مثّلت حفصيّة بنت علي سلُقّة المرأة التي اقتحمت منذ أواسط الستّينات من القرن العشرين فضاء رجاليًّا صرفا هو العمل بمناجم الفسفاط، وهو مجال عادة ما كان مرتبطا في المخيال الجماعي بقوة البنية الجسديّة وبالخصائص المنسوبة عادة إلى الذكور. واشتهرت حفصية بلقب «اللّبّة» (أي اللبؤة) اعترافا باكتسابها من خلال تجربتها الحياتية لخصال قوة الإرادة والشجاعة وطاقة التحمّل والصبر وتحدّي المصاعب. وقد مكنتها هذه الصفات من اقتحام العمل المنجمي إلى جانب الرجال وكسب قوتها وقوت ابنيها بعرق جبينها. كان لهذه المرأة الكادحة الفضل في المساهمة في إدخال تغيير على الذهنيات السائدة وفي إضعاف فكرة التفوق الذكوري في وسط ما فتئ يرزح تحت موروث ثقافي محافظ يكبّل الأجيال المتعاقبة ويحدّ من قدرتها على الانفتاح وعلى تقبّل الأفكار والسلوكات الجديدة.
إنّ دراسة مسيرة هذه المرأة تساعد على فهم صيرورة مراكمة المجتمع التونسي للعديد من التجارب الريادية لبعض النساء، والتي وفّرت الأرضية لتعزيز الدور الاجتماعي للمرأة ودعمت مشروعية النضال النسوي والهادف إلى تحقيق المساواة التامة بين الجنسين. ويقتضي ذلك الوقوف على خصائص البيئة التي نشأت فيها هذه المرأة والتحدّيات التي كانت مطالبة بتذليلها حتى تتبيّن الصبغة الريادية لانخراط حفصية في العمل المنجمي وتأثير ذلك على خلخلة الأفكار المسبّقة والنمطية وتجاوزها.
ولدت حفصية في 5 جويلية 1934 ببلدة الرديف المنجميّة (مجلة أصداء المناجم، شركة فسفاط قفصة، عدد 18، سبتمبر 1995) وتنتسب عائلتها إلى أحد بطون قبيلة الهمامّة التي كان مجال حركتها الجزء الأكبر من ولايتي سيدي بوزيد وقفصة اليوم (انظر مثلا:التليلي، مصطفى، منطقة قفصة والهمامة في عهد محمد الصادق باي 1859-1882، دار صامد للنشر، تونس، 2004).
وقد شكّل اكتشاف البيطري الفرنسي فيليب توماس (1843-1910) للفسفاط بجهة المتلوي، غربيّ مدينة قفصة، في 1885/1886 حدثا فارقا في تاريخ المنطقة، لأنّه أفضى إلى بعث شركة لاستغلال مناجم الفسفاط سنة 1897 تحت تسمية «شركة الفسفاط والسكك الحديدبة بقفصة». وتمكّنت هذه الشركة المسنودة من قبل سلطة الحماية الفرنسية وإدارتها الاستعمارية من بسط سيطرتها على مصادر إنتاج الفسفاط والمنطقة عامة.
(Doughui, Noureddine, «La Naissance d’une grande entreprise coloniale de la Compagnie des phosphates et de chemin de fer de Gafsa», dans: Cahiers de Tunisie, n° 119-120, 1982, FSHST, p 123- p 164.)
وبذلك نشأت تباعا ثلاثة مراكز منجمية: المتلوي ثمّ الرديّف (الخنفوس) وبعد ذلك أم العرايس. وتكفّلت شركة موازية باستغلال مركز رابع وهو منجم المظيلة ابتداء من 1920.
شجّعت السلطة الاستعمارية بدافع الاعتبارات الأمنيّة والرغبة في الاستغلال الواسع والمكثّف للثروات الطبيعية، على استقرار السكان الرحّل وشبه الرحّل بالمدن المنجمية الناشئة والتي أصبحت أقطاب جذب ليد عاملة متنوعة. وأنتجت طاقة الانتداب الواسعة بمناجم الفسفاط أدفاقا هجريّة تجاوز مداها حدود القطر التونسي. فبلدة الرديّف، التي رأت فيها حفصية النور وعاشت واشتغلت بها، كانت، كمثيلاتها، تضمّ عمّالا ينحدرون من أوساط قبلية متنوعة (أولاد بويحيى، أولاد سيدي عبيد، أولاد سلامة) وواحيّة (الجريديّة) وكذلك من الوافدين من طرابلس (الطرابلسية) ومن الجزائر (السوافة) وحتّى من المغرب الأقصى (المراركة)، إلى جانب الأوروبيّين الذين يمثلون الإطارات العليا والوسطى لشركة الفسفاط و«الأرستقراطية» العمالية وهم بدورهم من جنسيات مختلفة (فرنسيون، إيطاليون، مالطيون، أسبان). وكان الفضاء المبني في المدن المنجمية يعكس التباينات القبلية والعرقية بصورة تجعل الأفراد مشدودين دوما إلى الرّوابط الجماعويّة التي، وإن أضعفتها الدعاية السياسية (الحزب الدستوري والحزب الشيوعي) والتضامن النقابي (الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي)، ظلت قائمة ومؤثّرة بصورة أو بأخرى في سلوكيات الأفراد المطالبين دوما بالالتزام بالأعراف والعادات التي تعيد تلك الأطر الجماعويّة إنتاجها
(Tlili, Mustapha, «Tribus d’hier et d’aujourd’hui», dans : Maghreb Magazine, n° 10/11, juillet/août 2012.).
تزامنت ولادة حفصيّة سنة 1934 بالرديّف مع سياق الثلاثينات من القرن العشرين الذي شهد مخاضا سياسيا وثقافيا مبشّرا بحدوث تحوّلات طالت الوعي الجمعي للتونسيين. عاشت حفصيّة، مثل بنات وأبناء جيلها، الأجواء الحماسية التي واكبت تحقيق حلم التحرّر من الاستعمار سنة 1956 والآفاق التي بدأت في فتحها دولة الاستقلال ولاسيّما تأميم شركة الفسفاط التي كانت تعدّ المشغّل الرئيسي لليد العاملة في ربوع الجنوب الغربي. ولم تكن هذه المرأة تختلف عن غيرها من نساء بلدة الرديف، حيث لم تتردّد على المدرسة وخضعت للقاعدة الاجتماعية المتداولة بأن المرأة لا خيار لها سوى التزوج من رجل يعيلها. فتزوجت حفصية وأنجبت ولدا وبنتا، وكانت كلّ آمالها أن تعيش في كنف عائلتها وأن تتوفّر لها الحاجيات الدنيا مادّيا ومعنويا. غير أنها أصيبت بخيبة أمل في حياتها الزوجية التي لم تحقّق لها الاستقرار وانتهت بانفصالها عن زوجها.
واجهت حفصيّة الصورة النمطيّة الملحقة بالمرأة المطلّقة في وسط اجتماعي لا يعترف بسهولة بخصوصيّة الفرد ولا يكون فيه الفرد سيّد نفسه، لاسيّما عندما يتعلق الأمر بالأنثى إذ تكون الحياة الخاصّة للمرأة شأنا يتدخّل فيه الأب والأخ والزوج والأقارب ورجال العرش والحومة... وتكون في كلّ أعمالها، بالضرورة، في حاجة إلى مراعاة ردود أفعالهم ومشاعرهم وأحكامهم. تحمّلت حفصيّة في أول الأمر العيش تحت وطأة انعدام المدخول والاحتياج وقبلت المساعدات المقدّمة من قبل الأقارب ولكنّها سرعان ما أصبحت ترى في ذلك مسّا من كرامتها واستنقاصا من إنسانيتها فقرّرت مواجهة هذه الأوضاع التي لم تخترها، بصورة غير مسبوقة تمثّلت في البحث عن مورد رزق قارّ من خلال الحصول عن موطن شغل في قطاع المناجم.
ذكرت حفصيّة في الحديث الذي أدلت به للسيد عبد الحميد الطبابي في أواسط التسعينات والمنشور في نشرية «أصداء المناجم»، بكل فخر، أنها اتصلت بالمسؤول الفرنسي عن منجم الرديف، «المسيو بودار» لطلب الشغل وعبّرت عن استعدادها للعمل حتى في «الداموس» (أي المنجم الباطني)، رغم أخطاره، وتمكّنت من اقتلاع موافقته على تشغيلها. وتسلّمت حفصية أدوات العمل الأساسية: «الكاسكة والبالة» (الخوذة والرفش). ووجدت نفسها ضمن مجموعة من العمّال الرجال. لم يكن اشتغال النسوة في شركة فسفاط قفصة أمرا جديدا باعتبار أن الفترة الاستعمارية شهدت وجود نساء عاملات في الشركة من أصول أسبانية ومالطية وحتى من المنحدرات من أولاد نايل (شاوية الجزائر) وخاصة بالمصالح الخارجية للشركة. لكن ارتداء حفصية ابنة الرديف للّباس الأزرق ووضعها الخوذة على رأسها وحملها للرفش ومباشرتها لعملها واختلاطها بزملائها الرجال فتح بابا جديدا كان موصدا أمام نساء الجهة. وقد نسجت على منوالها لاحقا أخريات، مثل زهرة الحفصي وهي من أصول جريدية والتحقت بالعمل المنجمي في 1968 (أصداء المناجم، شركة فسفاط قفصة، ماي 2009) وأصبح بعد ذلك اشتغال النسوة في العمل المنجمي بالرديف أمرا مألوفا وشمل نساء من مختلف الفرق المقيمة بالرديف خاصة من أرامل العمال المتوفين في حوادث الشغل ومن اللاتي لم يكن لهنّ عائل لسبب أو لآخر.
تمثّلت المهمّة التي كلّفت بها حفصيّة، اعتمادا على قاعدة «الياطاش» (à la tâche)، أي حسب الحدّ الأدنى المطلوب، المتمثل في أن تتقاضى الأجر المناسب حسب العمل المنجز. فكان عليها إفراغ حمولة عربة من الفسفاط ثم القيام بتنقيتها من الحجارة والطين وتكسير طوب الفسفاط وتفتيته ثم رفعه إلى شبكة التنقية. وكانت مطالبة بتنظيف دوري للحاوية باستعمال قضبان حديدية ثقيلة يصل طولها إلى حوالي 3 أمتار. وبهدف إثبات جدارتها كانت حفصية تتحمّل ما لا طاقة لها به من أعمال. وبعد انتهاء الشغل كانت تعود إلى المنزل بآلام في العضلات والمفاصل ولكنها تعوّدت تدريجيا على هذا العمل الشاقّ وتيبّس كفّاها وتشقّقا كما يحدث لزملائها من الرجال. وصار وجود حفصية بين الرجال أمرا مقبولا مألوفا. وتعرضت كبقية عمال المناجم إلى حادث شغل عند قيامها بعملها وأصيبت بجروح. كما كانت ضحية صعقة كهربائية في حادث آخر كاد أن يقضي عليها لولا إسعافها من قبل زملائها.
اشتغلت حفصية في «التروازيام بوست» (الحصّة الثالثة) وتمتد بين الساعة الثامنة ليلا إلى الساعة الرابعة صباحا، وهي مضطرّة إلى ترك ابنيها في المنزل. ورغم ثقل أحاسيس الأمومة والخوف على ابنيها، أصبح الخروج إلى العمل من العادات اليومية بالنسبة إليها وإلى طفليها. وكانت مطالبة بعد استراحة قصيرة في بداية الصبح بالقيام بشؤون البيت وبقضاء الحاجيات من السوق وبإنجاز الطبخ لعائلتها. كما حرصت حفصيّة على الالتحاق بمركز محو الأمية لتعلّم القراءة والكتابة، لاسيّما أن دولة الاستقلال كانت لها برامج في تعليم الكبار وخاصة في أوساط النسوة.
تعترف حفصيّة، التي تحصّلت سنة 1987 على حقها في التقاعد المبكّر طبقا لبرنامج الإصلاح الهيكلي القاضي بالتقليص في عدد عمّال شركة الفسفاط والمراهنة على المكننة وعلى استغلال المقاطع، بأنّها كانت قبل اشتغالها تعتبر عمل المرأة في المنجم بدعة فاضحة ولكنّ تجربتها العملية ولّدت لديها الفخر والاعتزاز بكونها أثبتت أنّ المرأة قادرة على الاشتغال حتى في الأعمال الشاقّة والمضنية مثلها مثل الرجل. وهي ترى أن المشكل يكمن في الذهنيّات التي يجب أن تواكب روح العصر: لقد ساهمت مسيرة حفصية في إرباك الأفكار الدونيّة الملصقة بالمرأة والتي تستبطنها حتّى النساء أنفسهنّ حول وضعيتهنّ. وتبقى الشعارات التي ترفعها الحركات النسويّة النخبويّة في حاجة إلى استثمار المجهودات الطبيعيّة لنساء كافحن من أجل لقمة العيش والكرامة من أمثال حفصية «اللبّة». وليس من الصدفة أن تسجّل التحركات الاحتجاجية التي شهدتها الرديف سنة 2008 مشاركة نسائية واسعة.
مصطفى التليلي
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية