«ومن مفارقات التّاريخ أنّ المرأة التّونسيّة الّتي كان لها حضورها الفعّال في تاريخنا الوطنيّ لم تدوّن أولم تكتب بنفسها هذا التّاريخ، وذلك لأسباب عديدة منها ما هو ذاتيّ ومنها ما هو موضوعيّ، ويرتبط ذلك إمّا بصعوبة الكتابة وعدم تمكّن العديد من النّسوة من إجادتها، أو لعدم توفّر فرص تدوين ذلك التّاريخ الخصوصيّ.» (حبيب القزدغلي (تنسيق وتقديم إنجاز جماعيّ)، نساء وذاكرة، تونسيّات في الحياة العامّة، 1920-1960، تونس، نشر الكريديف، والمعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنيّة، بمساهمة صندوق سعاد الصّباح، 1993، ص 18).
من هذا الصّنف من المقاومات برزت «خديجة رابح» بوصفها أنموذج المرأة التّونسيّة الّتي وفّر لها نشاطها السّياسي فرصة الخروج من دائرة «من لا صوت لهنّ»، والتّحرّك اليوميّ خارج الفضاء المنزليّ، في رحاب المدينة العتيقة، ثمّ في مختلف المدن التّونسيّة، كلّما اتّسعت رقعة الصّراع واحتدّ وطيس المقاومة.
لم تكن «خديجة رابح» تمتلك وسائل التّعبير عن «تاريخها الخصوصيّ»، بل كاد نضالها البطوليّ يطويه النّسيان لو لم تسنح لها فرصة روايته في «قصّة حياة» (يعود الفضل في توفير فرصة رواية هذه القصّة إلى مبادرة ليليا العبيدي، الّتي جمعت شهادات حيّة ثمينة لخمس نساء، من بينهنّ «خديجة رابح» في كتابها، ليليا العبيدي، جذور الحركة النّسائيّة بتونس، تونس، مطبعة قرطاج، ط.2 مع إضافة، 1989، (ط.1، 1987)، ص45-55). والإحالة عليه ستكون في المتن)، لا يمكن تحديد بدايتها ونهايتها بتاريخ ميلادها سنة 1910، ولا بتاريخ وفاتها سنة 1988، ولا بمسقط رأسها بالمطوية ولا بمثواها الأخير بمقبرة الجلاّز. فهي، بكلّ بساطة، قصّة امرأة، تمكّنت في النّهاية بعد نضال طويل من نقش اسمها في «ذاكرة النّساء»، وتخليده بكتابته على لوحة معدنيّة معلّقة في نهج من أنهج العاصمة. أليس الاسم هو «الزّفير الأخير الّذي يبقى من الأشياء» (رولان بارط).
من الشّيّق أن تبدأ قصّة «خديجة رابح» بذكر جدّها «محمود صويلح من أهالي المطويّة» (ص 46)، فهي لا تنتسب إليه بحكم قرابتها الدّمويّة منه فحسب، وإنّما بتاريخه النّضاليّ الّذي مثّل عندها رأسماله الرّمزيّ الجدير بالوراثة. فقد حارب جدّها فرنسا بكلّ شراسة، وعندما استسلمت المقاومة بالجنوب فرّ إلى ليبيا، ومكث فيها ثلاث سنوات، وعاد بعدها إلى تونس بأمان «هزّوله ميعاد وجابوه، باش رجع للبلاد» (ص46). ولكنّ عداوة فرنسا لعائلتها لم تفتر «قعدت فرنسا تكرهنا ديمة»، ممّا ولّد إحساسا بالكراهية عميقا «ونحنا نكرهوها في الدّم» بسبب الحيف والظّلم «على خاطر عذّبت أجدادي. عذّبونا بالضّرب والعذاب وبالخطايا فسّدولنا رزقنا، غاروا علينا وعلى ملكنا، خذوه وعملوا فينا شرّ الشّعف، هي تقول (أي فرنسا): ذاكرة المطويّة هذي ما نحبّهاش. نحن زادة ما نحبّوهاش لغدوة.».
توفّى جدّها محمود صويلح وهي بنت سبعة أشهر، فربّاها «صالح وحليمة» جدّاها تربية سطّرت قواعدها التّقاليد في تنشئة المرأة. فلم تذهب إلى المدرسة، بل لم تختلف إلى الكتّاب، «كيف كنت صغيرة ما مشيتش للكتّاب، كان عندنا عار نمشي للكتّاب ! [...] الله غالب ما يقروش وقتها، يقرّوا الأولاد برك بالعربي» (ص47)، ولم يكن يحقّ لها أن تخالط الأولاد «الطفلة ما تقربش حذا الولد بالكلّ، كلّ حدّ على شيرة» ولا أن تشاركهم اللّعب «البنات تلعب وحّدها والأولاد وحّدها. كلّ حدّ على شيرة»(ص47). اشتغلت باكرا في غابة النّخيل «نخدم الفلاحة. عزيزي كان فلاّح، نرقو للنّخل، ونقصّو التّمر، ونذكّرو، ونخدمو في الغابة بالمسحة نغرسو الخضرة، نزرعو النّعمة، نحصدو وأنا نعمل هذا الكلّ كيف الرّاجل، من الّي بديت نخدم عمري عشرة سنين حتّى لين عرّست (ص46)، وفي سنّ السّابعة عشرة من عمرها، تزوّجت من ابن عمّها، وأنجبت منه طفلا وطفلة. وفي سنة 1930، أكرهها زوجها على الانتقال معه إلى العاصمة حيث كان يشتغل «خلّيت عايلتي... بالسّيف جيت»، ولكن سرعان ما أعجبتها أجواء تونس فاندمجت فيها بسرعة بفضل نجاحها في العمل «شويّة كيف جيت لتونس عجبتني، قعدت ثمّة، عجبتني ولّيت نخدم غادي، نخيّط ونطرّز، ندخّل في الفلوس، ولّيت لاباس عليّ.» (ص48).
كانت سنة 1934 لحظة فارقة في حياة «خديجة رابح»، فقد قرّرت الانخراط في العمل السّياسي تأسّيا بابنة عمّها أمّ السّعد يحيى الّتي «دسّت سي الحبيب في دارها» وأخفته عن أنظار الجندرميّة. وبدأ إرثها النّضالي يستيقظ بعد خموده بسماع أحاديث الرّجال في دارها بنهج سيدي عبد الحقّ، وبسماع الأخبار من الرّاديو. وقد ساهم كلّ هذا في تشكيل وعيها الوطنيّ الّذي اتّخذ من إخراج فرنسا من تونس غايته: «كيف نسمعو حاجة في الأخبار نتيسّفوا برشة ونقولو: ما صاب نلحقو فيها نهار نطلعوها من تونس ونحن حيّين يا ربّي» (ص48). وقد واتتها الفرصة التّاريخيّة لمّا اختلفت قيادة الحزب الدّستوري في سياسة المقاومة «الثّعالبي وجماعته يقولوا نتكلّموا بالسّرقة، نتحدّثوا بالسّرقة، وسي الحبيب يقول لا، نتكلّمو ونسمعو النّاس الكلّ» (ص48).
وبفضل هذا الانقلاب الجديد في سياسة الكلام والسّماع، أمكن للحركة النّسائيّة في تونس أن تشارك «في المراحل الحاسمة ومواجهة الاستعمار ابتداء من 1952، كان هناك رصيد هائل من الطّاقات النّسائيّة الّتي أطّرتها التّجارب الجمعياتيّة المختلفة، وقدّمت المرأة إسهاماتها في المظاهرات والاجتماعات، وحتّى في المغامرات الوطنيّة الجريئة» (حبيب القزدغلي (تنسيق وتقديم إنجاز جماعيّ)، نساء وذاكرة، تونسيّات في الحياة العامّة، 1920- 1960، م.م، ص 18. والإبراز إبرازنا). وليست قصّة حياة «خديجة رابح» سوى سلسلة من «المغامرات الوطنيّة الجريئة» لم تتوقّف إلاّ بعد الاستقلال. بدأت على المستوى الشّخصيّ بتغيير أسس علاقتها بزوجها «شاورت راجلي قلتله: اسمع يا ولد عمّي، توّا كيف باش نولّي حركة وطنيّة راني باش نخشها، وسامحني كان متت، وإلاّ عشت، وإلاّ تربطت، وإلاّ إلّي يصير عليّ... ما بيننا كان السّماح. قاللّي: مسامحك. أولادي خلّيتهم في الدّار، بوهم بحذاهم وممّاتهم.» (ص50).
وبخروجها من الفضاء المنزلي إلى الفضاء العموميّ، تغيّر شكل حضورها فيه، فصارت تتحرّك سافرة الوجه بعد تحجّبه «في المظاهرات الكلّ، ديمة مغطّية راسي بالسّفساري، ما يتنحّاش من راسي، حتّى وجهي كان مغطّي... بعد ولّيت نعرّيه، قلت خلّ يصوّروا وإلاّ يعملوا آش يحبّوا.» (ص50). وبعد تحرير الوجه تحرّر اللّسان، فصارت تخطب في الشّعبة النّسائيّة مع «شاذليّة وسعيدة بوزقرّو. نقولو فرنسا ظلمتنا، استبدّت علينا، مهمّلتنا. نحن البلاد بلادنا، والرّزق رزقنا...» (ص49).
ومن الخطب الحماسيّة، انطلقت إلى العمل الميداني الّذي اتّخذ مسارين متكاملين، تمثّل الأوّل في أعمال مقاومة لفرنسا بالمشاركة في المظاهرات وتنظيمها وإخفاء الأسلحة وعرقلة المحاكمات كمحاكمة علاّلة البلهوان، الّتي شاركت فيها مع مئات من تلاميذ جامع الزيتونة بالخروج رفقة اثنتي عشرة امرأة، فعطّلوا السيّارة التي كانت تحمله إلى المحكمة، وهو ما انجرّ عنه مناوشات مع جنود الاحتلال سقط إثرها الكثير من القتلى والجرحى، أو مشاركتها في إضراب «التراموي» لمدة ثلاثة أيّام. «عَمَلْنا «قرَافْ» ثَلاَثَة ايَّام «التُرُمْفَايْ» مَا يَركَبْ فيه حَدْ. ثَلاَثَة أيَّامْ، كلْ مَحَطَّة فيها رَاجِلْ وزُوزْ نْسَاءْ. أَنَا عَسِّيتْ فِي القَصبَة. جَاءْ وَاحِد رَاكِبْ، خْشِينْ، لاَبِسْ قشّابيّة، قُلْتُله : «اهْبَط، اهْبَط»، مَا حَبِّشْ يَهْبط [...]. كيف ما حبّش يهبط كَرْكَرته مِنْ طرْبُوشْتَه، كنت عاتية، نِجِيبَه فِي الوَطَاءْ، نْقوله كول، وبركت عليه وعطيته ردكات بساقي خلّيته ملوّح. تَعَدّ «التُرنْفَاي» وخَلاّه.» (ص50).
أمّا المسار الثّاني فقد تجسّم في أعمال مساعدة للحزب وحركته الوطنيّة. فقد تمكّنت رغم شظف العيش وضيقه من تقديم الكثير من المساعدات كنجاحها في جمع صندوقين من الذهب وثلاثة أكياس من الفضة لمساعدة ما أسمته بحزب الثّعالبي، أو تجميع النّساء ليطبخن للمساجين. وبفضل هذين الدّورين الخطرين، كانت «خديجة رابح» تخاطر يوميّا بحياتها بالدّخول إلى السّجن في باجة، أو بتعرّضها للرّصاص في مظاهرة باب بحر «الدّمّ يشرشر من ساقي ومن كلّ بقعة» (ص53).
وبفضل هذه «المغامرات الوطنيّة الجريئة» الّتي فاضت من كثرتها على ذاكرتها لأنّ الحديث عنها «قد شعر الرّاس مش شويّة، كيف شعر الرّاس» كتبت «خديجة رابح» ملحمة بطولتها الوطنيّة بعزم من حديد لم يفلّ فيه دخولها إلى السّجن ولا تعرّضها للرّصاص ولا ضرب زوجها وتعنيفه، فظلّت دائما وفيّة لما آمنت به حقّا: ببورقيبة، بكلّ الزّعماء، فرحات حشّاد والمنجي سليم وغيرهم، و خاصّة بـ«الشّعب إلّي جاهد» (ص 55).
العادل خضر
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية