مجالات النشاط

• الحضارة والتاريخ

هذه السيّدة التي نتناول سيرة حياتها خلّدها تاريخ النساء التونسيّات لخصال تميّزت بها باعتبارها «أُمًّا» قبل أن تكون أميرة من الأسرة الحسينيّة التي حكمت تونس.

وهي الأميرة آمنة  - وتُدعى «منّانة» أيضًا - المعروفة «بأمّ الأمراء» وهي ابنة الأمير علي باي بن حسين بن علي باي مؤسّس البيت الحسيني، وأمّها جارية من « القُرج» تُدعى «محبوبة» تزوّجها علي باي عندما كان لاجئًا في الجزائر مع أخيه محمّد بسبب الصراع على الحكم.

ووُلدت له آمنة سنة 1172 هجريّا حوالي 1759 ميلاديّا أي في منتصف القرن الثامن عشر ونشأت وتَرَبَّتْ في قصر باردو مع أخيها حمّودة.

وقد تكوّنت تكوينا علميّا ومعرفيّا متنوّعا وعميقا مع أخيها إذ زاولت معه التعلّم على أيدي أشهر شيوخ العلم من أمثال الشيخ المربّي حموّدة باكير فحفظت القرآن وتلقّت دروسا في فقه الدين ومبادئ النحو واللّغة العربيّة والحساب وسائر المعارف التي جعلت منها شخصيّة مثقفة واعية حسنة التكوين.

وقد تزوّجت من ابن عمّها الأمير محمود بن محمّد الرّشيد باي .

وممّا ساهم في تكوين شخصيّة الأميرة آمنة وزاد في توسيع دائرة معارفها ما أتيح لها من التعرّف على سائر المدن التونسية  والاقتراب من شعبها والتواصل معه وذلك من خلال رحلة طويلة داخل البلاد التونسيّة عندما تولّى أخوها حمّودة باشا الإمارة وخرج بالمحلّة لتفقّد شؤون البلاد، حسب العادة، فأصطحب معه أمّه محبوبة وصهره و ابن عمّه محمود وأخته آمنة فأتاحت لها هذه المناسبة التعرّف على معالم وطنها تونس وزارت أشهرها مثل مقام أبي زمعة البلوي بالقيروان ومقام أبي لبابة الأنصاري بقابس وتواصلتْ في هذه الرحلة عن قرب مع الأهالي وساعدت المحتاجين منهم وتركتْ بينهم أطيب الأثر.

ومن الأحداث الكبرى التي عاشتها الأميرة آمنة حَدَثُ تولّى زوجها محمود باي الحكم إثر وفاة أخيها حمّودة باشا.

وممّا يُذكرُ عنها أنّ هذه المناسبة على أهميّتها لم يشغلها الاحتفال بها إذْ يقول المؤرّخ التونسي الشهير أحمد بن أبي الضيّاف إنّها، بحكمتها وخبرتها بالحياة، جمعتْ بهذه المناسبة ابْنيها وهما حسين باي ومصطفي باي وأحضرتْ لهما المصحف وأمرتهما بالتعاهد على الوفاء بعضهما لبعض قائلة إنّها براء من الذي ينكث العهد منهما ويغدر بأخيه.

ويذكر أحمد ابنُ أبي الضياف أنّ هذين الأخوين قد بقيا على الوفاء كما عاهدا والدتهما في ألفةٍ ومحبّة وتوافق وانسجام. وكان ذلك حرصا منها على تجنّب ما يحدث عادةً بين أفراد الأسرة الحاكمة من خلافات تُفضي إلى العداوة والتقاتل بسبب الصراع على الحكم ممّا يتسبّب للبلاد وشعبها في عدم الاستقرار وما ينجرّ عن ذلك من انقسامات وأضرار. ويبرز هنا بُعد نظرها وحكمتها وإحساسها العالي بمسؤوليتها كأمٍّ. ولم يشغلها عن دورها الأساسيّ هذا ما يشغل عادة النساء اللّواتي هنّ في وضعها من شؤون وشواغل سطحيّة جانبيّة، فقد كانت امرأة تفكرّ أيضا بمستقبل البلاد وأهلها.

وقد عُرفِتْ بحرصها على دورها هذا في الاهتمام بشؤون أسرتها الموسّعة، إذ كانت كثيرًا ما تجمع أفرادها وتقدّم لهم النصائح والتوجيهات حول ما يفيدهم في حياتهم مثل النّهي عن زواج الأقارب عملاً بقول العرب «اغتربوا لا تَضْوُوا» أي تزوّجوا من الأباعد حتّى لا يضعف نسلكم.

ونلاحظ هنا ثقافتها الواسعة ودرايتها بالسّنّة والأثر وإحاطتها بشؤون الدين والدّنيا.

ولم تشتهر السيّدة آمنة التي عُرفتْ بِكُنْيَةِ «أمّ الأمراء» لأنّها أميرة ابنة أمير وأختُ أمير وزوجة أمير في العائلة الحسينية الحاكمة فحسب، بل اشتهرت أيضًا وخَلُدَ ذكرها في حياتها وبعد مماتها بفضل شخصيّتها التي عُرفتْ بالحكمة وبُعد النظر وأعمال الخير والتواضع في التواصل مع أبناء وطنها من عامّة الناس، وبدورها كأمٍّ خاصّةً لم تشغلها شؤون الإمارة عن رعاية ابنيْها وحسن تربيتهما والتفكير في إعدادهما للحكم أحسن إعداد.

ودليلا على مقامها العالي بين شخصيّات عصرها واعترافًا بخصالها رثاء الشيخ إبراهيم الرّياحي لها بقصيدة يقول منها :

سكنتْ فسيحا في الجِنان ظليلاَ     

وقُطــوفُها قــــد ظُلِّلَــتْ تظليلاَ

لا تحسبُوها فـــي الثــراء مَقيلُهــا     

يَهوَى الثرى أن لا يكون مَقيلا

أمُّ الملوك وأختُهُمْ وكفى بِمحْـ

مُودٍ أمير المؤمنين حليلا

وما هذه الأخبار المتواترة التي تكرّس سيرة هذه المرأة التونسيّة وهذه الأمّ وخلودها في الذاكرة الجماعيّة وفي كتب المؤرّخين إلاّ بُرهان على ما اتّصفت به من وعي ونضج وحكمة وحسن تدبير وخصال تشرّف تاريخ المرأة التونسيّة وتقدّم دليلا على قدرتها على بلوغ مراتب عليا تؤهّلها للإكبار والتقدير.

جميلة الماجري