وُلدت فاطمة حدّاد الشامخ سنة 1936، وتوفّيت في 2 ماي 2013، وهي تنتمي إلى وسط عائلي بورجوازي مثقّف يسّر لها طريق الدراسة وشجّعها على الالتحاق بالتعليم العالي، فانتقلت إلى فرنسا حيث درست الفلسفة بالتوازي مع اللّغة والآداب الإنجليزية، ونجحت في مناظرة التبريز في الفلسفة سنة 1961، ثمّ عادت إلى تونس ودرّست في التعليم الثانوي قبل أن تلتحق بالجامعة التونسية سنة 1967، حيث درّست في كلية الآداب والعلوم الإنسانية إلى أن بلغت سنّ التقاعد، وبقيت تواصل نشاطها البحثي والتأطيري بصفة أستاذة متميّزة.
ناقشت سنة 1977 رسالة دكتورا دولة أعدّتها تحت إشراف الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، تناولت فيها موضوع الفلسفة النسقيّة ونسق الفلسفة السياسيّة عند سبينوزا (Philosophie systématique et système de philosophie politique chez Spinoza)، ففتحت لها هذه الرسالة أبواب الشهرة، لا سيّما بعد أن تُرجمت إلى لغة الضّاد وجرى توزيعها في بلدان العالم العربي، وأذاعت صيتها في الأوساط الجامعيّة الوطنيّة والأوروبيّة، ودُعيت صاحبتها للمشاركة في ملتقيات عالميّة كما دعيت للتدريس بصيغ مختلفة في عدد من الجامعات الأجنبيّة. وفي هذه الرسالة المتميّزة، أرادت الفيلسوفة، بفضل قراءة جديدة ومقاربة لم تكن بعدُ مألوفة، إعادة موضعة أنثروبولوجيا سبينوزا وسياسته ضمن نسقه العام، وأن تبيّن كيف إنهما ، بدل أن تنفصلا عنه أو أن تحلاّ فيه محلّ التذييل، تندمجان فيه وتؤلّفان عنصرا من عناصره الهيكلية. ولقد كان غرضها من خلال تقصّيها لمذهب سبينوزا هو أن تنزّل ضمنه مبحثه السياسي، كي تبيّن أنّ المشروع السياسي ليس ثانويّا أو عرضيّا بقدر ما ينصهر في النواة المركزية (الإيتيقا)، حتى وإن كان الخطاب السياسي يُطرح في كتابات جانبية (الرسالة اللاهوتية السياسية والرسالة السياسية). وعموما فإنّها أرادت أن تتطلّع إلى ما تكشف عنه النصوص، وإلى الانجاز الفعلي للمذهب وإلى إبراز بنية النّسق برمّته : أي أن تتطلّع إلى وجود نسقٍ فلسفيٍّ سياسيٍّ عند سبينوزا.
لقد دأبت فاطمة حداد-الشامخ على اقتفاء خطوات سبينوزا وعلى ربط الفلسفة السياسية عنده بنسقه الفلسفي، فكان لا بدّ لها من خطّة عمل تمثّلت في البحث عن أسس الفلسفة السياسيّة في الإيتيقا، وعن مبادئها في الرسالة اللاهوتيّة السياسيّة، وعن مقولاتها في الرسالة السياسيّة.
وإضافة إلى هذه الرسالة الجامعية التي تُمثّل أهمّ عمل أنجزته، أنتجت فاطمة حدّاد الشامخ كمًّا هائلا من الدراسات والبحوث، كما ساهمت في العديد من المؤتمرات والملتقيات والندوات في تونس وفي أوروبا.
وإلى جانب ذلك، كان لدكتورة الفلسفة إسهامات رائدة في جمعيات ومراكز مختلفة، بصفة ناشطة أو بصفة عضو، نخصّ بالذكر منها «مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة» (CREDIF)، و«اللجنة الوطنيّة للأخلاقيات الطبّية» (CNEM). كما كانت تنتمي قبل ذلك إلى الحزب الاشتراكي الدستوري التونسي، وإلى اللجنة المركزيّة للاتحاد الوطني للمرأة التونسية (UNFT)، وإلى جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية (AFTURD).
وبالتوازي مع كلّ ذلك اضطلعت فاطمة حدّاد بمهامّ إدارية وبمسؤوليات مختلفة، لعلّ أهمّها إدارتها لقسم الفلسفة بكلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بتونس لسنوات عديدة، وإدارتها لعمادة كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بمنّوبة، فضلا عن عكوفها المستمرّ على تدريس الفلسفة بتونس كما بجامعة السينيغال وبعدد من الجامعات الأوروبية بصفة أستاذة زائرة.
جاءت مؤلّفات فاطمة حدّاد في معظمها باللّغة الفرنسية، وجاء بعضها باللّغة الإنجليزية، ولم يُنقل منها إلى العربية إلاّ القليل. ويمكن لقارئها أن يستخلص المنبع الرئيسي الذي استلهمت منه تفلسفها، والهاجس الذي ما انفكّ يراودها، والهدف النبيل الذي سعت إليه إلى آخر رمق من حياتها. ولقد لخّصت ذلك بنفسها، في مداخلة بعنوان «التفلسف هنا والآن»، صدرت ضمن أعمال ملتقى «التفلسف اليوم وهنا» الذي أُقيم تكريمًا لها في أفريل 2003 بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، حيث قالت: «ما هي نصوص سبينوزا التي ألهمتني ؟ كان أوّلها كتاب الإيتيقا؛ وهو نصٌّ صعبٌ معقّدٌ غزيرٌ جعلني أدرك أنّ السؤال الحقّ، بل وظيفة التفلسف الحقّ بالنسبة إلى كلّ كائن بشري إنّما تتمثل في تحرير الذات من عبوديّة الأهواء ومن الانفعالات المضطربة، وذلك بإنماء نشاط العقل الذي تظهر علامته في الشعور بالبهجة والفرح كما في تفتّق الكينونة واقتدارها. لكن لا يفوتني أن أذكر أيضا الرسالة في اللاهوت والسياسة وكتاب السياسة، لأنّ شغلي الشاغل كان ولا يزال، زيادة على الأنثروبولوجيا («علم الإنسان») وعلى الإيتيقا، هو فلسفة سبينوزا السياسية، ومفهَمته للسياسي، وتطويره لمفاهيم سياسية مثل مفهوم الدولة، والسلطة، والقانون، والمؤسسة، والحكم، وبقاء الدولة أو انهيارها، والثورة، والمواطنة، وأخيرا «تفكيكه» للسلطة السياسية إلى معنييْ القدرة السياسية والعنف السياسي، إذ لم يحصل هذا التفكيك مع كبار المفكّرين السياسيين في العصور الحديثة، وخاصة منهم ماكيافلّي وهوبز اللّذين يذكرهما ويقف قبالتهما. ففي الرسالة اللاهوتية السياسية، قدّم سبينوزا «خطابا في المنهج»، أي في منهج تأويل نصوص العهد القديم المقدّسة بالاستناد إلى علميْ الفيلولوجيا والتاريخ. ولقد تسلّح بما ينبغي من المفاهيم كي يتفكّر في الدّيني، وكي يفكّر في بنيته من المنظور الثيولوجي ومن منظور الوحي النبوي كما من منظور الشرع المؤسس لشعائر العبادة. وفي اعتقادي أنّنا نستطيع، بفضل هذا المنهج، أن نُخضع النصوص اللاهوتية والفقهيّة في الإسلام لقراءة جديدة، في سبيل التمييز بين الديني والأخلاقي، وفي سبيل تفكيك وتشريح دواليب الفكر الخرافي والفكر المتعصّب والفكر اللاّ متسامح المهووس بكُره الآخر» («التفلسف الآن وهنا»، ص. 157-158).
كانت الأستاذة فاطمة حدّاد - الشامخ، شأنها شأن الفلاسفة الذين سطع نجمهم واشتهروا كمدرّسين أكثر مما اشتهروا كأصحاب مذاهب فلسفية، رائدة للبحوث والدراسات السبينوزيّة بالجامعة التونسية، حيث درّست ما يناهز أربعة عقود وكوّنت أجيالا من أساتذة الفلسفة.
كان يَشهد لها الجميع بنجاح أسلوبها في التدريس وصرامتها في التعامل مع النصوص الفلسفية، كما شهدوا لها بسعة ثقافتها ومدى اطّلاعها على الفلسفة الأنجلو- سكسونية، فضلا عن الفلسفة القارّية والفلسفة الإسلاميّة والفلسفة الإفريقيّة. ومن المأمول أن يتمّ نشر دروسها ومقالاتها بعد نقلها إلى اللّغة العربية، تحقيقا لرغبة دفينة لا شكّ أنّها كانت تستحضرها يوم كتبت قائلة: «اخترتُ القيام بدروس حول مسائل في الفلسفة السياسية والأخلاقية بقدر ما تسمح به البرامج التعليمية؛ فتناولتُ فيها علاقة الأخلاق بالسياسة، ومسائل الحقّ والقانون والعدل والحرية والمسؤولية وحقوق الإنسان، إلخ. وكنتُ أعمل في أثناء دروسي في تاريخ الفلسفة على محوَرة تلك المسائل ومفهَمتها من خلال نصوص أفلاطون وسبينوزا وكانط وهيجل، وأيضا من خلال نصوص الفلاسفة الأنجلو-سكسونيّين من القرن السابع عشر إلى القرن العشرين. أردتُ من خلال هذه النصوص أن أُطلع طلبة الفلسفة على وجهٍ آخر للتحوّل الاجتماعي ولتغيّر البنى الفكريّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسية للشعوب والأوطان غير ما تُريه الحروب العنيفة المدمّرة وغير الحروب الأهليّة والحروب الثورية، وخاصّة غير حروب الاحتلال أو الحروب الوقائية. وعوضا عن الصراع القاتل والحرب المدمّرة، اقترحت التفلسف بما هو شكل من أشكال المواجهة والصراع الفكري قد يكون أجدى وأثرى وأنفع على المدى المتوسط وعلى المدى البعيد...» («التفلسف الآن وهنا»، ص. 160)
نشرت فاطمة حدّاد كلّ أعمالها باللّغة الفرنسية أو الإنجليزية، وتُرجم بعضها إلى العربية، ونوجّه الباحث الذي يرغب في الاطّلاع عليها عن كثب إلى القائمة الموجودة ضمن الكتاب الذي أُعِـــدَّ تكريما لأستاذة الأجيال: التفلسف اليوم وهنا، نصوص جمعها وأعدّها للنشر محمد محجوب، تونس، دار سَحَــر للنشر، 2007.
جلال الدّين سعيد
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية