ليس كثيرا في حق المسار الاستثنائي لحياة هذه الفنانة التونسيّة التوسّع في توضيح الإطار الاجتماعي العام ّالذي نشأت ضمنه، واستعراض المحطات الكبرى التي شهدتها تلك المسيرة، وتوضيح ملابسات صعود نجمها، فضلا عن استحضار بعض التفاصيل ممّا احتفظت به الذاكرة حول شخصيتها، ومدى تأثيرها في الحركتين الموسيقيّة والسينمائيّة تونسيّا وعربيّا، وكذلك رصيد الأغاني الذي خلّفته، والأشرطة السينمائية التي شاركت في تمثيلها، وهو ما اقترحه علينا كتاب الباحث عبد الرحمان المرساني، «حسيبة رشدي عذابات طفولة...ومجد فنّانة» الصادر على نفقة المؤلِّف سنة 2021.
لقد تبيّن لنا عبر الاطلاع على محتوى هذا الأثر انحدار الفنانة حسيبة رشدي واسمها الرسمي زهرة عبد النبي من قرية «بازينة» الواقعة بمعتمدية جومين من ولاية بنزرت التونسيّة، وهي منطقة ريفية مُنكفئة على ذاتها ترعرعت بها تلك الطفلة حتى سنّ السادسة من عمرها تقريبا. أما أصولها فتعود إلى فرع من قبيلة إلى أولاد سعيد استوطن خلال القرن التاسع عشر «بقيادة» ماطر.
عاشت الفنّانة حسيبة رشدي صبّيةً وبعد انتقال العائلة إلى ماطر ظروفا جديدة قلبت مجرى حياتها. فقد نالها سخط والدها الذي أفرط في تعنيفها بسبب رغبتها الجامحة في السير على خطى الفنانات اليهوديّات، وكنّ يفدن على مدينة ماطر لإحياء الحفلات الخاصة، وهو ما استحوذ على مهجتها وجعلها لا تقاوم رغبتها في ربط مصيرها بعالم الفنّ والغناء، الشيء الذي أثار حفيظة والدها الذي حاول صدّها عن ممارسة ذلك بقسوة وكثير من التعنيف والضرب المبرّج. فلم يكن أمامها، وقد شارف سنّها الحادية عشرة غير الفرار من بيت والعائلة ومغادرة أهلها للإقامة بمدينة بنزرت. غير أنّ خشيتها من أن ينكشف أمرها قد دفعها إلى التوجه للإقامة بعيدا بمدينة صفاقس، حيث تمّ استقطابها للعمل الفني من خلال المشاركة في مسرحية «عبد الرحمان الناصر» صحبة الفنّان محمد الجموسي (1910-1982)، وتمكينها من أداء مجموعة من الأدوار الشرقيّة على غرار «جنة نعيمي في هواك»، وهو دور اشتهرت بأدائه باقتدار كوكب الشرق أمّ كلثوم، وذلك قبل أن تتخّذ قرار الالتحاق بالعاصمة تونس للاستقرار بها.
قامت الفنّانة فتحيّة خيري (1918-1986) - في مبادرة لردّ سابق جميل لحسيبة رشدي التي كانت تصرّ على استقبالها ببيتها بصفاقس كلّما وفدت لإحياء حفلاتها - بفتح بيتها لها على إثر تعرّض البيت الذي استأجرته إلى المداهمة والخلع، كما ساهمت في تقديمها إلى الجمهور بوصفها صوتا جميلا وواعدا.
تزوّجت حسيبة رشدي عند أواسط ثلاثينات القرن الماضي من الفنّان والملحّن التونسي الكبير محمد التريكي (1899-1998)، الذي كان يكبرها بعشرين سنة، وتواصل زواجهما مدّة سبع سنوات، انخرطت خلالها في الحياة الفنيّة ولحّن لها التريكي العديد من الأغاني المعروفة على غرار «جسمي بعيد عليك» و«محلاها تذبيلة عينك» و«على ضي القمرة يا سمرة». غير أنّهما انفصلا لاحقا بعد أن أصرّ ملحق السفارة الأمريكيّة بتونس «هنري بلايك» على الارتباط بها، مبالغا في التردّد على قاعة العروض التي كانت تقيم بها حفلاتها بربض باب الجديد بتونس وذلك قصد متابعة السهرات التي كانت تقيمها صحبة صديقتها فتحية خيري. وقد تمّ له ما أراده وخطّط له بعد انفصال زوجها عنها مرغما، فانتقلت حسيبة عندها للإقامة صحبة زوجها الجديد بحي بروكلين من مدينة نيويورك وتولّت فتح مطعم متخصّص في الوجبات الشرقيّة والأكلات التونسيّة.
أقامت حسيبة رشدي لاحقا بالقاهرة لفترة طويلة وذلك في غضون أربعينات وأواسط خمسينات القرن الماضي صحبة زوجها الثاني الذي شغل خطة ملحق لسفارة بلاده بمصر. وقد مكّنها وضعها الجديد من زيارة العديد من بلدان المشرق والاشتغال بالغناء والتمثيل السينمائي، مُتحوّلة إلى نجمة سينمائية ذائعة الصيت. غير أنّ إقامتها بالقاهرة لم تخل من التعرّض إلى كثير من المضايقات التي صدرت بالخصوص عن نقابة الفنّانين. فقد اضطُرت إلى المثول أمام لجنة مختصّة شكّلتها الإذاعة المصريّة وترأستها كوكب الشرق أمّ كلثوم قصد تقييم صوتها وأدائها. وهو امتحان صعب لم تتمكّن الفناّنة التونسية من اجتيازه فحسب، بل شكّل نقطة انطلاق في حياتها الفنيّة لبناء علاقة ودّية مثمرة مع سيّدة الطرب العربي : فقد ساهمت تلك العلاقة في توصّلها – بناءَ على شهادتها الشخصية - إلى اقتراح دور «العتاب» الذي ألّف كلماته القصّاص ومؤلّف المسرحيّات والأغاني علي الدوعاجي (1909- 1949) ولحّنه الفنّان التونسي الهادي الجويني (1909 - 1990) على السيدة أم كلثوم التي وافقت مبدئيا على أدائه، حتى وإن لم يحالف الحظ مبدعيه نظرا إلى التوعّك الصحّي الذي ألمّ بكوكب الشرق جرّاء معاناتها من مضاعفات مرض الغدّة الدرقيةّ وقرارها لاحقا صرف النظر عن ذلك بعد أن حصل لقائها بالزجال العبقري بيرم التونسي الذّي غنّت له السيّدة أمّ كلثوم نصوصا خالدة.
عادت حسيبة رشدي قبيل الاستقلال للاستقرار نهائيّا بتونس ومواصلة مشوارها الغنائي والسينمائي. فقد شاركت بشكل مباشر وفعّال في نشأة السينما التونسيّة منذ تصوير شريط «جحا» للمخرج «جاك بارتيي»، وهو شريط شارك خلال دورة سنة 1958 في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» الذائع الصيت. كما لعبت أدوار البطولة في العديد من الأشرطة السينمائية على غرار «خليفة الأقرع» للمخرج حمودة بن حليمة، وشريطي المخرج عمار الخليفي «المتمرّد» و«صراخ»، وبطولة شريط «تحت مطر الخريف» للمخرج أحمد الخشين، وشريط «يا سلطان المدينة» للمخرج المنصف ذويب. كما واصلت مشوارها الغنائي عبر تسجيل العديد من أغانيها التي تمّ ضمّها إلى رصيد خزانة الإذاعة والتلفزة الوطنيّة.
ولم تتواصل مسيرة الفنّانة حسيبة رشدي طويلا بعد وفاة زوجها الثاني الأمريكي هنري بلايك سنة 1988، فقد قرّرت منذ تسعينات القرن الماضي اعتزال الفنّ نهائيا والعودة إلى أصولها الريفية، مشتغلة بالفلاحة، والعيش من ريع عقاراتها المتعدّدة، وذلك حتى موعد رحيلها الأبدي سنة 2012.
لطفي عيسى
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية