يمثّل ما توفّره المصادر من معلومات عن سيرة خديجة بنت سحنون دليلا على أنّ أصوات النساء في التاريخ الإسلامي قد تعرّضت إلى ضرب من التهميش حال دونها والوصول المباشر إلى أسماع الأجيال. وهو دليل أيضا على أنّ المعرفة النسائية لم تكن في نظر الوعي السائد آنذاك جديرة بأن تدوّن فلم يصل إلينا منها سوى القليل. ذلك أنّ المصادر التي ورد فيها ذكر هذه المرأة العَلَم تشير إلى أنّها كانت ذات عِلم وأنّ نشأتها ببيت أشهر عالم من علماء المالكيّة بإفريقيّة والغرب الإسلامي عامّة، قد أتاح لها فرصة تعلّم ما أهّلها لتعدّ من تلاميذه ولتعتبر من العالمات الفقيهات، يستفتيها النساء في ما يخصّهن من مسائل الدين ويقتدين بها في معضلات الأمور. ولسائل أن يسأل إذا كانت سيرة خديجة على هذا النحو، وإذا كان من أشاروا إلى نتف من سيرتها قد أجمعوا على رجاحة عقلها وغزارة علمها ممّا أهّلها لتكون موضع استشارة والدها في الملمّات ومهامّ الأمور ومفتية تستشيرها نساء زمانها في ما يعرض لهنّ من المسائل، فلماذا لم يخصّها أحدهم بترجمة مستقلّة عن ترجمتي أبيها وأخيها ؟ لماذا آثروا أن يترجموا لها من باب التبعيّة لسيرة الإمام سحنون بن سعيد التنوخي، رأس مدرسة أهل المدينة بإفريقيّة والغرب الإسلامي ومدوّن فقه الإمام مالك، ولسيرة محمّد بن سحنون صاحب التآليف الغزيرة في فنون عدّة؟ ولماذا لم يعاملوها كما عاملوا تلاميذ سحنون ممّن لم يذكروا فيهم من الخصال ما ذكروه فيها؟ أفلا يكون في كل هذا ما يسوّغ افتراض أنّها كانت حريّة بأن تؤلّف هي الأخرى في ضروب العلم مثلما كان يفعل أخوها، وأنّ استئثار الرجال بسلطة تدوين العلم هو ما حال دون وصول ما قد تكون ألّفت إلينا؟ ألم تكن خديجة متفرّغة لهذا العمل وهي التي عاشت في بيت سؤدد وفضل كانت فيه مخدومة لا خادمة؟ ألا يفترض أن تكون قد تفرّغت للعلم طلبا وتأليفا وهي التي لم تتزوّج مثلما ورد في ترجمة أحمد بن لبدة، ابن عمّها الذي يبدو أنّها شغفته حبّا ولكنّه لم يتزوّجها رغم تكرار طلبه يدها مرات ثلاثا؟ فلِمَ لمْ يُحتفظ لها بتأليف مدوّن مثلما احتفظ لأخيها بتآليف كثيرة؟ أم إنّها لم تؤلّف شيئا؟ أسئلة لا يسعفنا ما توفّره المصادر من معلومات شحيحة تخصّها هي رأسا بأجوبة قاطعة بشأنها، إلا أنّها تظلّ حريّة بأن تُطرح في سياق يطمح إلى أن يعيد إلى نساء تونس أصواتا قد تكون أسكتتها في أزمنة غبرت عقليّة ذكوريّة لم تر النساء مؤهّلات لإنتاج المعرفة الدينيّة، ونظام باترياركي جرّدهن من كل سلطة بما في ذلك سلطة تدوين ما قد يكنّ أنتجنه من العلم لأنّ تلك العقليّة لا تعتبر ما تنتجه النساء من معارف جديرا بأن تحفظه ذاكرة التدوين. ولذلك نرى أنّ هذه الذاكرة ما كانت لتحتفظ حتّى بمجرد اسم خديجة هذه لولا أنّها كانت ابنة سحنون بن سعيد التنّوخي (160هـ/240هـ -776م/ 854م) وأخت محمد بن سحنون (202هـ/ 256هـ - 817 م/ 869م) والدليل على ذلك أنّنا لم نقف على أيّ مصدر خصّها بترجمة وإنّما جميعها ذكرها عرضا في سياق الترجمة لأبيها أو أخيها أو ابن عمّها، رغم أنّ كتب التراجم والطبقات، وخصوصا ما يتعلّق منها بطبقات علماء المالكيّة بإفريقيّة والغرب الإسلامي عامّة، قد ترجمت لكلّ تلاميذ سحنون بمن فيهم من كان خامل الذكر في الحقيقة ولم يخلّف شيئا من تأليف، وجمعت كل كبيرة وصغيرة ممّا له صلة بأعلام المذهب، حتّى كرّر بعضها بعضا تكرارا حرفيا أحيانا، على ما نراه عند المقارنة على سبيل الذكر بين ما جاء في «معالم الإيمان» للدباغ وفي «ترتيب المدارك» للقاضي عياض، وحتّى في «رياض النفوس» للمالكي.
عاصرت خديجة إذن فترة تاريخية اتّسمت بالاستقرار السياسي والمذهبي، فقد ثبت الأمر سياسيّا لصالح بني الأغلب، وفقهيّا لصالح مذهب إمام دار الهجرة، وقضّت مجمل حياتها بمدينة كانت تمثّل آنذاك عاصمة من عواصم العلم لا تكاد تنافسها في ذلك مدينة أخرى مغربا ومشرقا(الدباغ، أبو زيد عبد الرحمان الأنصاري الأسيدي(ت696هـ): معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، تح. محمد الأحمدي أبو النور، أحمد منظور، القاهرة/تونس، مكتبة الخانجي/ المكتبة العتيقة،: ج1، صص 7-8، المالكي: رياض النفوس، ج 1، ص 12.) وعاشت ببيت من بيوتات القيروان قال فيه ابن حارث: «أقام سؤدد العلم في دار سحنون نحو مائة عام وثلاثين عاما، من ابتداء طلب سحنون وأخيه إلى موت ابن ابنه محمّد بن محمّد بن سحنون» (القاضي عياض: ترتيب المدارك، تح. عبد القادر الصحراوي، الدار البيضاء، المملكة المغربية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط2، 1983، ج4، ص 87) فكانت هذه السياقات جميعها مواتية لتكون خديجة من أعيان عصرها وليشهد لها كل من أرخوا لسيرة أبيها أنّها كانت من خيار النساء وأحسنهنّ وأعقلهنّ. والملاحظ أنّ هذه الشهادات بشأنها جاءت عرضا في سياق تراجم أبيها أو أخيها أو ابن عمّها أبي جعفر أحمد بن لبدة بن أخي سحنون(المصدر السابق.، مج 2، ص 222-223، الدبّاغ، مصدر مذكور، ج 2، ص 86) حيث جاء وصف خديجة: «وكانت من خيار الناس» في سياق خبر رواه سلمان بن سالم وورد في كلّ تراجم سحنون، يتعلّق بردّ فعل أبيها عند توليته قضاء القيروان وما كان وجده من عنت في قبول الأمر حتّى إنّه عندما عاد إلى بيته بعد تقليده الخطّة قال لابنته: «-وكانت من خيار الناس-اليوم ذبح أبوك بغير سكّين» (القاضي عياض: مصدر مذكور، ص 57) وجاء في خبر رواه الأبياني في سياق ترجمة أحمد بن لبدة: «كانت خديجة بنت سحنون من أحسن النساء وأعقلهنّ، فذكر لي أبو داود العطار أن أحمد بن لبدة أرسله لسحنون يخطبها عليه فذكرتُ ذلك له فقال: هممتُ بذاك فأباه محمد-يعني ابنه-ولا أصنع ما لا يحبه. فسكت عنه إلى أن توفّي سحنون فأرسلني إلى محمد، فذكرت ذلك له فقال: كيف أصنع ما لم يصنع أبي؟ فسكتّ عنه حتّى توفّيَ محمد فأرسلني إليها فقالت لي : ما لم يصنع أبي وأخي أنا أصنعه؟ لا أفعل»(المصدر السابق: ج 2، ص 223) وإذا جمعنا ما جاء عنها متفرّقا في «مدارك» القاضي عياض وجدنا خديجة عاقلة، عالمة، ذات صيانة ودين، كانت نساء زمانها يستفتينها في مسائل الدين ويقتدين بها في معضلات الأمور.
هذا كلّ ما توفّره المصادر عن خديجة بنت سحنون: نشأت في بيت علم ومجد، كانت مؤهّلة بفعل نشأتها هذه وبفعل تفرّغها لكي تكون من ذوي المعرفة وممّن ينتظر منهم أن يؤلّفوا في العلم، فهي لم تتزوّج بقرار من أبيها فأخيها رغم إلحاح ابن عمّها في خطبتها ، ثم بقرارها من باب المحافظة على كلمة الأب والأخ، دون أن نقف فيما تتيحه المصادر على ما وراء هذا القرار من أسباب، وإن كنّا لا نستبعد أن يكون هذا، من منظور فقه الإمام مالك الذي دوّنه أبوها وبرّز فيه، عضلا(العضل هو أن يمنع وليّ النكاح وليّته من الزواج دون سبب وحكمه التحريم في المذاهب الفقهية كلها)، ولكم كان العضل، ولا يزال في بعض الآفاق، شكلا من أشكال الظلم المسلّط على النساء باسم أحكام الولاية. والملاحظ أنّنا لم نقف في ما اطّلعنا عليه من كتب ومقالات على من وضع هذه الواقعة موضع تساؤل، بل إنّ ما وجدناه يدلّ على إعجاب بموقف خديجة عندما أنكرت أن تفعل ما لم يفعله أبوها وأخوها ورفضت طلب ابن عمّها الزواج بها. وفي هذا ما يشير إلى أنّ آثار الذهنية التي تحكّمت في وضع خديجة ووجهت الصورة التي رسمتها لها المصادر ما زالت باقية إلى اليوم.
زهيّة جويرو
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية