0 Loading ...

موسوعة النّساء التّونسيّات موسوعة النّساء التّونسيّات

الجازية الهلاليّة

[ق 10 م]
مجالات النشاط
  • الحضارة والتاريخ

الجازية و«الزازية» هو اسمها الشائع لدى الرواة الشعبيّين في البلاد التونسيّة، بصفة خاصّة، وبلاد المغرب العربي، بصفة عامّة)، وهي من شهيرات النساء مشرقا ومغربا، وعالميّا أيضا، لما تميّزت به من شخصيّة نوعيّة قلّ مثيلها، من جهة، ولأنّ شهرتها، من جهة ثانية، كرّستها سيرة (ملحمة) تُروى منذ أكثر من عشرة قرون إلى يوم الناس هذا، ولعلّ روّاة المستقبل، لن يهملوا ذكرها في سردهم الشفاهي أو الروائي المكتوب.

والظاهر أنّ الروايات القديمة والحديثة، الشفاهية والمطبوعة والمخطوطة ونذكر عرضا أنّ بعض المكتبات الوطنيّة في أكثر من بلد من بلاد العالم تحتفظ بعشرات المخطوطات ذات الأصول المشرقّية مثل سوريا، ومصر، ولبنان، والإفريقيّة أيضا مثل التشاد، بيد أنّ أشهرها هي المخطوطة الفاخرة في جزأين التي تحتفظ بها خزائن المكتبة الوطنيّة التونسيّة اتُّفق على تسميتها بـ«السيرة الهلاليّة»، أو «سيرة بني هلال» ، أو  سيرة أبو زيد الهلالي»، أو «سيرة ذياب»، أو «التغريبة» وكذلك «سيرة الزازية»، وغيرها من التسميات، وهي كثيرة.

ومهما كانت الرواية فإنّ شخصيّة الجازية حاضرة فيها حضورا متألّقا، ويبدو أنّه يوجد ضرب من الإجماع حول صفة التألّق التي تتميّز بها عن بقيّة الشخصيّات النسائيّة التي، تحفل بها أغلب روايات سيرة بني هلال، أو السيرة الهلالية، وهي التسمية التي أصبحت أكثر شيوعا منذ أن تعدّدت طبعاتها الورقيّة، في مصر (انطلاقا من طبعة بولاق، في أواخر القرن التاسع عشر) فلبنان وسوريا والعراق. ومن المفيد الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ الروايات الشفاهية السائرة منذ منتصف القرن الماضي في معظم البلاد العربية لم تقدر على الإفلات من تأثير محتويات الطبعات الورقيّة التي كثيرا ما يصيبها، هي الأخرى، تصرّف الطبّاعين، من حذف وزيادات وتصويبات اعتباطية بغير دافع في الغالب سوى تبرير إعادة الطبع. غير أنّ تصرّفات الطبّاعين، وكذلك أغلب الرواة الشعبيين، لم تتناول شخصيّة الجازية بالتغيير من حيث خصالها التي تغنّي بها الرواة الأوائل وخلّدوها. وقد كان العلاّمة ابن خلدون، على أغلب الظنّ، أوّل من بادر فأخذ عن بعض الأفراد من بني هلال، في القرن الثامن للهجرة، شذرات من أشعارهم وروايتهم السرديّة، التي احتلت شخصيّة الجازية فيها موضعا بارزا (المقدّمة).

ولعلّه من المفيد الإشارة في هذا السياق وقبل تركيز القول على شخصيّة الجازية، إلى أنّ سيرة بني هلال قد نُقلت، سواء من نصوصها الشفاهية أو المطبوعة، إلى العديد من اللغات الأجنبيّة، وخاصّة منها الألمانيّة والفرنسّية والانجليزيّة والإيطاليّة، وأنّه صدرت عنها، بُعيد دراسة الباحث الألماني، هارتمان (Hartmann)، ثمّ الباحث الفرنسي، بال (Bel)، العشرات من الدراسات بمختلف اللغات، علاوة على العشرات من الدراسات، بما فيها البحوث الأكاديميّة، والمجموعات الميدانيّة، باللغة العربيّة. ولا نجانب الصواب بقولنا إنّ الجازية احتلّت مكانة هامة في هذه الدراسات، وإنّ المقالات التي تناولتها تعدّ، هي الأخرى، بأضعاف العشرات، وإنّها ألهمت عددا من الروائيين (كاتب ياسين، واسيني الأعرج، كاتب هذه الأسطر)، والمسرحيين (حافظ الجديدي) بأن صارت بطلة سرديّتهم، أو مثالا لصورة المرأة في لوحاتهم (إبراهيم الضحّاك، عادل مقديش). وبالرغم من تعدد نساء بني هلال، وذكر بعضهنّ ثناءً وإطراءً لجمالهن، فإنّ الجازية تفوقهنّ جميعا «في كلّ شيء» :  فمن تكون هذه المرأة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس وأصبحت بطلة السّرديّات المروية لشعوب كثيرة ؟

الجازية بنت سرحان، أخت الأمير الحسن بن سرحان، تزوّجت الشريف بن هاشم، «شريف مكّة ذي السبعة عيوب» (المرزوقي،2002)، تنتمي إلى عرب بني هلال، على الأقلّ منذ القرن الرابع للهجرة، كما تفيد جميع روايات سيرة بني هلال أو أغلبها، المشرقيّة والمغاربيّة. اشتهرت بيننا في البلاد المغاربيّة بـ«الزازية المخبّلة في شعورها») وهي نجديّة المنشإ بدويّةمدينيّة، عربيّة الهويّة، تزوّجت وطلّقت وأنجبت الأبناء وكأنّها لم تنجب (حمدة وحمد. ولم تعيرهما الروايات المشرقية أهميّه وقلّ ذكرهما فيها، ولكنّ التغريبة جعلتهما مرافقين لأبي زيد الهلالي أثناء ريادتهم لتونس الخضراء). أحبّت من الرجال قلّة القلّة. واللاّفت للنظر أنّ أحدهم من غير قبيلتها (البطل ذياب بن غانم من دريد) والثاني أمير من أمراء العراق، ابن الخواجة عامر الذي بكته كما لم تبك وفاة رجل، أمّا الثالث، كما شاءت بعض الروايات المغاربيّة، فهو حاكم تونس الخضراء، البربري، الزناتي خليفة، وقد طلّقته، هو الآخر، وكان زواجها منه زواجا «استراتيجيا»، إن صحّ التعبير، على ما توحي به الروايات المغاربيّة.

ولعلّ من أبلغ ما عُرِّفت به الجازية ما جاء بقلم الطاهر قيقة: «تفوق الهلاليات جميعا الجازية بنت بو علي. هي الجمال والفتنة والذكاء الوقّاد والحزم والتدبير(...) نكاد لا نعرف عنها شيئا. هل كانت متزوّجة أم طالقا أم أرملة؟ هل كان لها بنون؟ لا نعلم شيئا من هذا. نفضّل أن تكون وحيدة بلا زوج ولا بنين حتّى تنفرد في بهاها ورصانتها.»(قيقة، 1968).

وأغلب الظنّ عندنا أنّ جميع الأوصاف المذكورة أعلاه ونضيف إليها تغليب مصلحة القبيلة على مصلحة الذات قد نزعت عن الجازية صفة «الشخصيّة الواقعيّة» وألبستها صفة «الشخصيّة الأسطوريّة»، وبذلك فتحت أمام الرواة الشعبين ومتلقيهم، على مرّ الأجيال، أبواب المخيال الجمعي فصار مثل النهر الفيّاض يبقي على مجراه  ثابتا ومائه سائلا ويزيح عنه الشوائب بوتيرة النقل المطّرد.

ويبدو أنّ التحوّل الذي طرأ على شخصيّة الجازية فجعلها شخصيّة أسطوريّة، جعلها في ذات الوقت المرأة الواحدة المتعدّدة (femme plurielle) في السيرة الشعبيّة ذات البطل الجمعي، فسيرة بني هلال هي سيرة جميع بني هلال وكلّ شعب، أو مجموعة بشريّة، تبنّت هذه السيرة على أنّها سيرتها من أقصى شرق البلاد العربية إلى أقصى غربها. ولعلّ هذا الانتساب للسيرة والرؤية الجمعية لها، يمثلان السبب الجوهري في أنّ الجازية، المرأة التي لا تماثلها امرأة في مجموع خصالها، لم تُنسب لها صفة «البطلة» (Héroïne) رغم أنّها بـ«ذكائها الوقّاد» مكّنت قبيلتها من دحر أعدائها في أغلب المواقف وصار رجال القبيلة يأخذون، في ميعادهم الذي تجالسهم فيه برأيها وشاعت عنها صفة «الدبّيرة» أي الحكيمة.

والتحوّل المشار إليه هو الذي حدا بنا إلى أن نعتبرها، على قياس شخصيّات مشهورة أسطوريّة، بالدرجة الأولى، شخصيّة «خارقة للزمن» (Transtemporelle)، لا لأنّها شخصيّة ملحميّة فحسب وإنّما لأنّها أصبحت موضوع تبرّك وأضحى «يُرجى من التي تحمل اسمها أن تكون مثيلة لها».

ولعلّ سرّ التجاوز الزمني الذي تحظى به الجازية يكمن في القدرة العجيبة التي يضعها المخيال الجمعي في ذاتها والمتمثلة في استمرّاريتها (pérennité) ككائن مطلق يصحّ بإزائه أن نقول إنّه لو لم توجد الجازية لأوجدها المخيال الجماعي حتما، ذلك المخيال الشعبي الذي كان في «حاجة» ليبدع صورة المرأة-المثال، الفاعلة للمحافظة على مصير مجتمعها وتثبيت صيرورته عبر الأزمنة المتلاحقة. 

 

وتجدر الإشارة إلى أنّ الجازية، على العكس من عدد من نساء العالم العربي الإسلامي اللاّتي اشتهرن في أزمانهنّ، وجدت موقعا في التاريخ لدى بعض المؤرّخين الأفذاذ مثل ابن خلدون وحسن حسني عبد الوهّاب. وقد نفذت الجازية إلى التاريخ من باب التاريخ الشفاهي، وفي هذا دليل على أنّ استقراء التاريخ قد اهتمّ أيضا مند قرون بما حرصت الذاكرة الشعبيّة الجمعيّة  على أن لا تتركه للنّسيان.

ولعلّ أهم مكوّنات شخصيّة الجازية أن لها -في السرد الشعبي- وجودا يفيض على الزمن وأن لها زمنيّة أقدم من زمنيّة الرّواية التي أعلنت وجودها : فهي امرأة أنموذج أو طراز متعال على ظرفية القصّ.  

والجازية، من حيث الدلالة التي تتمحور حول «الجزاء»، صفة أساسيّة تكتسب قيمتها من العلاقة مع الآخر ومن طبيعتها.فجزاء الجازية ليس لنفسها بقدر ما هو للآخرين (القبيلة، الشعب، المرء المتميّز)، و»الجزاء العطاء»، ليس اسما تنادى به الجازية  بقدر ما هو اصطلاح لمشروع انتخبت له بصفة جماعيّة، في الزمن المطلق، لتمثّله على أنّه التّصرّف النموذج الذي تتحلّى به، المرأةالمثال المنشودة في كل زمن.

وثمّة عنصر آخر مهمّ ضمن مكوّنات شخصيّة هذه البطلة هو شحوب ملامح الإطار الزمني والمكاني الذي اكتنف وجودها، ومعنى هذا أنّ ذاكرة السّيرة الهلاليّة شاءت أن تكتفي بتعريفها بأنّها ابنة «عرب» بإطلاق صفة النسب على المجموعة: الجازية هي ابنة كلّ فرد من أفراد قبيلة بني هلال.

وإذا ما تعمّقنا في شخصيّة الجازية الأسطوريّة أدركنا قلّة جدوى معرفة ميلادها أو تاريخ موتها، فهما من المسكوت عنه في الذاكرة الجمعيّة لأنّ الجازية أُسّست ملحميّا على أنّها تنتمي إلى الزّمن غير المحدود، الذّي تختصّ به الآلهة الأسطوريّة عموما.

ونخلص إلى القول إنّه من المحتمل أن يكون المخيال الجماعي قد أراد من خلال مواترة السّيرة الهلاليّة ونقلها عبر الأجيال على مدى القرون العشرة الماضية أن يكرّس صورة خاصّة للجازية دون سواها من شخوص السيرة الهلاليّة، أحد مكوّناتها الوجود اللاّزمني الذّي تتحلّى به شخوص خاصّة مثقّلة بالرموز ومن أهمّ ما ترمز إليه شخصيّة الجازية مبدأ التّضحية. وقد قدّمت الجازية أبرز مثال للتّضحية بقبول ما اشترطه الزناتي خليفة على بني هلال: الأرض مقابل زواجه بالجازية، وقد قبلت الجازية ذلك حتى توطّن قومها في أرض إفريقية وتحقّق لهم حاجتهم للبقاء، وأن تقيم الهدنة، كما يقال اليوم، بين زناتة والعرب، لأنّها كانت تدرك أنّ من غرّب من أقوام الهلاليين لن يشرّقوا مستقبلا. وبفضلها تمكّنت المجموعة الهلاليّة أوّلا من المحافظة على كيانها خلال فترة زمنيّة ممتدّة منذ خروجها من نجد بعيد القرن السّابع إلى تاريخ شهادة ابن خلدون في القرن الرّابع عشر وثانيا من إنشاء أحد أهمّ المتون الملحميّة العربيّة، بل أحد أهمّ كنوز الذاكرة الإبداعيّة العربيّة.

هكذا تجلّت لنا الجازية،  المرأة النّموذج  والمرأة المشروع وقد بنيت شخصيّتها لا كيانها المادّي من لقاء العقل والتّضحية والحبّ والالتزام بالانتماء، فغدت صورة غيّب عنها شكلها لتستقرّ في ذاكرة السّرد شخصيّة لازمنيّة أي صالحة لكلّ زمان- وممثلة لعدد من المبادئ الخلقيّة السامية.

وإذا تساءلت: لماذا لا نعثر على أيّ وصف مادي للجازية، فذلك لأنّها لم تكن تُرى إلاّ «مخبّلة في شعورها»

 

 

 

عبد الرحمان سالم أيّوب

تفاعل مع المنشور وشاركنا تعليقاتك

ابحث بالمجال
العلوم
الاجتماعيّة والقانونيّة
العلوم
التجريبيّة والطبيّة
الآداب
والفنون
الالتزام
والنّضال في الحياة العامّة
الحضارة
والتاريخ
تواصل معنا

اقترح شخصية

تواصل معنا

العنوان

شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية

البريد الالكتروني
directiongenerale@credif.org.tn
رقم الهاتف
0021671885322
Drag View Close play
0%