تُعرف الصالحة عائشة المنّوبية «بالسيّدة» وتُعتبر على الإطلاق أشهر الصالحات بالبلاد التونسيّة (عبد الوهّاب، حسن حسني، شهيرات التونسيّات، تونس، مكتبة المنار، 1985، ص.117-118) وأكثرهنّ تعظيماً. لا نعلم الكثير عن سيرتها الذاتيّة سوى بعض المحطّات البارزة من حياتها، من خلال مصدر وحيد هو كتاب مناقبها المنسوب إلى إمام جامع منّوبة (كتاب مناقب السيّدة عائشة المنّوبيّة، الناشر الحاج العربي الغربي، المكتبة «الشنوفية»، تونس 1344/1925)، ممّن جمع بين العلم والفقه والصّلاح والّذي نجهل هويّته. ولقد شكّل هذا الكتاب، المرجّح تأليفه خلال النصف الأوّل من القرن اﻟ8هـ /اﻟ14م، النواة الّتي نقل عنها وأضاف عليها المتأخّرون (كأبي العباس أحمد الشاذليّ أو التادليّ الّذي يُعزى إليه جمع كتاب في مناقبها، المخطوط 9649، دار الكتب الوطنية، تونس، الو. 57ب). ولدت عائشة ببلدة منّوبة غربيّ مدينة تونس، حوالي سنة 595/1198 من أبوين أصيلَي البلدة هما عمران بن الحاج المنّوبي وفاطمة بنت عبد السميع المنّوبي. كانت عائشة في العشرين من عمرها عندما استقلّ الحفصيّون بحكم - إفريقيّة فعاصرت كلاً من الأمير أبي زكرياء (625/1228-647/1249) وولده المستنصر (647/1249-675/1277) وعاشت في فترة انتعش خلالها الفقه المالكي وانتشر فيها التصوّف في حواضر البلاد وبواديها. تنسبها مناقبها إلى أهل «الجذب» أو أهل «تخريب الظواهر» وهو نمط روحيّ عريق في التصوّف بما في ذلك التصوّف النسائي (أنظر Amri, Nelly et Laroussi, Les femmes soufies ou la passion de Dieu, St-Jean de Braye, Dangles, 1992)، قد يُحمل أصحابه على الحمق والبله والجنون (حول هذا التيّار الروحيّ، أنظر النيسابوري ، أبو القاسم الحسن بن محمد، عقلاء المجانين، بيروت، دار الكتب العلمية، 1995). وهذا ما وقع باكراً للشابّة عائشة في بلدتها منّوبة فكانت موضع استهزاء وسخريّة من طرف أهل البلدة. رفضت الزواج من ابن عمّها وبقيت عزباء ممّا جلب لها عديد الانتقادات. انتقلت في تاريخ نجهله إلى مدينة تونس واستقرّت في أوّل الأمر بالربض الجنوبيّ منها «قبلة باب الفلاّق» (باب الفلاّ راهناً) في قيساريّة هناك، غير بعيد عن الأحياء الّتي كان يقطنها العديد من أصحاب أبي الحسن الشاذليّ (ت. 656/1258). من المرجّح أنّها كانت تعيش على نمط التوكّل، حيث لا تذكر مناقبها حرفةً لها.وكانت تجالس أقرانها من الصوفيّة الرّجال في مجالس الذكر ممّا أثار حفيظة فقهاء مدينة تونس وقضاتها. كما كانت ترتاد مساجد المدينة كمسجد الصفصافة وجامع المصلّى (مصلّى العيدين الّذي شيّده الأمير أبو زكرياء خارج باب المنارة) وتختلي في المقابر والجبال (كجبل زغوان حيث تُذكر لها عديد السياحات، وجبل التوبة وهو جبل الجلاز، وجبل السيادة وهو الجبل الّذي ستشيّد فيه لاحقاً زاويتها في العهد الحسيني). كما تذكر مناقبها اجتماع المريدين عليها وتربيتها لهم علماً بأنّه لم تكن لها زاوية في حياتها بل تتحدّث مناقبها فقط عن دار سكناها، «بإزاء جامع المصلّى». ومن أشهر مريديها وأكثرهم ذكراً في كتاب مناقبها، الوليّ الصالح عثمان الحدّاد، وهو الّذي سيعودها في مرضها الّذي توفّيت فيه عن سنّ تناهز سبعين عاماً سنة 665/1267 ودُفنت بمدينة تونس بمقبرة الشرف أو مقبرة القرجاني («إن قبرها قرب باب الفلاّق وهو مشهور بمكان البركات على يمين الطريق، شارف على سبخة سيجوم، على قبرها لوح من رخام طوله أربعة أشبار وعرضه أربعة أشبار مكتوب فيه سبعة وعشرون سطراً»، كتاب مناقب السيّدة عائشة المنّوبيّة، مصدر مذكور، ص. 17) وقبرها لم يعد يعرف له أثر منذ تحوّل المقبرة إلى حديقة عموميّة في ستيّنيّات القرن الماضي (حديقة القرجاني).
لم تأخذ «السيّدة» طريق التصوّف عن شيخ من الشيوخ، أسوةً بتيّار «أهل الجذب» الّذين لا نعلم لهم في الغالب شيخاً، كما أنّها لم تجلس إلى أبي الحسن الشاذلي، ولا ذكرَ لها في مناقبه. أمّا ما تنقله مناقبها من»رؤيتها» للشاذليّ، وفي نفس الّسياق، لعبد القادر الجيلاني (ت. 561/1165) والجنيد (ت. 298/910) وابن الفارض (ت. 632/1234)، ورابعة العدويّة (ت. 185/809)، فإنمّا يندرج ضمن باب الرّؤى، كما يحيل إلى مرجعيّات صوفيّة يراد ربط السيّدة المنّوبيّة بها.
نُسبت إلى عائشة المنّوبية، على غرار كبار أهل التصوّف، أقوالٌ في الشطح الصوفيّ والمفاخرات، فهي «قطبة الأقطاب» و«خليفة الله في أرضه». وتُعتبرُ هاتان الصفتان أعلى المراتب الروحيّة في سلّم الوَلاية في الإسلام، إذ تحيلان عند كلٍّ من ابن العربي (ت. 638/1240) وابن الفارض إلى «الحقيقة المحمديّة» أو «الإنسان الكامل» (أنظر حلمي، محمد مصطفى، ابن الفارض والحب الإلهي، القاهرة، دار المعارف، ص. 1971 ص. 352-381 والحكيم، سعاد، المعجم الصوفي. الحكمة في حدود الكلمة، بيروت، دندرة للطباعة والنشر، 1981، ص. 915-916). هذا وتحمل نسبتهما إلى امرأة، لاسيما في ذلك العصر، كثيراً من الدّلالات، علماً بأنّ الصوفيّة لا يميّزون بين الرجل والمرأة في هذا المجال، حيث يُنسب إلى ابن العربي قوله أنّ النساء والرجال «يشتركان في جميع المراتب حتّى في القطبيّة» وأنّ «كلّ ما يصحُّ أن يناله الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لمن شاء الله من النّساء» (ابن العربي، محيي الدين، الفتوحات المكيّة، تحقيق عبد العزيز سلطان المنصوب، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2017، ج. 7 ص. 581).وتذكر أيضاً مناقب السيّدة المنّوبيّة أنّها الوارثة عن الأنبياء، وهي فكرة ليست بجديدة في التصوّف إلاّ أنّها ستشهد رواجاً كبيراً ابتداء من القرن اﻟ7هـ/اﻟ13م عند أئمّة القوم كابن العربي وأبي الحسن الشاذليّ (ابن الصبّاغ، محمد بن أبي القاسم الحميري، درّة الأسرار وتحفة الأبرار في مناقب سيّدي أبي الحسن الشاذليّ، تونس، 1304/1886، ص. 167). كما أنّ النموذج المَرْيَمي حاضر بقوّة في الكتاب حيث يُعزى إلى عائشة المنّوبيّة أخذها عن مريم العذراء ثلاث خصالٍ: التأييد والاصطفاء والطهارة. من الأقوال المنسوبة إليها: «شربتُ من بحر الحبّ ودخلتُ بابَ القُربِ حتّى شاهدتُ الملكوت، وأهلُ الحُبّ صرعى في حضرة المحبوب، ثمّ تجلّى لي المحبوب فحصلتُ في حيني على المقصود وظفرتُ بالمطلوب»(كتاب مناقب السيدة عائشة المنّوبية، مصدر مذكور، ص. 41). تُنسب إليها أيضاً بعض الحكم والمواعظ الّتي كانت توصي بها مريديها لاسيما عثمان الحدّاد، فتحثّه على الزهد والاختلاء وترك الدنيا واعتزال النّاس والإكثار من الذكر ومجاهدة النفس وزيارة القبور واتّباع السنّة. ومن وصاياها: «يا عثمان لا تكن متكبّراً ولا متجبّراً، وعليك بالخلاء والخلوة لأنّ العبد إذا أخلى قلبه من العباد عمر قلبه بالله (...) لا تجالس إلا مريداً مثلك لأنّ خلطة الصنف بغير الصنف مثل النّحاس مع الذهب (...). لا خير في ذكرٍ بلسانٍ والقلب غائب (...) أنا قلبي غائبٌ في الله منذ سبعين عاماً، ثمّ ماتت» (كتاب مناقب السيدة عائشة المنّوبية، مصدر مذكور، ص.16-17). لم تمثّل السيّدة المنوبيّة، رغم ما يُنسب إليها من اختلاء في الجبال أو بين المقابر، نموذج الصالحة المنقبضة عن مجتمعها والمعتكفة، بل تعدّدت الرّوايات الّتي تجمعها بالنّاس على تنوّع أصولهم الاجتماعيّة وعلى اختلاف مشاغلهم، ممّن كانوا يلتمسون دعاءها لتفريج كربة أو لقضاء حاجة، ويتجلّى ذلك في عدد الكرامات (52) المنسوبة إليها في الحياة وبعد الممات.
عُدّ قبرها من جملة أضرحة الأولياء والصالحين الّتي كان بايات الدّولتين المراديّة ثم الحسينيّة يخصّونها بالزيارة في الأعياد وقبل السّفر داخل البلاد وخارجها. وشُيّد لها في القرن التاسع عشر مقامان أحدهما في مسقط رأسها بلدة منّوبة (في عهد محمود باي 1814-1824) والآخر بمدينة تونس في الحيّ الّذي يحمل اسمها في أعلى الرابية المشرفة على سبخة السّيجومي غرباً وعلى الربض الجنوبي للمدينة شرقاً.وما فتئت مناقبها تُنسخ منذ القرن اﻟ8 ﻫ/14م، حيث يوجد ما لا يقلّ عن 16 نسخة مخطوطة من كتاب مناقبها بدار الكتب الوطنيّة بتونس (تنقسم هذه النسخ، الّتي حبّس بايات الدولة الحسينيّة ورجالاتها العديد منها على خزائن جامع الزيتونة، إلى مجموعتين حافظت إحداهما، وهي الأكبر عددياً والأقرب إلى رواية إمام جامع منّوبة، على تماسك ملحوظ في بنية النصّ وحجم الرّوايات ومحتواها لاسيما تاريخ وفاة السيّدة، في حين تنتمي نسخ المجموعة الثانية إلى فترة متأخّرة وفيها تداخل بين روايات النصّ الأوّل وروايات مستحدثة). وكانت مناقبها من أوّل الكتب الّتي وقعت طباعتها في أوائل القرن الماضي (1925). وخصّها البحث العلمي بعديد الدّراسات.
نللي عامري
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية