ولدت قلاديس سيالوم عدّة بمدينة قابس بالجنوب التونسي يوم 02 جوان 1921 وتوفّيت بتونس العاصمة يوم 29 ديسمبر 1995. كانت نشأتها في عائلة سيالوم اليهودية حيث استقر جدّها بتونس سنة 1860 قادما من مدينة ليفورنة الإيطالية ليعزّز بذلك صفوف طائفة يهود «القرانة» الذين كانوا استقروا بتونس منذ منتصف القرن الثامن عشر بعد أن سبق للعديد منهم المشاركة في التجارة المتوسّطيّة ووفي ربط علاقات تجارية بين إيالة تونس وأهمّ المواني المتوسّطيّة. اتخذ يهود «القرانة» من حاضرة تونس موطنا لهم مكونين مجموعة محدودة العدد لكنّها صاحبة تأثير ثقافي واقتصادي مقارنة باليهود «التوانسة» المستقرين بالبلاد التونسيّة منذ أقدم العصور والذين كانوا في أوضاع اجتماعية وصحيّة سيئة متجمّعين في حي الحارة- الحفصيّة الخاصّ بهم . ونظرا إلى التباين الاجتماعي واللغوي بين اليهود «القرانة» و «التوانسة» فقد كان لكلّ منهما نمط عيش ودور عبادة خاصة به وامتدّ هذا التمايز حتّى إلى أماكن الدفن.. ولاشك أنّ قرار عائلة سيالوم الأستقرار بمدينة قابس كان له صلة بتحول هذه المدينة إثر انتصاب الحماية إلى مقرّ للقيادة العسكريّة المشرفة على كامل التراب العسكري بالجنوب التونسي حيث هبّ عديد التّجار ومقدّمي الخدمات لتوفير ما تحتاجه الإدارة العسكريّة المتكوّنة من كبار الضبّاط والمشرفين على تموين الجيش والذين كانوا مرفقين بعائلاتهم وهو ما أوجب بناء حي جديد (باب بحر) سينضاف إلى الأحياء القديمة للمدينة. وفي هذا الحي الجديد كان استقرار عائلة قلاديس.
ورغم أنّ أفراد العائلة لم يكونوا من بين الميسورين أو كبار الأثرياء بل من الطبقة البرجوازية المتوسّطة، إذ امتهن والدها نقل البضائع بين مدينتي تونس العاصمة وقابس، فإنّ الشعور العام السائد لديهم هو تمايزهم عن فقراء اليهود باعتبار انتمائهم للمكون القرني من حيث نمط الحياة والعيش : تقول قلاديس «تربيتي كانت عصرية حيث كان تعلم الفتاة أمرا طبيعيا لدينا وكنت أتمتع بحريتي وكان باستطاعتي استقبال أصدقائي في المنزل حتى وإن كانوا ذكورا وكانت حياتنا تقوم على عدد من القواعد التي لا يمكن الحياد عنها مثل اجتماع كل العائلة حول مائدة الطعام أو ضرورة تناول فطور الصباح قبل الذهاب إلى المدرسة» (نساء وذاكرة ص. 51). ورغم أنّ والدتها لم تكن «قرنية» فهي سليلة عائلة أصيلة مدينة باتنة الجزائرية الواقعة بجبال الأوراس فقد كانت بدورها حريصة على مزاولة ابنتها للتعليم وهي لم تنس أنّ قدومها إلى قابس كان من أجل الحصول على شهادة التعليم الابتدائي نظرا لانعدام وجود مدرسة بمدنين حيث كان والدها يشرف على فندق صغير. أتمّت قلاديس تعليمها الابتدائي وشرعت في مزاولة تعليمها الثانوي قبل أن تضع حدّا لذلك في سنّ الخامسة عشرة إثر زواجها الأول من يهودي أصيل قابس ينتمي لعائلة سعادة الثرية. ومع تأكيدها أن الزواج المبكّر للفتيات كان أمرا متداولا فإنّ قلاديس اعتبرت أنّ قبولها ذلك يعود بالأساس إلى رغبة غير واعية وهي الهروب من الخصام والتّوتر الذي ميّز علاقات والديها والذي انتهى بفراقهما (نساء وذاكرة ص.53). وبعد أن قضّت قلاديس سبع سنوات ونصفًا متزوجة تعيش وسط عائلة سعادة الثرية أنجبت خلالها ابنها الأول نوربار الذي اشتغل بالإنتاج السينمائي في فرنسا قرّرت بدورها الانفصال عن زوجها وكان ذلك في أواخر سنة 1943 وغادرت مدينة قابس لتستقرّ بتونس العاصمة وتبدأ مرحلة الالتزام السياسي والاجتماعي.
واللاّفت للانتباه أنّ من شجعها على هذا المنعرج الجديد في حياتها هو الزيارات العديدة التي كانت تقوم بها رفقة زوجها إلى تونس العاصمة حيث كانت تلتقي بجزء آخر من عائلة زوجها المستقرين بالعاصمة وخاصة صديقتها وشقيقة زوجها بياتريس سعادة التي كانت قد التحقت بصفوف الحزب الشيوعي وشاركت في التصدي للحضور الألماني بتونس رفقة عدد من الشباب المتعلّم والمنحدر من أوساط القرانة (بوشرارة، 2020) . نقطة التحوّل في مجرى حياتها كانت اتصالها بدعوة من صديقتها لمساعدة مجموعة من أنصار الحزب الشيوعي في قابس في إعداد اجتماع سياسي كان سيخطب فيه علي جراد تمّت برمجته في قابس إلاّ أنّه في النهاية لم يتسنّ عقده.
مثّل ذلك الحدث نقطة تحوّل في مسيرتها حيث شرعت في المقارنة بين نوعية حياتها وما كانت تسمعه من نقاشات في منزل بياتريس كلّما زارتها في تونس وتتجاذب أطراف الحديث مع الشباب المتسيّس الناشط في صفوف الحزب الشيوعي التونسي الذين كانت تلتقي بهم من أمثال علي جراد ولوريس قاليكو، ومحمد النافع إلخ.. وظلّت الأفكار تختمر في ذهنها إلى أن جاء يوم الحسم في إحدى زياراتها للعاصمة حين دعت زوجها إلى العودة بمفرده إلى قابس وطلبت منه الطلاق.
كان استقرار قلاديس في تونس العاصمة إعلانا عن مرحلة جديدة أعطت فيها الأولوية المطلقة للعمل السياسي والاجتماعي وتواصلت من سنة 1944 إلى سنة 1958 ويمكن اعتبار زواجها بالمناضل جورج عدة سنة 1946 أحد تجلّيات هذا التحول الجديد في حياتها. وتذكر قلاديس أنّ انخراطها في الحزب الشيوعي التونسي مثل قطعا مع نمط عيش تميز بالرتابة والرخاء باعتبار الإمكانيات التي كانت متوفرة لها ضمن حياتها الزوجية الماضية.
مثّل إنجابها سنة 1948 لتوأمين (سارج وليلى) مناسبة للتساؤل عن وضعها العائلي وصعوبة التوفيق بين تربية ابنيها ومواصلة القيام بالأعمال النضالية التي اعتادت القيام بها منذ استقرارها بتونس وانخراطها في النشاط الشيوعي. لذلك نراها تتجه أكثر فأكثر إلى النضال في صلب الجمعية النسائية «اتحاد نساء القطر التونسي» التابعة للحزب الشيوعي التونسي التي تأسست سنة 1945 والتي ترأستها في مرحلة أولى شارلوت جولان وهي أمّ لمناضل شيوعي كانت عائلته مستقرة بتونس كان تطوع في الحرب الثانية وتوفّي في معركة تحرير باريس من الاحتلال الألماني في شهر أوت 1944 . ومنذ بداية خمسينات القرن الماضي إلى غاية حلّ هذه الجمعيّة في جانفي 1963، تولّت رئاستها السيدة نبيهة بن ميلاد وكان ذلك في إطار مزيد إبراز الطابع الوطني للنشاط النسائي (نساء وذاكرة ص.2) وقد تحمّلت قلاديس لسنوات عديدة مسؤوليّة الكتابة العامة لهذه الجمعيّة. (إلهام المرزوقي ص. 99). شاركت قلاديس بفعالية في أنشطة اتّحاد نساء القطر التونسي و ساهمت بذلك في معارك جمعت بين المهام الاجتماعية والسياسية وفق المهمات التي طرحها الحزب الشيوعي التونسي غداة الحرب العالمية الثانية ومن بينها المطالبة بتعويض المجلس الكبير بمجلس تأسيسي منتخب والانخراط في الحملات لمجابهة أخطار المجاعة والقيام بالأعمال الخيرية بتوزيع المعونات على العائلات المعوزة. وقد تعددت مظاهر نشاط اتحاد نساء القطر التونسي إذ شملت القيام بحملات لحثّ الأولياء على إرسال أبنائهم للدراسة والاهتمام بصحّة النساء حيث وقع بعث مصحّة أشرف عليها اتحاد النساء وكذلك تنظيم دروس محو الأميّة لفائدة النساء (ذاكرة نساء، ص. 65)، كما كان للمنظمة النسائية بداية من جانفي 1952 دور هام في مساندة ضحايا القمع الاستعماري في فترة المواجهات من 1952 إلى 1954، وقد وسّعت هذه المنظمة نشاطها ليشمل الاهتمام بالجرحى من المقاومين الجزائريّين الذين كانت تتمّ معالجتهم في تونس. ورغم تواصل نشاط هذه المنظمة النسائية في الفترة التي عقبت الاستقلال بصفة قانونية إلا أنّها أصبحت عرضة للمضايقة فلم يعد بإمكانها المبادرة بأيّ نشاط أو تحرك دون أن تواجه بتوجّس وريبة من الحكومة (شهادة نبيهة بن ميلاد لإلهام المرزوقي، ص. 139). أمام تضاؤل فرص النشاط المستقل بسبب العراقيل التي كانت تضعها الحكومة والحزب الدستوري للحد من نشاط اتحاد نساء القطر التونسي الذي لم يبق منه مع مرور الأيام سوى أعضاء الهيئة المديرة، بدأت قلاديس تبحث عن مجال تشتغل فيه. وخلال المدة التي قضاها زوجها جورج في السجن خلال سنتي 1952 و 1953 اشتغلت كاتبة في مقرّ تعاضدية الخياطين بنهج المالطيين بتونس وهو نفس الشغل الذي كان يتعاطاه جورج ثم تمّت دعوتها بداية من سنة 1958 إلى العمل بالشركة التونسيّة للبنك التي تمّ إحداثها في تلك السنة. فساهمت من خلال هذا العمل في بناء بنك وطني تونسي في وقت غادرت فيه الإطارت البنكية الفرنسيّة البلاد. وتواصلت المغامرة حتى خروجها إلى التقاعد في 30 جوان 1981 .
لم يكن لقلاديس في البداية سوى شهادة الدخول إلى التعليم الثانوي، إلاّ أنّها أنهت مسيرتها المهنية كإطار بنكي سام مختصّ في التوثيق وكخبيرة دولية معترف بكفاءاتها. فبعد فترة قضتها في التكون عبر متابعة الدروس المسائية التي كانت تلقى في كلية الحقوق وفي معهد باش حامبة للتوثيق أصبحت بدورها إحدى الرائدات في قضايا التوثيق والتنمية بحثا وتدريسا. درست بين سنتي 1971 و 1975 في معهد الفنون والمهن بباريس وبعد عودتها إلى تونس ومع مواصلة العمل بالشركة التونسيّة للبنك مديرة للدراسات والتنمية فإنها كانت تقدّم دروسا في المدرسة الوطنية للإدارة، وبداية من 1979 وحتّى خروجها للتقاعد في معهدي الصحافة و التوثيق.
كانت هذه السيّدة الفاضلة رائدة في جميع أطوار حياتها العائلية والنضاليّة والمهنيّة مقدّمة خدماتها بدون حساب. وآخر ما أرادت أن تجسّم من خلاله كرم نفسها والتزامها بخدمة الإنسان والعلم والمبدإ النضالي معا وأن تفيد به غيرها، حتى وهي ميتة، هو تبرّعها بجسدها للاستخدام الأكاديمي بكليّة الطب بتونس، وذلك في ما بين وفاتها ومواراتها التراب.
توفّيت قلاديس عدّة في 29 ديسمبر 1995 ودفنت في 28 نوفمبر 1996 بـ «تربة أنصار الفكر الحرّ» بمقبرة بورجل بتونس العاصمة.
حبيب القزدغلي
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية