ولدت الفنّانة ذات المواهب المتعدّدة فضيلة خيتمي (وهو الرسم الصحيح للقبها) سنة 1905 بتونس العاصمة من أمّ تركيّة الأصل شغوفة بالتمثيل تُدعى نسريّة فريز (أو فراولو).
زاولت فضيلة دراستها الابتدائيّة بنهج الباشا ثمّ بالمعهد الثانوي «بول كمبون» (Paul Cambon) بنهج مرسيليا بالعاصمة، وبدأت مواهبها في التمثيل والغناء تظهر ولم تبلغ بعد سنّ العشرين، وتضاربت الروايات المكتوبة حول تاريخ دخولها الميدان الفنّي، حيث جاء في الصفحة 134 من كتاب «من روّاد المسرح التونسي وأعلامه»، تأليف المنصف شرف الدين، أنّها بدأت حياتها الفنيّة سنة 1927، والحال أنّ أوّل إسطوانة مسجّلة بصوتها ترجع إلى سنة 1926 بحسب ما جاء في الموقع الخاصّ بها بخزينة التسجيلات التابعة لمركز الموسيقى العربيّة والمتوسطيّة، ممّا يؤكّـد أنّ فضيلة عرفت في السّاحة الفنيّة التونسيّة قبل ذلك التاريخ من خلال العروض الموسيقيّة الّتي كانت تحييها ضمن فرقة كوّنتها سنة 1920 برعاية من أمّها التي كانت تسهر على تنظيم تلك الحفلات، وكانت فيها الغلبة للأغاني و«الطقاطيق» المصرية (مفردها «طقطوفة» وتعني الأغنية الخالية من التعقيد، بحيث يسهل على العامّة أداؤها).
تعلّمت بعض قواعد الموسيقى والعزف على العود حيث كان «لها توقيع نادر على هذه الآلة، حتّى أنّه يُخيّل إليك عند سماعها أنّك تسمع القصبجي» بحسب ما كتب الصحفي والناقد علي الجندوبي (1906-1966) في الصفحة 6 من مخطوط بعنوان «نبذة عن حياة المطربات في تونس» مؤرخ في 24 فيفري 1945، (موجود في موقع الرشيديّة). ولم تحدّد المصادر القليلة التي كتبت عن سيرتها الذّاتية أسماء من تولّوا تلقينها تلك الدروس، وقد يكون ذلك راجعا إلى تستّـر التونسيّات، في تلك الحقبة من تاريخ تونس، عن ذكر أيّ نشاط يقمن به له صلة بالفنون، خلافا لزميلاتهنّ المعتنقات للديانة اليهوديّة اللاتي تصدّرن المشهد الموسيقي والغنائي طوال أكثر من ربع قرن، وكنّ منافسات لها مثل حبيبة مسيكة (1903-1930) ولويزة التونسية (1905-1966). وتعتبر فضيلة من بين التونسيّات اللاتي تحدّين التقاليد وتجرّأن على العزف والغناء، وساعدها على ذلك أناقتها واطلاعها على أصول الفنّ حتى نعتها الجندوبي في المصدر السابق بـ «المطربة الممتازة في عهدها والفنّانة الراقية من بين المغنيات..»، وكانت تقدّم عروضها في ـ «صالة ليديال» الكائنة حذو سينما «الحمراء» بنهج الجزيرة بالعاصمة، ولقيت الإحاطة من شعراء شبّان من بينهم عبد الرزّاق كرباكة (1901-1945) ومحمود بورقيبة (1909-1956) وجلال الدين النقّاش (1910- 1989) وعثمان الكعّاك (1903-1976) وغيرهم وكانوا يجتمعون في بيت هذا الأخير في إطار «مجلس الأربعاء» يتجاذبون أطراف الحديث حول قضايا الأدب والفنّ.
ساهم النجاح، الذي كان حليف فضيلة في عروضها الموسيقيّة العامّة والخاصّة، في لفت نظر شركات إنتاج الإسطوانات فدعيت إلى تسجيل نماذج من الرصيد الذي تؤدّيه على اسطوانات ولقبت تارة بـ «كروان تونس»، وطورا بـ «بلبل تونس» عند تقديمها في بداية كلّ» أسطوانة، وأصدرت شركة «باتي» (Pathé) الفرنسيّة أول أسطوانة لها سنة 1926، تضمّنت أغاني بعنوان «طرابلسيّة المرزقاويّة» وهو نوع من الأغاني جلبتها من منطقة مرزق جنوب ليبيا الجالية اليهوديّة التي اختارت الاستقرار بتونس في بداية القرن العشرين، وشهدت انتشارا واسعا لدي التونسيّـين خلال الثّـلث الأوّل من القرن العشرين. ويناهز عدد الأسطوانات المسجّلة بصوتها الأربعين اسطوانة صدرت بين سنتي 1926 و 1932 بحسب ما هو مودع بخزينة مركز الموسيقى العربيّة والمتوسطيّة.
عرفت فضيلة خيتمي «بثقافتها في اللغة العربيّة وحسن صوتها وفصاحة لسانها وحسن إلقاء لم يجارها فيه أحد» (مخطوط علي الجندوبي) وقد أسّست «جمعية التمثيل العربي»خلال شهر فيفري 1922 (وكتبت «جمعية العربي» في الموسوعة التونسية، ص 758)، متّـبعة في ذلك خطى الممثّـلة المصريّة فاطمة رشدي (1908-1996)، واعتبرت بذلك أولى النساء التونسيّات، من غير معتنقات الديانة اليهودية، اللاّتي دخلن ميدان التمثيل في إطار فرقة تتولّى إدارة شؤونها بنفسها، وتقمّـصت فيها أدوار البطولة في مسرحيّات منها «كليوبترا» للإنجليزي شاكسبير(Shakespeare) و«البرج الهائل» و«عفيفة»، وضمّت هيئة الجمعيّة أعلاما من بينهم الصحفيان عبد العزيز العروي (1898-1971) والهادي العبيدي والشاعران عبد الرزاق كرباكة ومحمود بورقيبة والأديب المولع بالفنون جمال الدين بوسنينة (1899-1945) الذي لعب دورا في مسرحية «البرج الهايل»وهو إضافة إلى ذلك أحد الأعضاء الفاعلين في الرشيديّة بعد تأسيسها سنة 1934 (حسب ما جاء في الصفحة 250 من كتاب: نشأة الرشيديّة، المعلن والمخفي، تأليف المختار المستيسر).
ساهمت فضيلة خيتمي كممثّـلة في أنشطة جمعيات وفرق مسرحيّة بمناسبة إقامتها بالجزائر من سنة 1944 إلى أواسط الخمسينات، حيث لعبت أدوار «شجرة الدرّ» و«الزهراء» و«غادة الكاميليا»، كما شاركت في فرقتي «ألف ليلة وليلة» و«الأنصار» وفي جمعيّة «شهرزاد» بإدارة الشاعر مفدي زكريا (1908-1977).وواصلت نشاطها المسرحي في تونس بتأسيس فرقة «مسرح اليوم»، ولم تطل تجربتها إذ دعيت سنة 1957 إلى الالتحاق بأسرة الإذاعة التونسية بصفتها ممثّـلة ثمّ إعلامية ومنتجة.
عملت مذيعة بمحطّة الإذاعة الجزائريّة ثمّ في الإذاعة التونسيّة منذ أواسط القرن العشرين واشتهرت ببرنامجها اليومي «حصّة المرأة» الذي كانت تشرف عليه على امتداد أكثر من ثلاثين سنة مع نخبة من نساء تونس من بينهم الأديبة ناجية ثامر والمذيعة سيّـدة المحرزي، وساهمت بذلك في تثقيف النساء من خلال تقديم المعلومات في قطاعات مختلفة تهمّ حياتهنّ اليوميّة كالصحّة والعمل المنزلي والتزويق والطبخ وغيرها.
لم تقتصر مسيرتها على الغناء والمسرح بل كانت شغوفة بالأدب، تنهل من ينابيعه الصافية من خلال اتّصالها بنخبة من أدباء عصرها في إطار «نادي عريب» الذي أسّسته للغرض، وأظهرت مواهب في الموضة حيث كانت وراء انتشار «مريول فضيلة» ذلك القميص المميّـز بخطوطه المستطيلة وألوانه الزاهية، الذي يقبلن ذاع صيته وأصبحت النسوة تقبلن على ارتدائه.
تنتمي فضيلة خيتمي إلى الجيل الأول من النساء التونسيّـات، من غير المعتنقات للديانة اليهودية، اللاتي تميّزن بمواهبهنّ في التمثيل والغناء خلال النصف الأول من القرن العشرين، وفي مقدّمتهن شافية رشدي (1910-1989) وحسيبة رشدي (1918-2021)، ورسمت فضيلة اسمها بحروف من ذهب من خلال أنشطتها الفنيّة المتنوّعة الممتدّة على أكثر من نصف قرن، وتركت آثارا لا تمّحي ساهمت بها في بناء ثقافة وطنية جادّة ومنفتحة، فقد تحدّت الصعاب والأفكار المسبقة والتقاليد البالية وخاضت غمار الطرب والعزف والتمثيل والتنشيط الإذاعي مسخّرة مواهبها للمساهمة في التعريف بالثقافة التونسيّة،داخل البلاد وخارجها، وفي بناء تونس الجديدة القادرة على التخلّص من رواسب التخلّف الذي رافق فترة الاستعمار الفرنسي لبلادنا.
فتحي زغندة
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية