هي آمنة (شُهرت فاطمة) بنت محمد الأخضر بن عطيّة، أصيلة منطقة ربع سليانة (برقو
حاليّا). ولدت يوم 07 أوت 1931 بالمرسى من الضاحيّة الشماليّة لمدينة تونس في منزل أبيه
غير بعيد من إقامة السفير الفرنسي حاليّا، ولها خمسة إخوة وأربع أخوات هي أصغرهنّ.
نالت الطفلة آمنة حظّا يسيرا من التعليم إذ قضّت المرحلة الإبتدائية – أو معظمها – في مدرسة
«الأخوات المسيحيّات» بقرطاج، فنشأت على قيم الصرّامة والجدّ وتهيّأت للحياة باكرا، وهو
دأب فتيات عصرها، فتزوّجت من الحفناوي بن عبد الباقي بن عبد الملك، وهي في السابعة
عشرة من عمرها. ولكنّ زوجها سرعان ما توفيّ وعمره 25 سنة وعمرها هي 22 سنة أو
أكثر قليلا وترك لها ولدا - هو السيّد حسونة بن الحفناوي بن عبد الباقي بن عبد الملك -
فترمّلت باكرا جدّا (1954) وبدأت منذ ذلك التاريخ مسيرتها الطويلة في التضحية والعطاء
والإيثار، إذ قامت على تربية ابنها ومتابعة دراسته وتأطير حياته بتفان، واعتنت بأخيها
الأصغر – وقد كان مريضا مرضا مزمنا – عناية طويلة امتدّت منذ وفاة والدتها (سنة 1975)
حتّى وفاته هو (عام 2006) مظهرة نحوه حبّا غامرا وبرّا نادر المثال، ورعته رعاية كاملة
وخاصّة وحدبت عليه حدبا.
وأشرفت السيدة آمنة (أو فاطمة) بن عطيّة على الأشغال الفلاحيّة وإدارة العديد من الأعمال
لفائدة عائلتها وأظهرت كفاءات كثيرة ممّا تتقنه المرأة الصّنَاع وممّا هو من اختصاصات
الرجل الماهر الجادّ : ذلك أن قدوتها ومثلَها الأعلى كان أباها محمّد الأخضر بن عطيّة،
المشهور في «عمل» سليانة وغيره باسم «حمّتين» وقد كان من أكابر فلاحيّ المنطقة – إن لم
يكن أكبرهم – لا منافس له نسبيّا إلاّ صهره حسونة بن عبد الباقي بن عبد الملك، صاحب
الزاوية المشهورة باسمه - زاوية سيدي حسونة - في منطقة القنطرة، قريبا من سُدّ الأخماس،
جنوبيّ سليانة.
وقد كان حمّتين مضرب الأمثال في كثرة الأملاك من الأراضي الفلاحيّة الخصبة وفي اتّساع
الثروة المتأتّية من الزراعة والمبنيّة على قصّة نجاح مبدؤها التجارة والأعمال ومنتهاها
الاستثمار الفلاحي على نطاق واسع : أخصب أراضي «مرج عوّام» و «ظهير الذيب» في
ما بين برقو وسليانة، وأراضي مدخل سليانة، وهنشير فرنة بين سيدي سعيد وبرقو، وهنشير
مجاز الباب المحاذي لوادي مجردة... إلخ ممّا تجسّمه حكاية «السّبع سماوات والستّ
أراضي» المتداولة في المنطقة والتي سمعناها ونحن صغار... ! وكان يعيش بين سليانة
والمرسى : كان له بمدينة سليانة مستقرّ مريح و«فندق» (أو خان) وحضور كل يوم خميس
(يوم السوق) وكانت ضيعته بمرج عوّام منزله أثناء الأعمال الفلاحيّة الكبرى، بينما كانت
المرسى مسكنه في سائر السنة.
ورثت آمنة (أو فاطمة) بن عطيّة عن هذا الرجل حزمه وصرامته واجتهاده ووطنيّته: ذلك أنّه
كان زمن الحماية الفرنسيّة عضوا في المجلس الكبير (Le grand Conseil) (أو «مجلس
العشرة») وهو مجلس مكوّن من أعيان الجهات وكبرائها، وكان في ذات الوقت يدعم الثوّار
(أو الفلاّقة)، ولا سيما في منطقة برقو وخلال الأطوار الأخيرة من المقاومة الوطنيّة المسلّحة
(انطلاقا من 1952) خفية ويعيلهم سرّا (عبر ابنه الهادي)، كما ساهم غداة الاستقلال في تجهيز
الجيش التونسي الناشئ، إذ تكفّل بإكساء الجيش وتولّى اقتناء عدد كبير (80) من السيّارات
العسكريّة الخفيفة، مشاركا بفعاليّة في دعم الوطن، في فترة مفصليّة من تاريخه، وبنائه وخدمة
الصالح العامّ.
ويذكر أنّ محمّد الأخضر بن عطيّة كان صديقا للطاهر بن عمّار، الوزير الأكبر في حكومة
الباي – الذي أمضى وثيقة الاستقلال – وكانت بينهما مودّة وعشرة، كما كان صديقا للطيّب
المهيري، أوّل وزير للأمن والدفاع، وأنّه دُفن في المرسى حيث توفيّ سنة 1963 وتولّى تأبينه
الشيخ العلاّمة محمد الطاهر ابن عاشور إعلاء لشأنه واعترافا بفضله.
في هذه الطريق، سارت السيدة الفاضلة المحسنة آمنة بن عطيّة فخصّصت جانبا من مِلكها
ونصيبًا من حُرّ مالها – سواء مالها الخاصّ الذي جاءها من منابها من ثروة أبيها أو ذلك
المتأتّي ممّا آل إليها من قوامتها على مناب أخيها (عبد الرحمان) خصّصته لفعل الخير وعمل
البرّ، وتمثّل ذلك أوّلا في دعم جهد أخيها الهادي في التبرّع بالأرض التي بني عليها مستشفى
سليانة وتوسعة المساحة التابعة له، ودعم جهد الدولة على الصعيد الصحّي الجهوي بالتبرّع
بسيّارة إسعاف مجهّزة ومعدّات للمستشفى، ثمّ التبرّع بأرض أخرى هي الأرض المخصّصة
اليوم للمقبرة ثمّ توسيعها على مراحل... بل لقد تبرّعت السيّدة آمنة بن عطيّة بمساحة كبرى
سمّتها البلديّة «سليانة الجديدة» بُني عليها إلى حدّ الآن – وعلاوة على ما أسلفنا ذكره –
المعهد العالي للدراسات التكنولوجيّة والحيّ الجامعي التابع له (المبيت والمطعم الجامعي)،
وكذلك المعهد النموذجي بسليانة والمندوبيّات الجهوية (الفلاحة والتكوين المهني والتشغيل
والبريد) ثمّ المستودع الإقليمي للتضامن الاجتماعي (وهو يهمّ ثماني ولايات داخليّة) والمسبح
المغطّى (وأشغاله الآن – أي في سنة 2023 - في مرحلة متقدّمة) ومحكمة الناحية والمحكمة
العقاريّة. يضاف إلى ذلك أرض ممنوحة لوزارة الثقافة (على ذمّة مشروع المتحف الأثري
بسليانة) ثمّ بناء دار لإيواء المسنّين بمدينة سليانة، والتبرّع للبلديّة بمساحة تتجاوز أربعة
آلاف م 2 لإنجاز ساحة عموميّة سميّت فيما بعد ساحة محمد الأخضر بن عطيّة، وغير ذلك من
المبرّات، وخصوصا المساعدات الاجتماعيّة التي يشهد بها كلّ من كانت لهم بها صلة والتي
كانت تتولاّها في صمت وستر، ولاسيما في نهاية كلّ موسم حصاد. كما كانت عضوا فاعلا
وداعما بجمعيّة UTAIM للقاصرين ذهنيّا.
وقد توفيّت هذه السيّدة المحسنة بضاحية المرسى يوم 11 فيفري 2021 ودفنت بمقبرة قمّرت
بعد حياة حافلة بالعمل والنشاط، غلبت على شخصيتها طوال جميع مراحلها خصال الجدّ
والصرامة والصدق والنزاهة والطيبة والاستقامة والبذل والتضحية والحرص على الدقّة في
المواعيد وإتقان التفاصيل في كلّ ما تتولاّه من مهامّ الحياة الكبيرة والصغيرة، من إدارة
الأعمال إلى العناية بالمطبخ... وكانت على العموم امرأة في رأسها عقل وفي قلبها رحمة، لم
تُغرها زينة الحياة الدنيا، ولم يسحرها بريق المال، ولم يصرفها نداء الشباب عن قداسة
الواجب : فهي من هذه النواحي صدى حقيقي لسيّدات تونسيّات محسنات حفظ أسماءهنّ تاريخ
هذا البلد، أبرزهنّ أروى القيروانيّة وعزيزة عثمانة...
وإن الذّي قامت به السيّدة آمنة بن عطيّة عبر هذه المبرّات المختلفة، مضافا إلى ما قام به
أبوها «حمّتين بن صالح» أو محمّد الأخضر بن عطيّة، في برّ الوطن – قبل الاستقلال وبعده
– وإلى ما قام به حموها، سيدي حسونة بن عبد الملك صاحب الزاوية التي طالما كانت تؤوي
أبناء السّبيل وتكفل الأرامل والأيتام... إنّ كلّ هذا لمن شأنه أن يلفت الانتباه إلى الكيفيّة التي
يمكن أن يتجاور بها الغنى والبِرّ ويتقاطع فيها كسب المال بكسب الحمد والفضل.
مبروك المنّاعي
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية