صدر بتونس قبل سنوات كتيّب استرعى الانتباه بموضوعه الرائد في تاريخ حركة الإصلاح في العالم الإسلاميّ الحديث عامّة، وحركة تحرير المرأة المسلمة بشكل خاصّ؛ لكن أيضا بشخص المؤلفة: خيريّة بن عيّاد، المرأة التركيّة ذات الأصول التونسيّة، التي صار ينظر إليها باعتبارها «إحدى رائدات تحرير المرأة المسلمة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين». (وصيفي، يونس، خيريّة بن عيّاد، إحدى رائدات تحرير المرأة العربية المسلمة في أواخر القرن التاسع عشر»، المجلة التاريخية المغاربية، 2005، عدد 119).
ولدت خيريّة بن عيّاد باسطنبول في 20 سبتمبر 1873. والدها محمود بن عيّاد، الرجل الذي ارتبط اسمه بدولة أحمد باي (1837-1855) واشتهر سلبا بتهريب ما ائتمن عليه من أموال هذه الدولة فعاش في المهجر، في فرنسا أولا، ثم في تركيا، وأمّها إحدى جواريه تدعى بدريّة. مات والدها وهي في السابعة من عمرها ولم يذكرها بالاسم في وصيّته بنصيب من ثروته العظيمة. بيد أنه يجوز أن نفترض أنّها عاشت فترة حياتها الأولى، أي إلى موت أبيها سنة 1880، عيشا هنيئا وحصلت على مبادئ تعليم، وربّما شيء من عطف أبوّي في كنف «الحرم» المكتمل؛ ولعلها استبْقت من هذا العهد لقب الأميرة، الذي سيصاحبها في جولاتها الأوروبيّة ويضفي على شخصها مزيد الاعتبار وعلى محاضراتها مزيد الجاذبيّة. ولا علم لنا بما جرى فيما بعد سوى أن أمّها، بدريّة، اقترنت ثانية برجل يدعى أحمد رفقي باي.
في جويلية 1890، أي في سنّ السابعة عشرة، تزوّجت خيريّة رجلا من أصل سويدي، كان يدعى غوستاف نورنغ (Gustaf Noring)، قدم إلى اسطنبول سنة 1879، وهو في سنّ الثمانية عشرة، واستقرّ بها وأسلم وصار يدعى علي نوري، عمل بوزارة الشؤون الخارجيّة وعيّن في سنة 1898 قنصلا عامّا بروتردام. إلا أن السلطات التركيّة اكتشفت علاقته بحركة مناوئة للسلطان عبد الحميد فاتّهم بالتآمر عليه وحكم عليه بالسجن غيابيّا. وفي جوان 1901 دعي إلى اسطنبول لكنه لاذ بالفرار ومضى ينشط في المعارضة المندّدة بعبد الحميد ونظامه.
لا بدّ أن خيريّة، وهي باسطنبول، عانت من هذا الوضع وقد أضحت محلّ رقابة، فيجوز أن نتصوّر أنّ نقمتها على السّلطان عبد الحميد ووعيها بسلبيّات نظامه ورغبتها في فضحه نشأت في تلك الظروف، أو أنها توطدت وقتها. زد على ذلك أنها ما كادت آنذاك تخرج منهزمة خائبة من قضيّة عدليّة من أجل حقها في الثروة الطائلة التي تركها أبوها بعد موته وحرمت منها فقد كرّست وصيّته بخط يده ثلثا إلى كل من الابنين «الشرعيين» (أحمد ومحمد الطاهر)، وتركت القسط الثالث إلى مجموعة بأحد عشر شخصا من نسله، ولم يندرج بينهم اسم خيريّة.
ومن بين الاعتراضات التي جوبهت بها عدم البرهنة على شرعيّة انتسابها إلى محمود بن عيّاد، بما أنها لم تقدّم ما يثبت قطعا أنه اشترى أمّها، بدريّة، واحتفظ بها لديه جارية. فلا شكّ أن الأمر حزّ في نفسها وأنها تألمت من موقف الأخوين (يبدو أنها تصالحت معهما آتيا، أو مع أحدهما على الأقل. فقد ورد في صحيفة الإعلان عن حفل زفاف بين فاطمة نازلي هانم، «ابنة علي نوري باي، القنصل العام لتركيا بروتردام سابقا، و خيريّة هانم بن عيّاد، وابن خالها «ابراهيم صالح باي» ابن «الأمير الطاهر باي»، وذلك يوم 8 أوت 1912، بقصر جدهما «المرحوم الأمير محمود بن عيّاد»، بـ (Tchamlidja)، فضلا عمّا عساها شعرت به من غيض ونقمة حيال من امتلك أمّها جارية وأهمل حقها.
ثم إنّها سعت إلى الالتحاق بزوجها في المهجر؛ وتمكّنت رغم الرقابة المضروبة عليها من مغادرة البلاد ومعها ابنتان صغيرتان. وكانت قد اتخذت قرارها وعقدت العزم – حسب ما يبدو من قولها– «على أن أطلع الغـربَ المتحـضّر على أوضاع الشعـب التـركـيّ العـائـلـيّـة وأن أعـمـل على إثـارة شعـوركـم الطـيّـب إزاء نزعـتـنـا ومساعـينـا ــ وربّما أيضا كـسـب مسانـدتـكـم المعـنـويّة». هكذا انخرطت خيرية بن عياد في النضال في سبيل الإصلاح الاجتماعي، المركّز على المرأة المسلمة، وغدت في ذات الحين، بتحدّيها نظام السلطان عبد الحميد، من أوائل مسلمات العصر الحديث اللاّتي تجرّأن على ممارسة المعارضة السياسيّة بشكل فعّال ضدّ نظام حكم رجعيّ مقيّد للحريّات.
واجتمع شمل الأسرة بأثينـا، ثم إنها تحوّلت إلى لندن، حيث أعلن، في أوت 1901، عن وصول «الأميرة خيريّة بن عيّاد»، وقد سبقتها سمعتها النضاليّة، على ما يبدو، إذ كتبت إحدى الجرائد، إلى جانب صورتها: «مُصلحة تركية تحلّ بلندن». وتحدّثت صحيفة أخرى، تحت عنوان «أميرة تناهض السلطان»، عن قدوم «سيّدة تركيّة من الطبقة الراقية» لفضح «أسرار الحرم» وللتعريف بأوضاع بلادها الاجتماعيّة. وقيل إنها أثارت اهتماما بالغا «كما لو كانت من كبار الشخصيّات»، ووُصفت بأنّها «فائقة الجمال، ذات وجه يتّسم بنعومة تخرج عن المعتاد بالنسبة إلى السمراوات الشرقيّات»؛ كما شوهدت مرارا في شوارع لندن تجول في عربة مع زوجها.
وبعد مدّة من الترحال عبر عواصم أوروبا. أخذت خيريّة، بتشجيع من قياديّات في حركات تحرير المرأة وبدعم من جمعيّات نسائيّة، في التوجّه بقضيّتها إلى الرأي العام الأوروبيّ، عبر الصحافة وإلقاء المحاضرات العموميّة، مستعرضة وضع المرأة المسلمة داعية إلى تخليصه من عادات وتقاليد مكبّلة وممارسات مهينة، مشهّرة بدور السلطان عبد الحميد السلبي ومسؤوليّته في ذلك. وبعد لندن واصلت جولتها بستوكهولم وكوبنهاغن، ثم بفيانا وبرلين.
ومن أبرز الأحداث في هذا الصّدد محاضرة ألقتها يوم 21 فيفري 1904 أمام حضور غفير بالعاصمة النمساويّة فيانا. وقد نسقت لها الأمر سيّدة (غوسفينا فون برلابش) اكتسبت في ذلك الوقت شهرة كأديبة وعُرفت بتحمّسها لقضايا المرأة وتحرّرها. ولم تقتصر وساطتها على تنظيم المحاضرة والعمل على ترجمة نصّها إلى الألمانيّة، بل كذلك على نشر هذا النصّ، الذي أضحى بذلك الوثيقة الأساسيّة والمصدر شبه المباشر لمعرفة فحوى الخطاب وما ورد فيه من آراء واظبت صاحبته على ترويجها، والذي أفضى أخيرا إلى الترجمة العربيّة (وقد أنجزها كاتب هذه السّطور ونُشرت بمركز تونس للترجمة سنة 2008). وقد تحمّست برلابش لأمر خيرية لما رأت فيه «مبـادرة تجرّأت على القـيـام بها امرأة حازمة حادّة البصر» عملت على «إمـاطة اللـثـام عن ضيم، واتّخـذت لـنفـسها من ذلك واجبـا حتى يـتـمّ جبـره بـفـضل إصلاحـات لا تتـنـافى قـطعـا مع ديـن وطنهـا وقـوانـينه». وقد وصفتها إحدى الحاضرات كونها «امرأة طويلة القـامة نحيفـة الـقـدّ، ذات وجه شاحب نحيف تـشعّ منه مقـلـتـان واسعـتـان حالكـتـا السّواد، تحـدّقـان بكـآبة وكأنّهما تـنشـدان النجدة وترويـان لنا خبرا حزينـا مفعـما هـمّا وألـما».
ولئن أمعنت خيريّة في نقد السلطان وكل ما رأت فيه سببا في حرمان النساء من حقوقهنّ وعرقلة طموحهنّ إلى ما هو أفضل – دون إعفاء والدها محمود بن عيّاد من تشهير ضمني بالتلميح إلى دوره في تجارة الجواري – فإنّها حرصت على تبرئة ساحة الدين الإسلاميّ في حدّ ذاته، ورفع التهمة عنه كونه السبب في تحقير أو تهميش العنصر النسائي، فصرّحت، متوجّهة إلى جمهورها الغربي: «إن الإســلام في مفـهـومه الصّحـيح يمنـح المـرأة حقـوقـا وامتـيازات لا تـقـلّ عما يـفي بحاجـة أشـدّ الأوروبـيّـات مطالـبة. غيـر أن الـدّولـة تجـبـر المرأة، بواسطة شروط اسـتـبـداديّة ابتـدعـتهـا، على البقاء في جهـل فـظـيع، وذلك لسـبب بسيط هو الخشية من أن تـؤثّر في الرجـل تـدريجـيّا تأثـيرا غير مرغـوب فـيه».
وبصدور طبعة محاضرتها ازدادت شهرة خيريّة بن عيّاد شيوعا، وترجم نصّها من الألمانيّة إلى لغات أخرى، وراج خبرها في أرجاء أوروبا وبلغ الولايات المتحدة، حيث ذاع في سنة 1901 أن «الأميرة التركية خيريّة بن عيّاد التي أسّست بانكلترا حركة تتصدّى للأوضاع الاجتماعية بتركيا، تستعدّ لزيارة الولايات المتحدة». ولما شاركت خيريّة بن عيّاد في المؤتمر العالمي للحركة النسائيّة، المنعقد في جوان 1904 ببرلين، بحضور المئات من المناضلات من مختلف الأوطان، كان «اسمها معروفا معرفة جيّدة بفضل جهودها من أجل تحسين مصير النساء في تركيا».
وبنجاح حركة «تركيا الفتاة» في جويلية 1908 ورضوخ السلطان عبد الحميد، أنهت خيريّة حياة المهجر وعادت مع أسرتها إلى اسطنبول. وقد ثبت أنها أدّت قبل هذا التاريخ – وربّما بعده أيضا، إلى وفاتها سنة 1944 – بعض الزيارات إلى تونس. ويؤمل أن يكشف البحث آتيا عن تفاصيل زياراتها، لاستجلاء علاقتها الشخصيّة بهذه البلاد، علما وأن صحيفة La Dépêche Tunisienne قد تناولتها بالذكر، وذلك بتاريخ 5 مارس 1904، أي على إثر محاضرة فيانا.
لقد تبيّن مما سبق أن خيريّة بن عيّاد – مهما كانت دوافعها الشخصيّة – أثارت بحملتها اهتماما ملحوظا في العالم الغربيّ وأحدثت تأثيرا لا بدّ أنه ساهم، بقليل أو بكثير، في تغيير التصوّر التقليدي عن المرأة المسلمة وأدّى إلى الوعي بمفارقة تقتضي التمييز بين أغلبيّة نسائيّة مغلوبة على أمرها، تعاني من «تخلف» مسلط لا محتّم، وأقليّة مثقفة، منهنّ، على غرار خيريّة ذاتها، ممّن تجرّأن على مجابهة الوضع السائد والنضال من أجل تغييره، بتحدّي العراقيل السياسيّة والاجتماعيّة، وترويج أفكار «ثوريّة» رائدة ونداءات حثيثة في معاقل الحضارة الغربيّة. أما فيما يهمّ وطنها، تركيا – حيث كانت السلطات بالمرصاد لها لكبح جماحها – وفي سائر العالم المستهدف بضرورة الإصلاح ونزعة التغيير، حيث كان سواد النساء آنذاك في حاجة إلى من يعين على مجابهة تقاليد بالية وتغيير عقليّات راسخة، فقد ظلت ابنة محمود بن عيّاد مغمورة أو تكاد، وأفكارها طيّ تقارير جواسيس السلطان وأرشيفات مخابراته. وأمّا في تونس، فقد «تأخّرت ترجمة محاضرة خيريّة بن عيّاد أكثر من قرن، ولو قدّر لهذا الكتاب أن يصدر [في أوانه] بالعربيّة أو حتّى بالفرنسيّة [...] لكان مصدرا من مصادر الجدل الخصيب حول حريّة المرأة المسلمة، خصوصا وأنّه من تأليف امرأة تنحدر من أب تونسيّ وأمّ تركيّة». (فتحي القاسمي ويونس وصيفي في مقدمة «الأميرة خيريّة بن عيّاد، ص 15.).
منير الفندري
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية