلك وبتأسيسها لقرطاجة الجسر الرابط بين شرق المتوسّط وغربه، أي، بين مختلف الحضارات والثقافات في العالم القديم، وكانت، بما أنجزته، رمز المرأة الشرقيّة-التونسيّة-الإفريقيّة في الجرأة والتحدّي والتضحية والسيادة والتأسيس والبناء خلافا لما كانت عليه، مثلا، المرأة الرومانيّة-الإيطاليّة في ذلك العصر.

 

الحبيب البقلوطي

تفاعل مع المنشور وشاركنا تعليقاتك

ابحث بالمجال
العلوم
الاجتماعيّة والقانونيّة
العلوم
التجريبيّة والطبيّة
الآداب
والفنون
الالتزام
والنّضال في الحياة العامّة
الحضارة
والتاريخ
تواصل معنا

اقترح شخصية

تواصل معنا

العنوان

شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية

البريد الالكتروني
directiongenerale@credif.org.tn
رقم الهاتف
0021671885322
Drag View Close play
0%