إلهام المرزوقي عالمة اجتماع وجامعيّة لامعة، وامرأة ملتزمة ووجه متقدم في الحركة النسويّة التونسيّة المستقلة، لم تطل حياتها للأسف [04/12/1957-24/01/2008]. لقد اختطفها المرض في ريعان الشباب، ومع ذلك فقد طبعت لأمد طويل الحياة الفكريّة والسياسيّة والثقافيّة في مختلف أقطاب الالتزام فيها . كانت نحيفة الجسم رقيقة القوام، تبدو بشعرها القصير جدا على هيئة المراهقة، وكانت تنبعث من نظرتها العسليّة، المشاكسة والثاقبة، قوة مطمئنّة. وإذا كان ثمة من عبارة تلخّصها وتصف مسارها فهي عبارة «الاستقلال والفردية». وهذا أمرٌ بدأ عندها مبكرا جدّا على ما يبدو، فقد تكون أعربت عن هذه الرغبة منذ الطفولة، على ما تقول والدتها الشابّة، نجاة الشلي، أستاذة الأدب الفرنسي، عندما أمرتها بالخروج من غرفتها وهي تدفعها برفق نحو الباب طالبة منها عدم الدخول عليها مرة أخرى وقد كانت وقتها طفلة. وما كان ذاك لأنّها كانت تحبّ العزلة ، ولكن لأنّها كانت عنيدة في سعيها إلى الاستقلال بنفسها.
ولقد استفادت أيّما استفادة عندما كانت شابة، من ترحال والدها، الشاذلي المرزوقي، أصيل نابل، الذي حملته وظيفتُه كقابض للمالية على أن ينتقل بالإقامة بين الكاف ومنزل بورقيبة وبنزرت وماطر وأخيرا تونس. فاستمدت إلهام من ذلك إحساسا بالملاحظة وميلا نحو الاندهاش، نمّتهما أكثر بمتابعتها، بعد البكالوريا في شعبة «الآداب» بمدرسة نهج مرسيليا (1977) بتونس العاصمة، دراساتها في علم الاجتماع بكلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بتونس.
وخلال سنوات الدراسة والتدريس هذه (1977-1993)، كانت كليّة الآداب، شأنها شأن الجامعة التونسيّة بأكملها، في خضمّ أزمة «الهوية»، بعد أن أعاد الرّواد مركزتها ما بعد الاستعماريّة حول مواضيع الحداثة والتغيير الاجتماعي (ع. زغل، ف. صطنبولي ، خ. زميتي، ل. بن سالم، د. محفوظ، ر. بوكراع. ص. الحمزاوي). لقد سلكت إلهام طريقا فريدا، فعملت تحت تأثير النظريات الجديدة لعلم اجتماع العمل والحركات الاجتماعية لآلان تورين Alain Touraine وتحت التوجيه الحريص لرضا بوكراع، حول موضوعات اجتماعيّة غير مسبوقة، بل «متمرّدة»، مجسّمة بذلك قدرتها على الجمع بين الالتزام والتفكير.
وقد كلّفها انخراطها المضاعف في قضية المرأة، مثل ما كلّف من هنّ أكبر منها (ليليا بن سالم ودرّة محفوظ)، عداوة أكاديميّة ذكوريّة شديدة. ومنذ ذلك الحين، أخذ مسارها مجرى جديدا. فقد غادرت كلّيتها الأصليّة - التي بدأت تتفشى فيها جزئيا النزعة المحافظة - وانضمّت إلى كلية العلوم القانونيّة والسياسيّة والاجتماعيّة في عام 1992، بعد أن أصبحت هذه الكلية مركز إعادة تموقع للمعارف، ما بين كونية العلوم الاجتماعية وخصوصية الثقافات. فأفنت جهدها هناك في الدروس التمهيدية لعلم الاجتماع (السنة الأولى)، وتاريخ الأفكار السياسية (السنة الثانية)، وحقوق الإنسان (السنة الثالثة)، والعلوم السياسية (الماجستير) وعلم الاجتماع الريفي (الماجستير). كما وسّعت حدود تضافر التخصّصات فتناولت مع طلابها الذين أسرتهم دروسها، مسائل شاقة مثل مذاهب علم الاجتماع الكلّي (sociologies holistes) والفردي، ومفهوم الديمقراطية في أبعادها التاريخيّة والتحليليّة، والنزعة الطبيعيّة والإراديّة في القانون، وإنشاء القانون كوسيلة لإضفاء الشرعيّة، وعلم الاجتماع السياسي للفرد وعمليات التّفريد، وأثر العولمة على المجتمعات الريفية في الجنوب.
ارتقت إلهام المرزوقي في جميع درجات السلّم الجامعي، مارة من أستاذ مساعد (1992)، إلى أستاذ محاضر بعد التأهيل عن أعمالها البحثية (2001) إلى أستاذ تعليم عال (2007). ويشير إنتاجها العلمي الغزير إلى تعطش دائم وصارم للمعرفة والاستكشافات السوسيولوجية، فحملها إشعاعها العلمي إلى المحاضرة في معاهد البحوث ذات الشهرة العالمية: في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في مركز التحليل والتدخل الاجتماعي - باريس (CADIS) بدعوة من ميشيل فيفيوركا Michel Wieviorka (2000)، وفي معهد الدراسات السياسية في ليون بدعوة من فيليب كوركوف Philippe Corcuff (2002)، وفي معهد الدراسات السياسيّة في باريس بدعوة من جيل كيبيل Gilles Kepel (2003).
وفي الحقيقة، فقد نجحت إلهام مبكّرا جدّا، في التقريب بين انخراطها الفكري في المعرفة الاجتماعيّة والتزامها النضالي من أجل قضيّة المرأة. وفي سنّ العشرين، وفي سياق الاحتجاجات السياسية والاجتماعية التي تسبّبت في التصدّعات الأولى لنظام أحادي- (الإصلاح الدستوري لعام 1976، منح التأشيرة للرابطة التونسية لحقوق الإنسان (7 ماي 1977)، الاضطرابات النقابية، وظهور حركة الديمقراطيين الاشتراكيين (12 أفريل 1977)، ونشر أسبوعية «الرأي» (29 ديسمبر 1977)، أسّست، مع أربعة من رفاقها، نادي علم الاجتماع الذي أصبح مكان تجمّع وتبادل للجيل الجديد من علماء الاجتماع: م. علوش، عبد السلام محمود، خديجة شريف، محمد كرو، وغيرهم) والذي تحول مع مرور الزمن إلى الجمعية التونسية لعلم الاجتماع، ويرأسها اليوم عالم الاجتماع والأنثروبولوجي عماد المليتي. وبعد عام، (أكتوبر 1978)، ومع خروج البلاد منهكة من محنة 26 جانفي 1978، أنشأت إلهام المرزوقي نادي الدراسات حول وضعية النساء ضمن الفضاء الثقافي الطاهر الحداد في تونس المدينة ، الذي كانت تديره الأديبة جليلة حفصيّة. كما لعبت دورا حاسما في تشكيل الفريق غير الرسمي للنساء الديمقراطيات (1982-1984).
وفي سنة 1985، انضمّت إلى اللجنة النسائيّة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان (LTDH) بقيادة خديجة شريف، وربطت بالتالي بين الكفاح من أجل حقوق الإنسان والكفاح من أجل عدم التمييز ضد المرأة. وكانت تجربة مجلة NISSA، « الدوريّة الشهريّة للثقافة والإعلام العام» (رقم 1 أفريل 1985 - رقم 8، مارس 1987)، والتي كانت فيها مؤسّسة ومحررة عرضيّة، هي لحظة أخرى «من خطاب النساء عن أنفسهن وعن العالم. وأخيرا، كان بناء الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات (ATFD) في 6 أوت 1989، هو أيضا، حلقة حاسمة في تاريخ الحركة.
لقد خاضت إلهام معارك أخرى، وكان نضالها النقابي هو الأخير قبل أن تحارب المرض بضراوة وثبات، وبالتصميم الذي اتسم به كيانها، تعهّدت بتأسيس نقابة أساسية بكليتها التي كانت ملحقة بها. وقادت هناك، مع رفاقها، النضال من أجل الاستقلال والاستقلال الذاتي للتمثيل النقابي للمدرّسين والمدرّسات، وفيما أبعد من ذلك، من أجل استقلال المركزيّة النقابيّة واستقلالها الذاتي (2001-2003).
وإجمالا، فإنّ مساهمة إلهام المرزوقي في التفكير والعمل أساسيّة في ثلاثة محاور على الأقلّ .
1- تفكيرها في الفرد وعمليّات التفريد والنخب، وهو التفكير الذي طوّرته من خلال مقالاتها وكتبها وإنتاجها العلمي، ومنه : عام 1999 «مثقفون أم مجندون؟ Intellectuels ou recrues «؛ «2001 أين الأجيال المثقفة التونسيّة؟ Où sont les générations intellectuelles tunisiennes « 2002 «لو كانت النخبة تكفي ! S’il suffisait d’une élite!»؛ 2005 «الفرد يحتقر المواطن L’individu au mépris du citoyen «؛ 2007 «البرج العاجي، سور الاستقلال الذاتي La tour d’ivoire, rempart de l’autonomie individuelle».
2- وستظل دراسة الحركات الاجتماعية من خلال التحليل المجدّد واللاّفت للحركة النسائية وللنسويات في تونس، وظروف ظهورها، ورهاناتها وآثارها على المجتمع، مرتبطة إلى الأبد باسمها. فقد كان كتابها «Le mouvement des femmes en Tunisie au XXe siècle» (1993) الحركة النسائية في تونس في القرن XX (مترجم إلى العربية)، وكذلك عملها الذي اتخذ مسافة نقدية من التجربة الفعلية للجمعيات النسوية «نساء النظام أو فوضى النساء Femmes d’ordre ou désordre de femmes» (1999)، مرجعين لا غنى عنهما لكل من يريد أن ينكب على فهم الحركات النسائية في بلدان المغرب والمنطقة العربيّة.
3- أمّا فيما يتعلق بالعمل النسوي من أجل المساواة والديمقراطية والحرّيات، فقد ساهمت إلهام بتفكيرها الملهم حول الحداثة والعلمانيّة والكونيّة والالتزام : 1995 «الحداثة، من أجل المرأة أو ضدها؟ La modernité, pour ou contre les femmes»؛ 1995 موقع النساء. رهانات الهوية والمساواة في منظور العلوم الاجتماعية La place des femmes. Les enjeux de l’identité et de l’égalité au regard des sciences sociales «؛ 2002 «تأرحجات الهوية « Le jeu de bascule de l’identité «; 2004 « هل تكوّن الذاتية الذات النسائية ؟ قراءة اجتماعية للتجربة التونسية La subjectivité fait-elle le sujet féminin? Une lecture sociologique de l’expérience tunisienne «؛ 2004، « النساء بين العنف واستراتيجيات الحرية Les femmes entre violences et stratégies de liberté». إلى هذه المنشورات العلمية، يجب أن نضيف مقالات الرأي، الصارمة واللاّذعة التي كانت تلقي بها كالحجارة في البركة الرّاكدة
سناء ابن عاشور
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية