اعتمادا على ما ذكره الأديب علي الدوعاجي الذي قابل حدّي الدبيليَّة سنة 1937 وقال إنَّ ملامحها تدلّ على أنَّها تجاوزت الأربعين عاما عند اللقاء بها فقد ولدت الشاعرة في أواخر القرن 19 وتوفّيت مجاورة في المدينة المنوّرة سنة 1949 فتكون على هذا الأساس قد عاشت نحو ستّين سنة أو أقلَّ بقليل. (الدوعاجي، علي، سهرت منه الليالي، أقصوصة «أحلام حدّي»، تونس، الدار التونسيَّة للنشر، 1969، ص 63.)
على أنَّ أحمد زغب الباحث في الشعر الشفوي حقَّق سيرة الشاعرة حِدِّي الزّرقي فذهب إلى أنّها ولدت سنة 1890 بالدبيلة الشرقيَّة (منطقة سوف بالجنوب الغربي الجزائري) وهي حدّي بنت الشيخ نصيب بن علي خزان.كان والدها مرتبطا روحيَّا كسائر أهل منطقته أنذاك بشيوخ صوفيين كبار ولذا حالما بلغت حِدِّي العاشرة من عمرها نذرها لخدمة الشيخ أحمد معاد التابعي بزاوية نفطة بالجنوب التونسي ولم تعد إلى الزاوية إلاَّ بعد طلاقها من زوجها الرّاعي المسنّ أحد خدم الزاوية، وقد أرغمت على الزواج منه صغيرة بعد أن حاول الشيخ التابعي إبعادها عن الفتنة وقد نضجت وأصبحت محلّ نظر روّاد زاويته خاصة من فئة الشباب. ولكنّها كانت أيضا متحرّرة وقد بدأت بنظم الشعر. (زغب، أحمد، أعلام الشعر الملحون لمنطقة وادي سوف، دار الثقافة وادي سوف، دت، ط 2، ج 2)
ويعود هذا الاختلاف في تحديد عمر الشاعرة إلى عوامل من أهمّها أنّها كانت تحرص على إخفاء ملامحها الأنثويّة وتبالغ في التشبّه بالرّجال، فقد أشار محيي الدين خريَّف إلى أنّ الرجال كانوا يخاطبونها بصيغة المذكَّر وينادونها «بسيدي أحمد» فتطمئنّ إليهم وتجيبهم بنعم، فهي في وسطهم كفرد منهم بل هم أكثر احتراما وتقديرا لها من بعض الجالسين، ولا غرابة في هذا فقد تهيَّأت نفسها لهذه الحياة نفسيَّا وماديَّا، فملابسها ملابس الرجال «سروال عربي وبلوزة تونسي وشاش».(خريّف، محيي الدين، حِدّي شاعرة الصحراء، تونس، دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1993 ص 15.)
وقد تلقَّت حدي الزرقي قسطا محترما من التعليم الديني فحفظت بعض أجزاء من القرآن الكريم، وعندما حلَّت في آخر عمرها بحاضرة تونس جاورت مقام «السيَّدة المنوبيَّة» واشتغلت بتدريس القرآن وتعليم الكتابة للصبيان والفتيات : يقول محي الدين خريَّف « وقد كان كاتب هذه السطور تعرَّف عليها شخصيَّا عندما زارها صحبة عمَّه (مصطفى خريَّف) في حي السيَّدة المنوبيَّة وكانت تسكن بدكَّان صغير يشبه الخلوة.. ثمّ طلبت منَّا الجلوس على حصيرة كانت مبسوطة على الأرض بعد أن أطلقت سراح الصبية الذين كانت تعلَّمهم بعض سور القرآن الكريم... وفي الأعوام الأخيرة اتَّصلت ببعض ذوي اليسار فطلبت منه أن يحملها معه إلى البقاع المقدَّسة وارتحلت وقرَّرت الجوار فما أقامت بالمدينة المنوَّرة أربعين يوما حتى توفّاها الأجل وذلك حوالي سنة 1949» (خريّف، محيي الدين، حِدّي شاعرة الصحراء، تونس، دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1993 ص ص 20-21.)
حِدَّي الزُّرقي امرأة عصاميَّة قويَّة الشخصيَّة استطاعت أن تستغلّ هامشا ضيَّقا من تحرّرها من قيود الأسرة والقبيلة. وتتحدّث الباحثتان الجزائريتان نجوى فرحات وعائشة الميلودي عن بعض سماتها الشخصية فتقولان «كانت جريئة فاتنة ذكيّة ذكاء غريبا تحفظ كل ما تسمعه، وأتقنت الأناشيد التي تُتلى كلّ يوم جمعة من الذاكرات، وانتشرت شهرتها فلا يكاد يسمع في الديار فرح إلَّا وتُدعى إليه حدّي، وإن لم تكن حاضرة فإنّه يبدو كئيبا لا روح فيه». (فرحات، نجوى، وميلودي، عائشة، الخصائص الفنيَّة في شعر حدّي الزرقي، (مذكرة تكميلية لنيل شهادة الماجستير، تخصّص أدب شعبي، إشراف فضيلة بوجلخة، جامعة الشهيد حمّة لخضر الوادي، كليَّة الآداب واللغات ، الجمهورية الجزائرية 2019/2020، ص 7.)
وحدَّي الزُّرقي شاعرة متميَّزة برزت في أهمّ أغراض الشعر الشعبي في عصرها واحتذت الموازين والمعاني حدَّ التماهي كما في «ضحضاحها» المعروف، واضطرّت أحيانا إلى التخفَّي بصوت الرجل وطابعه فقد كانت تسند إلى نفسها ضمير المتكلّم المذكّر كما في قصيدتها «الكوتيَّة» التي منها قولها:
دِهَمْ لم ليَّثْ صْيُودْ العَقُورَه
رِصَفْ الحدُورَة
قِفَزْ هَز عُلْوين ضَامَه شْبُورَة
طَلْ وصْهَلْ قَابلاته الغَنيمهْ
نَشَّط خزيمهْ
قِفَزْ هَزْ حَسْ الحَدايِد تْضِيمه
نِصَرْ رايتهْ وانتْصرْ مِن غَريمه
صَارَتْ هَزِيمَهْ
هَدَرْ رَدَّهَا للتِوالي عَدِيمه
وتمثّل قصيدة «الشمعة» التي أعجب بها الأديب علي الدوعاجي حتى كتب نصَّا نثريا يوازيها بعنوان «أحلام حدي» قصيدة تبلغ فيها الشاعرة عمق التجلَّي والمكاشفة الوجدانية. والقصيدة ضاع أغلبها وما تبقَّى منها يؤكّد رُقيَّ التجربة الشعريّة لحدّي الزّرقي..تقول الشاعرة بلهجة سوفية – جريدية:
قُولِي وَاشْ زَهَّاكْ قُولِي يَا الشَّمْعَا
رَانِي عَنْ صَقْصِيكْ وَاعْطِينِي لَخْبَارْ
أقْبْلِي يَا مْسَاهْرَه فِي لِيلَةْ الجُمْعَا
خَايِفْ نلْهَى بِيكْ فِي لِيلاَتْ اكْبَارْ
تَسْمَعْ بِيَّا النَّاسْ وِتْوَلِّي شَنْعَا
(خريف، محيي الدين، الشعر الشعبي التونسي أوزانه وأغراضه، الدار العربية للكتاب، 1991، ص 152.)
وتظهر الشخصية الأنثويّة لحديَّ في قصائدها العاطفيَّة خاصَّة وهي القصائد التي تعبَّر فيها عن لوعة الوجدان والمحبّة متحدّية واقع المنع والأعراف متغزِّلة بحبيبها كما في قصيدة «حمَّة يا رَمقات الطير» وتصل أقصى حالاتها الوجدانيّة تحرّرا وشوقا في قصيدة « راكِب الأزرق». وفي شعرها الديني نبرة حزينة تكشف صراعها مع مجتمع تصفه بمجتمع الوحوش والغابة لا تجد فيه حماية إلاّ من «الصالحين» وأهل «النغرة».
وثمّة نماذج مهمّة من شعرها الوطنيّ تدل على وعي نضاليّ نافذ وإدراك لمحنة الوطن.تقول حِدِّي الزّرقي في إحدى قصائدها الوطنيّة غداة نفي الملك الدستوري المنصف باي :
اتْدُورْ الأفْلاَكْ
*** مَا تِبْكِيشْ لا يْبَكِّي اللِّي بَكَّاك
وِيْرَوِّحْ بَابَاكْ
*** تْهِبْ رْيَاحْ النَّصْر
إنّ شعر حِدّي الزّرقي هو شعر ينعتق من شعر المرأة النمطي الذي نجده في مدوّنتنا الشعبية، وهو الشعر المتصل بحياة النساء البدويّات والحضريّات (شعر الرّحى/شعر الرّثاء/ شعر التّدليل وتنويم الصّبيان / شعر الحنين/ شعر الإخوانيّات والمناصحات....) فشاعرتنا كانت ترى نفسها أنثى متحرّرة وترفض الإقصاء الذكوري وتصارع لتثبت ذاتها إلى حدّ تقمّص شخصيّة الرجل والكلام بلسانه. والدليل على ذلك أنها نافست الرّجال في القيام بأدوار طالما، كانت حكرا عليهما – وأهمّها دور الشاعر الشعبي «الأديب» الغوّال» ودور «المؤدب» معلم القرآن للأطفال وإنّها لظاهرة جديرة بدراسة واسعة معمّقة.
بلقاسم بن جابر
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية