تعتبر بيّة قمر (1866-1942) من أشهر نساء العرش الحسينيّ. وهي في الأصل أسيرة شركسيّة والزوجة المحظوظة لاثنين من البايات المتتاليين هما علي باي (1818-1902) والناصر باي (1855-1922). وقد قامت بسفرتين في حياتها: الأولى من إسطنبول إلى تونس وكان ذلك حوالي سنة 1877 والثانية من تونس إلى فرنسا وتمّت سنة 1926. وهي لا شكّ الأميرة الأولى الّتي سافرت خارج الإيالة.
وصلت هذه الأميرة صغيرة السنّ إلى سرايا تونس ولم تتأخّر في إحاطة نفسها بشبكة من الأتراك بهدف المحافظة على ارتباط تونس بالإمبراطورية العثمانيّة. إنّها امرأة مثقّفة، متمكّنة من الّلغة التركيّة وقد حذقت كذلك الّلغة العربيّة. كانت تتابع المجالس الأدبيّة الّتي كان يقيمها زوجها الأوّل علي باي من وراء الحجاب. وبعد وفاة هذا الأخير أصبحت تشرف على الأنشطة الثقافيّة وتجالس حلقة المفكّرين الّتي كانت تنشّطها الأميرة التركيّة-المصريّة نازلي هانم. وكان يدور فيها النقاش حول نهضة العالم العربي-الإسلامي وحول الرابطة الإسلاميّة كأداة لمقاومة الاحتلال الاستعماري.
وفي سنة 1906 تزوّجت وهي أرملة في الأربعين باي العرش الناصر. وقد شهدت برفقته سلب البلاد من خيراتها الاقتصاديّة وكذلك أوّل المواجهات المسلّحة في العاصمة خلال أحداث الجلاّز سنة 1911م والحرب بين الإمبراطوريّة العثمانيّة وإيطاليا بسبب احتلال طرابلس. وقد مثّلت الحرب العالميّة الأولى بالنسبة إليها جرحا عميقا لأنّها رأت بأمّ عينيها البلد الّذي تبنّاها يصارع السّلطان والخليفة العثماني. وهذا ما خلّف في نفسها كثيرا من المرارة.
وقد تجلّت موهبتها باعتبارها سياسيّة مع نهاية الحرب العالميّة الأولى في خضمّ الاضطرابات الّتي عصفت بالإمبراطوريّة العثمانيّة. وبعد اندثار عالمها الأصليّ، بنت هويّة جديدة ودافعت بكلّ إصرار عن النزعة الوطنيّة (التّونسيّة) الناشئة. وبذلك دفعت زوجها الناصر باي ليقف في وجه المقيم العام في أفريل 1922 لأنّه رفض التفاوض مع الوطنيّين. وقد هدّد الباي بالاستقالة عند زيارة ملّيرو Millerand لتونس وهو ما أثار حادثة سياسيّة خطيرة. غير أنّ الناصر باي اضطرّ إلى التراجع على إثر انتشار جيش المستعمر الفرنسي حول القصر.
وبعد وفاة زوجها الناصر باي فقدت للاّ قمر الحماية الّتي كانت تحظى بها وحاولت، حسب تقارير رجال الأمن، مهادنة السيّدة الأولى الجديدة شادليّة زوجة الباي لحبيب (1922-1929) بأن أهدتها حلية رائعة من الألماس. وبفضل ذلك نجحت في أن تتمّ تسمية صديقها وزوج الأميرة نازلي والحداثي المستنير، خليل بوحاجب، وزيرا أوّل، آملة بذلك في وفاة الحبيب باي. غير أنّ صعود أحمد باي أوقع قمر في وضعيّة حرجة لأنّ السلطان الجديد كان ابنها بالمعموديّة ولم يكن يكنّ لها عطفا خاصّا، وبذلك بدأت سطوتها في الفتور. ولماّ توفّي أحمد باي كانت قمر قد تقدّمت في السنّ واستعادت شيئا من نفوذها لدى ابنها الآخر بالمعموديّة المنصف باي الّذي ارتقى إلى العرش في نوفمبر 1942. وكانت هي الّتي تمدّه بالأموال الضروريّة ليتمكّن من وظيفته لأنّ السلطة الاستعماريّة رفضت أن تقدّم له كلّ إعانة نظرا إلى توجّهاته الوطنيّة.
وإضافة إلى التزاماتها السياسيّة المتعدّدة والّتي لا نملك حولها الكثير من المعلومات، فإنّ بيّة قمر قد أدخلت على حريم الباي مسحة من الحداثة سواء كان ذلك في مجال التعليم الّذي ساعدت على نشره من حولها أو اعتماد طريقة جديدة في اللّباس أو أيضا في مجال التصرّف في ثروتها. وهي الوحيدة الّتي نجحت في بناء إقامة جميلة، هي دار السّعادة (بالمرسى)، بفضل مداخيلها الخاصّة الّتي ورثتها عن زوجها علي باي. وهي أيضا الأميرة الوحيدة الّتي لم تفرط في التداين. ويبيّن كنّش الدفوعات الّذي كانت تملكه، حسن تصرّفها إذ كانت تحرص على أن تعدّل بين المداخيل والمصاريف.
ونسجّل عند الاطلاع على حساباتها وجود مصاريف لم تكن ضمن حسابات غيرها من الأميرات كالورق مثلا والكنّاشات والكتب لابنتها بالمعموديّة. إنّ الفكر التنويري لهذه الأميرة يمكن أن نلمسه من خلال نوع التعليم الّذي كانت تحرص على تمكين ابنة زوجها منه.
أمّا فيما يخصّ اللّباس فقد كانت ربّما الأميرة الوحيدة الّتي تخلّت عن البروكار الثقيل وعوّضته ببدلات خفيفة. وكانت لبيّة قمر قابليّة كبرى وقدرة باهرة على التأقلم. وخلال سفرتها إلى فيشي (Vichy) بفرنسا اشترت عدّة مقتنيات: قفّازات وجوارب ومظلاّت ومروحات وحقائب يدويّة مذهّبة وحلى اصطناعيّة من الألماس وأطباق مذهّبة. إنّها أفخم أكسسوارات نساء العالم في أعزّ رحلاتهم الاصطيافيّة أيّامها، وقد تبنّت حتّى طريقة عيشهم من خلال فترة السفر وزيارة أخصّائي الحلاقة والتجميل والاشتراك في الكازينو وحضور السهرات في المسرح وسباق الثيران وغير ذلك.
توفّيت بيّة قمر في 30 ديسمبر 1942 ودفنت، بطلب منها، في مقبرة الجلاّز في مربّع حيدر حيث جثامين أفراد عائلتها بالتبنّي. وبالنسبة للتاريخ تبقى هذه الجارية-الحريم الّتي تزوّجت بإثنين من البايات المتعاقبين، حالة غير عاديّة، ساهمت في استمرار العلاقات مع إسطنبول في أوج الفترة الاستعماريّة. وهي أيضا الأميرة الّتي عرفت كيف تصبح تونسيّة عندما اندثرت الإمبراطوريّة العثمانيّة. وهي تعتبر-مع كلّ هذا- مثالا من أمثلة الدهاء السّياسي الّذي قدرت عليه بعض السيّدات النادرات في التّاريخ.
ليلى بليلي
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية