ليلى المنشاري، رسّامة ومُصمّمة ديكور تُونسيّة، حقّقت الانتشار العالميّ بواسطة زخارفها البرّاقة على نوافذ ايرميس (Hermès) في باريس، إحدى أكبر العلامات العالميّة في مجال الموضة، والعُطور، والإكسسوارات الرّاقية الشّهيرة.
ولدت ليلى المنشاري في 27 سبتمبر 1927 بقلب مدينة تُونس (نهج المرّ بين باب المنارة وباب الجديد). والدها هو عبد الرّحمن المنشاري، وهو محامٍ ثريّ، كان يملك الكثير من الأراضي في شمال تونس. أمّا والدتها فهي حبيبة بنت جلاب، حفيدة سيّد جلاب، آخر سلاطين بني جلاب في تقرت، على ضفاف وادي ريغ بصحراء الجزائر، وكانت تعمل كاتبة عدل، وعُرفت بالتزامها بقضيّة تحرير المرأة في تونس وفي العالم العربيّ.
ما من شكّ في أنّ الحاضنة العائليّة كان لها دور كبير في تصميم المسار الشّخصي والمهنيّ لليلى المنشاري. ذلك أنّ تشبّعها بقيم الحريّة والجماليات أهّلها لأن تكون أوّل اِمرأة تُونسيّة مُسلمة تحصل على بُطولة في مجال السّباحة وهي في سنّ العشرين. كما أنّ شغفها بالفنون الجميلة، جعل منها أوّل اِمرأة تُونسيّة تلتحق بمدرسة الفُنون الجميلة بتونس، وكان ذلك سنة 1943، حيث تلقّت دُروسها على أيدي بعض الرّسّامين العالميّين من أمثال أرماند فيرجو (Armand Vergeaud)، وبيير برجول (Pierre Berjol) .
وقد تألّقت ليلى المنشاري في الرّسم بتقنية قلم الرّصاص والفحم، خلال سنواتها الأولى في المدرسة، ممّا أهّلها للانطلاق سنة 1948 في مجال النّحت والرّسم بمدرسة الفُنون الجميلة العالميّة في باريس، وكانت أوّل تُونسيّة تتخرّج فيها سنة 1953.
ثُمّ حصلت على منحة دراسيّة للإقامة في بيت فيلازكيز (Casa de Velazquez)، بمدريد، قامت خلالها بإنجاز رُسوماتها الَّتي تُمثّل إشبيليّة، ومشاهد المدينة الأندلسيّة، وحقّقت اِنسجامًا باهرًا ما بين قطع نادرة، مصنوعة من خُطوط سوداء مُثبتة على ورقة كبيرة من الورق المقوّى الأبيض.
وفي عام 1961 رجعت ليلى المنشاري إلى باريس، حيث عملت لفترة عارضة أزياء في دار «غي لاروش» (Guy Laroche)، ثُمّ دخلت الى دار ايرميس (Maison Hermés) الشّهيرة عن طريق الصُّدفة، بعد أن اِقترحت رُسوماتها على المديرة الفنّيّة آنّي بوميل (Annie Baumel) الَّتي اِنبهرت بالخيال الواسع وجماليّة الإبداعات، وسرعان ما أصبحت ليلى المنشاري مساعدة بوميل، ثُمّ المصمّمة الأولى ومديرة الدّيكور في دار إرميس، من عام 1978 حتّى عام 2013 سنة تقاعدها.
وقد حقّقت إبداعاتها إشعاعا كبيرًا ونجاحًا باهرًا، واِشتهرت ليلى المنشاري بتقديم عالمها الفريد بتصميم وإنجاز عُروض النّوافذ لواجهات متاجر دار ايرميس الأسطوريّة في باريس (24 Rue du Faubourg-Saint-Honoré)، حيث كانت تُشرف على تصميم الأكسسوارات والدّيكورات، أربع مرّات في السّنة، من خلال ستّ عشرة نافذة صغيرة وكبيرة.
هذه العُروض الفنّيّة المستوحاة من ذكريات طفولتها في تُونس العاصمة وفي مدينة الحمّامات، أذهلت المارّة بفضل ما تميّزت به من تمازج أخّاذ للألوان والرُّسومات والأقمشة المُختلفة... فأثارت الفُضول، وكسبت الإعجاب والثّناء، لأكثر من 35 عامًا.
وقد مثّل الاحتفال بعام الهند، الَّذي اِفتتحته دار ايرميس في العام 1984، مُناسبة جديدة لليلى المنشاري للذّهاب إلى راجستان مع مدير عام ارميس (Hermès) جان لويس دوماس (Jean Louis Dumas)، بحثًا عن توليفة مُتناغمة من الفنّ والحِرف شرقًا وغربًا، ودعوات جديدة للسّفر والحُلم حقّقت بها ليلى المنشاري نجاحًا مُنقطع النّظير، ممّا جعلها تُعيّن مديرة الحرير في لجنة الألوان والكريستال، في أكبر و أشهر ورشات عمل دار ايرميس بليون، ويُعدّ هذا المنصب إستراتيجياّ للغاية، حيث أنّه مُرتبط مُباشرة بتصميم مُربّعات ايرميس (Carrés-Hermès) الشّهيرة والمحبوبة من قبل النّساء الأنيقات في جميع أنحاء العالم وطباعتها.
وفي عام 2010، تمّ تنظيم معرض اِستثنائيّ بمعهد العالم العربيّ بباريس، تكريمًا لليلى المنشاري واِحتفاءً بإبداعاتها، وقد حرصت من خلاله على إبراز خبرة الحرفيّين والفنّانين في منطقة البحر الأبيض المتوسّط، ولا سيما تونس، في مجالات الفسيفساء، والنُّحاس، وقواطع الأحجار... وكُلّ الذين ألهموها، مُؤكّدة أهمّيّة الحِرف والفُنون اليدويّة ونبلها، واِعتزازها بأصولها التُّونسيّة واِنتمائها المتوسّطيّ.
وتقديرًا لمسيرتها الفنّيّة، وما قدّمته لدار اِرميس وللفنّ في العالم، كرّمتها الدّولة الفرنسيّة من خلال معرض تاريخيّ بعنوان: عوالم ليلى المنشاري (Hermès à tire-d’aile - Les Mondes de Leïla Menchari)، اِحتضنه القصر الكبير بباريس، وضمّ ثماني مجموعات رائعة لمصمّمة السّينوغرافيا ناتالي كرينيار (Nathalie Crinière)، مُستوحاة من نوافذ ليلى المنشاري الساحرة.
و قد سمح هذا الاحتفاء لجمهور واسع باكتشاف رُؤيتها الشّاعريّة من خلال تجربة بصريّة ثرية باهرة اِستثنائيّة، دفعت بالكاتب ميشيل تورنييه (Michel Tournier) إلى وصفها بـالملكة السّاحرة (La Reine Mage). وهو الوصف ذاته الَّذي عنونت به الكاتبة والنّاقدة والنّاشرة الفرنسيّة ميشال قازييه (Michèle Gazier) كتابها: ليلى المنشاري، الملكة السّاحرة (La Reine Mage)، الَّذي يُؤرّخ لحياتها المهنيّة من خلال 137 نافذة عرض، تُعبّر عن حُلمها بالتّواصل الحضاريّ وإيمانها بتنوّع الثّقافات وتلاقيها لبناء ثقافة الشُّعوب، مُعتبرة أنّ الحُدود الجغرافيّة من جراح التّاريخ، بينما الحُلم هو الَّذي يقودنا إلى الابداع اللاّمتناهي.
وقد وضّحت ليلى المنشاري في هذا الكتاب أنّه: «عند تصميم مشهد مّا، يجب أن يتضمّن العمل بعض الغُموض، لأنّ الغُموض هو نُقطة اِنطلاق الحُلم. الغُموض هو دعوة الى ملء الفراغات الَّتي خلّفها الخيال، فالمفتاح هو أن تكون قادرًا على اِستحضار الأشياء الَّتي يُحبّها النّاس من خلال التّعبير عنها بشكل مُختلف».
تُوفيّت المبدعة التُّونسيّة، رسّامة الأحلام ليلى المنشاري، يوم 04 أفريل 2020 في باريس، عن عمر ناهز 93 سنة، بعد إصابتها بفيروس «كوفيد - 19» (COVID-19). وكتب رجل الثّقافة الفرنسي الشهير والوزير السابق جاك لانج (Jack Lang) في رثائها قائلاً: «كانت اِمرأة تتمتّع بالحرّيّة، وتسعى دائمًا إلى الجمال وترجمة الأحلام إلى واقع، هذا هو سرّ نجاح ليلى المنشاري، المرأة المُتفتّحة الحُرّة الكريمة العصريّة الجريئة الحازمة».
سنيا مبارك
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية