إنّ الحديث عن فاطمة الفهريّة (المكنّاة بأمّ البنين) يحسن أن يتمّ من خلال ذكر ثلاثة فصول مترابطة وهي وجود سلالة حاكمة (الأدارسة)، ومدينة للتذكّر (فاس) وامرأة مؤسّسة لجامع (فاطمة الفهريّة).
إدريس الأوّل وإدريس الثاني المقدّسان المؤسّسان
يرتبط تقديس مدينة فاس بقدسيّة الأدارسة، فالمعلوم أنّ إدريس بن عبد اللّه بن الحسن المنحدر من الجيل الخامس للرّسول غادر مكّة ثمّ المدينة على إثر فشل ثورة أضرم نارها ابن أخيه الحسين بن عليّ والتجأ إلى المغرب وبالتحديد إلى قبيلة نفزة البربريّة. وفي الوقت الّذي كانت فيه أمّ إدريس الأوّل عربيّة الأصل وتسمّى عتيقة بنت عبد الملك بن الحارث المخزوميّة، كانت كنزة البربريّة هي الزوجة بلا زواج للفارّ إدريس الأوّل وحاميته ومستشارته، وهي كذلك أمّ ابنه إدريس الثاني، وهكذا حصلت الرابطة الدمويّة بين العرب والبربر.
وخلافا لرواية تأسيس القيروان فإنّ تأسيس فاس أظهر دور البربر في حماية مؤسّسها. بعد مصرع إدريس الأوّل مسموما على يد مبعوث الخليفة العبّاسي هارون الرشيد، عمل ابنه إدريس الثاني بعد اشتداد عوده ومناصرة أهالي إفريقيّة والأندلس له، على توطين الوافدين من القيروان لمبايعته على الضفّة اليسرى لوادي فاس. ومنذ ذاك الوقت أصبح الموقع يسمّى مدينة القرويّين. أمّا أهل الأندلس فتمّ توطينهم على الضفّة اليمنى للوادي.
وقد لقّب إدريس الثاني بسليل آل البيت وآدم الصالحين ومؤسّس مدينة فاس المقدّسة.
من هي فاطمة الفهريّة القيروانيّة؟
جمعت فاطمة الفهريّة، أصيلة القيروان، بين القداسة والعلم: فاسمها هو مثل اسم فاطمة بنت الرّسول، وعائلتها قرشيّة وفهريّة، وهي بالّتالي من سلالة قبيلة مؤسّسة في الإسلام ولها نفس اسم امرأة هاجرت مع الرّسول من مكّة إلى المدينة ونقلت عنه الأحاديث المتعلّقة بنفقة المرأة المطلّقة بلا رجعة وهي فاطمة بنت قيس الفهريّة.
وقد مثّل وصول فاطمة الفهريّة (أو فاطمة أمّ البنين كما كانت تلقّب) وشقيقتها مريم إلى فاس رفقة والديهما محمّد بن عبد اللّه الفهري، أحد كبار أغنياء تجّار القيروان وأصيل قبيلة هوّارة، حدثا بارزا ومرحلة هامّة من مراحل انتشار الفهريّين ببلاد المغرب، وكان ذلك خلال إمارة يحيى بن محمّد بن إدريس الّذي تولّى السلطة سنة 234هــ/849م وهو خامس أمراء فاس. ولمّا توفّي محمّد بن عبد اللّه الفهري ترك ثروة طائلة فاّتفقت فاطمة ومريم على استثمارها فيما ينفع النّاس.
شرعت فاطمة في بناء جامع عدوة القرويّين الّذي أخذ مكان مسجد الشرفاء أي جامع إدريس الثاني. أمّا أختها مريم فقد تولّت بناء جامع الأندلسيّين على موقع جامع أشياخ العدوة الأندلسيّة.
وقد أدركت فاطمة الفهريّة المنيّة حوالي 266 هـ/ 880 م وهي لا تزال منهمكة في إكمال هذا المعلم الّذي سوف يكون له شأن، وأيّ شأن، في مجال الحياة الدينيّة والعلميّة.
جامع القرويّين
على امتداد فترة بناء جامع القرويّين كانت فاطمة تتضرّع إلى اللّه حتّى يتمّ البناء على الوجه الأكمل. وأذنت بحفر بئر وسط الصحن ليشرب النّاس. وقد أضاف أحمد بن أبي بكر اليفرني إلى الجامع فيما بعد مئذنة، وكان ذلك سنة 345 هــ أي بعد بناء الجامع بمائة سنةكما تنصّص عليه نقيشة مثبتة بالزاوية الشرقيّة للمعلم. وفي مرحلة أخرى تمّ توسيع الجامع من طرف المنصور بن أبي عمير وجلب إليه الماء وبنى به سقاية وحوضا بباب الحفاة.
لقد تمّت توسعة جامع القرويّين على التوالي من طرف ملوك لمتونة والمرابطين والموحّدين ثمّ المرينيّين الّذين سعوا إلى صيانته وتجميله وتوسيعه مرّة أخرى مثلما جاء في كتاب العبر لابن خلدون نقلا عن ابن أبي زار: «...واختطّ بعد ذلك أحمد بن سعيد بن أبي بكر اليفرني صومعته سنة خمس وأربعين وثلاث مائة على رأس مائة سنة من اختطاط الجامع، حسبما هو منقوش في الحجارة بالركن الشرقي منها. ثمّ أوسع في خطّته المنصور بن أبي عامر، وجلب إليه الماء وأعدّ له السقاية والبيلة بباب الحفاة منه. ثمّ أوسع في خطّته آخر ملوك لمتونة والموحّدين وبني مرين. واستمرّت العناية به، وانصرفت هممهم إلى تشييده والمناغاة في الاحتفال فيه.» (العبر، الجزء الأوّل ص 40-41).
وبذلك أصبح هذا الجامع من أجمل جوامع بلاد المغرب ثمّ نشأت به شيئا فشيئا جامعة تشتمل على مكتبة ضخمة لتجعل من الجامع قطبا علميّا ودينيّا ممتازا للمذهب المالكي، شأنه شأن جامع الزيتونة بتونس والجامع الأزهر بالقاهرة.
منيرة شابوتو (الرمادي)
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية