تعدّ كلثوم برناز من أهمّ السينمائيّات التونسيّات، وهي تعبّر عن المرأة المعاصرة والملتزمة بنضالها من أجل الثقافة والفنّ والحرّية. ولدت كلثوم يوم 24 أوت 1945 بمدينة تونس العتيقة في أسرة محافظة وعصريّة في الآن نفسه، أولت للتربية والتعليم منزلة مقدّسة. فلقد تحدّت جدّتها من الأمّ حبيبة الطرابلسي ذويها الذين تبرّؤوا منها لأنّها أرسلت بناتها الأربع إلى المدارس منذ سنة 1920.
وواصلت والدة كلثوم وخالاتها تعليمهنّ ومنهنّ من أصبحن رائدات في تحرّر المرأة التونسيّة. ويجب القول إنّ كلثوم ارتضت هذا الانتماء المزدوج مدفوعة من قبل الأب صالح برناز الذي كان يؤازر بناته لبلوغ أعلى مراتب المعرفة، فتخرّجت كلثوم، هذه التلميذة النجيبة، في مدرسة دار الباشا، وقد شهدت هذه المدرسة تطوّرا عظيما غداة الاستقلال سنة 1956، وهي السنة التي أدركت فيها تونس حريّتها معلنة عهدا جديدا، عهد دولة عصريّة ذات سيادة. ولقد تعزّز هذا الاندفاع وتلك الحماسة من لدن مديرة المدرسة إذ أنشأت العديد من النوادي التي أسهمت فيها كلثوم، مثل نادي المسرح النشيط الذي كان يقدّم عروضا مسرحيّة في احتفالات اختتام السنة الدراسيّة، كانت تُعرض على ركح دار الثقافة ابن خلدون ثمّ على ركح المسرح البلدي لمدينة تونس. وكانت كلثوم في نفس الوقت رياضيّة متميّزة ضمن الفريق النسائي لكرة اليد الذي تمكّن من الإحراز على بطولة تونس.
وانكشف ولوعها بالسينما سنة 1957 مع قدوم أستاذتها الجديدة في الآداب الفرنسّية إلى المدرسة وهي الآنسة صوفيّة القلّي(2015-1931) التي كانت بالنسبة إلى كلثوم بمثابة المرشدة النصوحة وبعثت فيها هذا الانجذاب للفنّ السابع بالمساهمة في نادي السينما كلّ يوم أحد بقاعة المونديال بتونس العاصمة.
وكانت أمنيتها بعد نهاية دراستها الثانويّة وحصولها على شهادة باكالوريا الآداب أن تنخرط في المعهد العالي للدراسات السينمائية بباريس، وكان هذا المعهد لا يقبل إلاّ الطلبة الذين اجتازوا المرحلة الأولى من التعليم الجامعي فالتحقت إذن بقسم اللغة الإنقليزية بجامعة تونس. وبعد سنتين نجحت في مناظرة الدخول إلى المعهد الذي طالما رغبت فيه وهو المعهد العالي للدراسات السينمائية l’IDHEC. فتحصّلت سنة 1968 على شهادة في تركيب الأفلام (المونتاج) وفي مراقبة النصوص (سكريبت) وتابعت في باريس تربّصات في التلفزة الفرنسيّة وفي بعض المخابر المختصّة.
وعند عودتها إلى تونس نالت الإعجاب بسبب وظيفتها كرائدة في عالم السينما، وشهد على ذلك المخرج السنيمائي فريد بوغدير بقوله: «كانت كلثوم هي الأولى في تونس التي اضطلعت بشكل طبيعي بأدوار مخصّصة للرجال ولم تكن في حاجة إلى المطالبة بالمساواة بين الجنسين. وعندما وقع في سنة 1969 اختيار هذه الأخصائية في تركيب الأفلام لتقوم بدور قيادي صعب وهو دور «مساعد أول للإخراج» أصيب جميع الحرفيّين بالدهشة متسائلين كيف لها أن تدير فريقا من أربعين رجلا؟ ولم يكن لديها هاجس للدّفاع عن «سمعتها» بالبحث عن المساواة بين الجنسين فقد عاشت هذه المساواة بصفة طبيعية، بل جسّدتها في خياراتها الحياتية ك «الخطوة الضرورية»، فمن النضال النسوي الخالص بلغت النضال الوطني الثقافي متخطية الاختلافات بين الجنسين.
وقد بدأت مسيرتها المهنيّة ككاتبة سيناريو ومخرجة لـ «ألوان خصبة» (1984) و «ثلاث شخصيّات تبحث عن مسرح» (1988) وهو شريط متوسّط الطول أُنجز عن المسرح البلدي لمدينة تونس (الذي بُني سنة 1900) لإنقاذ هذا المعلم العظيم من الهدم.
حصلت كلثوم برناز على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان الفيلم التاريخي بجربة بشريط «نظرة النورس» (1992) وليلة عرس (1996) لقناة آرتي ARTE والكسوة – الخيط الضائع (شريط طويل 1998)* وأحسن سيناريو في مهرجان الفيلم المتوسطي بباري (إيطاليا)* وجائزة أحسن فيلم فرنكوفوني بنامور * وجائزة أحسن دور ثان لعلي مصباح بنامور (1998) * وجائزة أحسن دور ثان لعلي مصباح في الأيام السينمائية بقرطاج سنة 1998* وجائزة أحسن دور نسائي لريم التركي في المهرجان الدولي بالقاهرة سنة 1998 * وجائزة أحسن صوت في مهرجان الفيلم المتوسّطي بفالنسيا سنة 1998 * وإشادة خاصة من لجنة تحكيم السينما العربية بمعهد العالم العربي بباريس سنة 1998 * والجائزة الثانية للجمهور بمهرجان توبينغان سنة 1999 * وحصل الشريط القصير «غابة المدفون» (2000) والشريط الطويل «شطر محبّة» (2008) على جائزة (كينيسكوباج) من قبل مخبر سويس – ايفكت بزوريخ * وحصلت على جائزة التركيب (ميكساج) بقاعة التسجيل ماك – تاري بباريس * وجائزة الحواشي السينمائية (تيترا – فيلم بباريس) في مهرجان سان سيباستيان (2006) (ثمّ وقع اختياره في عديد المهرجانات).
كما كانت من ناحية أخرى عضوا أو رئيسة لجنة تحكيم في عديد المهرجانات السينمائيّة الوطنيّة أو العالميّة، آخرها المهرجان الدولي للفيلم المتوسّطي بمونبليي (2011) واللقاء السنوي لمخرجي الأفلام التونسية (2012) والمهرجان الدولي للفيلم المتوسّطي بتطوان (2012) ومهرجان الفيلم المتوسّطي بعنّابة (2015).
ودرّست تقنيات تركيب الأفلام ومراقبة النصوص في المعهد العالي لفنون الميلتيمديا (تونس 2001-2003) وفي المدرسة العليا للفنون السمعيّة البصريّة والسينما (قمرت 2013 - 2014)
كلثوم برناز تمتلك قدرة و جرأة كبيرتين مكّنتاها من التعبير عن التزامها المتواصل بقضايا المرأة الحرّة وكان ذلك منهجا اختارته منذ المراهقة وتمسّكت كلّيا باستقلاليّتها وإن كلّفها ذلك مواجهة التقاليد.
ولم تتخلّ كلثوم برناز، رغم شهرتها العالميّة، عن هويّتها التونسيّة بل إنّها قد ظلّت تحمل تونس بأكملها ، بلهجتها وعاداتها وتقاليدها وأزيائها التقليدية وتراثها الغني وروائحها في قلبها وأحشائها. وبحكم كونها ملتزمة بالحفاظ على التراث فقد أهدت آلة الأورغ التي تملكها والدتها إلى متحف الموسيقى العربيّة والمتوسّطيّة (النجمة الزهراء) بسيدي بوسعيد. وبحكم وطنيّتها المتأصّلة فيها والتزامها بتطوير بلدها بالدفاع عن الثقافة التونسيّة لم تتردّد في المشاركة في عديد التظاهرات للتعبير عن ثورتها وفي هذا الإطار نورد شهادتها على ثورة 2011: «لقد وجدت نفسي يوم 14 جانفي (2011) بشارع الحبيب بورقيبة لا لأصرخ في وجه بن علي «ارحل»، بل كي أساند رفاقي الفنّانين الذين عوملوا بقسوة من قبل الشرطة. إنّي أعدّ ذلك اليوم من أحلى أيّام حياتي». ولم تتردّد في أن تكون الناطقة الرسميّة لزملائها وأن تعبّر عن مواقفها الخاصة مثلما تشهد على ذلك ردود أفعالها من محاضرات ورسائل ونداءات متعدّدة ومنها :
- «دفاعا عن السينما التونسّية» وهو نداء توجّهت به إلى سفير اليابان لمؤازرة السينما والتراث التونسي عن طريق مبادلات مشتركة (مارس 2010).
- «قتلوا شكري بلعيد» (فيفري 2013).
- رسالة أخرى وجّهتها إلى قناة آرتي بباريس إثر معاينة شريط وثائقي مخادع اعتبر الإسلاميّين التونسيّين ضحايا أبرياء لبورقيبة «المتعطش للدماء» (مارس 2014).
إن الوطنيّة الحقّ والنضاليّة الثقافيّة كما مارستها كلثوم برناز لم تتّسم عندها بحماس بطريقة متحزّبة بل كانت فيهما دوما «مناصرة لتونس» فتوصّلت إلى خلق توليفة بين الإسهامات الثقافيّة والإرث الذي راكمته البلاد منذ آلاف السنين. وقد تيسّرت هذه التوليفة التونسيّة في أفلام وكتابات كلثوم باختيار الظرف والدعابة والخيال الجامح والسخرية من الذات المتخفّية وصرامة متطلبات النضال الثقافي. وقد تغذّت كلثوم بهوس ثقافي حتى آخر نفس من حياتها، فبينما كانت على متن سيّارة الإسعاف في اتجاه مستشفى الحرائق، حيث لفظت أنفاسها إثر إنفجار حدث جرّاء تسرّب الغاز في بيتها كان أول سؤالها : «وكتبي؟ هل تمّ إنقاذها؟» وما إن اطمأنّت على ذلك حتّى غادرت الحياة وكان ذلك يوم 3 سبتمبر 2015.
علياء برناز (بكّار)
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية