ولدت ليليا بن سالم - الطبربي سنة 1939 وتوفّيت في تونس العاصمة في 25 جانفي 2015 في الخامسة والسبعين من عمرها. وكما تذكر هي نفسها في مقابلة نشرت في مجلة «Genèses» (بن سالم، 2009)، فإنّ مسيرتها باعتبارها عالمة اجتماع من الأوائل تتطابق مع نجاحات الجامعة التونسيّة وفترات انكفائها على السّواء، ومع نشأتها وتطوّرها، وبشكل خاصّ، مع مأسسة تدريس علم الاجتماع وتطوّره. وقد حظيت عدة أجيال من علماء الاجتماع، ولكن أيضا من غيرهم، بمتابعة دروسها وتعلّم أسرار الصناعة على يديها.
بدأت حياتها المهنيّة بشهادة الأستاذيّة في علم الاجتماع التي حصلت عليها سنة 1962، إلى جانب الوجوه الرئيسيّة في علم الاجتماع التونسي الناشئ : عبد القادر الزغل وفرج السطمبولي وعبد الوهاب بوحديبة وخليل الزمّيتي وغيرهم. ولم يمرّ عام واحد، حتّى تمّ إلحاقها بالبحث في مركز الدراسات والبحوث الاقتصاديّة والاجتماعيّة (CERES) الذي تمّ إنشاؤه للتوّ لدعم مجهود التحديث ومشروع البناء الوطني فأتاح لها ذلك فرصة اختبار مكتسباتها الاجتماعيّة، وسمح لها، بمخالطة كبار أساتذة الفكر السوسيولوجي الفرنسي في الخمسينات والستينات، بمن فيهم جورج غورفيتش Georges Gurvitch وجاك بارك Jacques Berque وجان دوفينو Jean Duvignaud وجورج بالانديي Georges Balandier، وهذا الأخير أشرف على أطروحتها عن الأطر العليا للاقتصاد التونسي، وقد ناقشتها في السوربون سنة 1968. و قد تداخل منذ اللحظات الأولى، قدر ليليا بن سالم الشخصي والمهني مع قدر بلد يبحث عن ذاته ويبنيها بعسر، ولكن بنشوة البدايات أيضا.
هي تنتمي إلى الجيل الأوّل من علماء الاجتماع التونسيين الذين اقتنعوا بأنّ علم الاجتماع، ينبغي أن يساهم في بناء تونس جديدة، ولذلك كان تدريس علم الاجتماع في جامعة تونس محور مسيرة ليليا بن سالم المهنيّة. وسوف تكرّس معظم حياتها وطاقتها لمختلف المهامّ والمسؤوليات المتعلقة بعملها كمدرّسة لما يقرب من ثلاثين سنة (1974-2002). وبين سنوات 1987 و 1993، ترأست قسم علم الاجتماع في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس، وترأست لجان شهادة الدراسات المعمّقة والدكتوراه والتأهيل في علم الاجتماع بين سنوات 1999 و 2002. ورافقت العديد من طلاّبها في تعلّم البحث الاجتماعي ودعمتهم في مجهود استكمال مذكّراتهم أو أطروحاتهم. وبين سنتي 1996 و 1997، ساهمت في إصلاح الأستاذيّة في علم الاجتماع، حرصا على فتح تكوين علماء الاجتماع على التوجّهات والحساسيّات الصّاعدة مع ضمان الحفاظ في الوقت نفسه على تدريس متين حول الوجوه الكلاسيكيّة للاختصاص. وما يتذكره طلاّبها قبل كلّ شيء هو دروسها المعدّة بدقة، والمكرّسة للأوائل والآباء المؤسّسين لعلم الاجتماع وعلم الاجتماع المغاربي، مترحلة في ذلك بين أعمال إرنست غيلنر Ernest Gellner (1969) والشبيكة لجان دوفينو Jean Duvignaud (1968).
وستكون بعض التجارب الأخرى حاسمة أيضا في مسيرتها كمدرّسة، فقد انخرطت بكثير من الحماس في إنشاء كلّية العلوم القانونيّة والسياسية والاجتماعيّة، حيث قامت بين سنوات 1987 و 1993 بتدريس علم الاجتماع لجمهور من طلبة الدراسات القانونية، قبل أن تنخرط، مع آخرين، في إنشاء شهادة في التعليم العالي المختصّ DESS في المعهد العالي للتربية و التكوين المستمر (1994-2005). وفي ما بين سنوات 2003 و 2005، لم تتردد في مرافقة فاطمة حدّاد ودّرة محفوظ وغيرهما من الأكاديميات «النسويات» في جهودهنّ لمأسسة الدراسات الجندريّة، من خلال إنشاء ماجستير في الدراسات النسوية في المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس العاصمة. وأخيرا، التحقت في عام 2005 بماجستير الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية الجديد، الذي أنشأه محمد كرّو في نفس المؤسّسة.
تشبّعت ليليا بن سالم تشبّعا بالنخوة «الوطنية» التي حرّكت سنوات شبابها والتي ترجمتها من خلال تولّيها مسؤوليات داخل الاتحاد العام لطلبة تونس، فلم تكد تنأى في التزاماتها العموميّة عن الجامعة وعن البحث. و يشهد على ذلك الدور المحفز الذي لعبته في إنشاء الجمعيّة التونسيّة لعلم الاجتماع وبعد ذلك (2009) الجمعيّة التونسيّة للأنثروبولوجيا الاجتماعيّة والثقافيّة، فضلا عن مشاركتها المكثفة في أنشطة جمعيّة النّساء التونسيّات للبحث والتّنمية (AFTURD) وفي مركز البحوث والدراسات والتوثيق والمعلومات حول المرأة CREDIF ومركز المرأة العربية للتكوين والبحث CAWTAR.
وعلى غرار معظم رفاق دربها ، فإنّ مواضيع البحث التي خصّصت لها ليليا بن سالم سنوات عملها في مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية تتعلق بعملية تحوّل المجتمع التونسي وتحديثه ، بهدف مواكبة الإصلاحات التي أجريت غداة الاستقلال وتحليل الرهانات المرتبطة بها. فقد نشرت، حتى قبل أن تناقش أطروحتها بعنوان Développement et problème de cadres : le cas de la Tunisie. Un exemple : les cadres supérieurs de l’économie tunisienne (التنمية ومشكلة الإطارات : الحالة التونسية. مثال : الإطارات العليا للاقتصاد التّونسي (وهي أطروحة ستنشر في وقت متأخّر عن ذلك بكثير، في سنة 1976، عن مركز CERES)، عدة مقالات حول تطوير السياحة والإصلاح الزراعي ودخول «ثقافة الصناعة» في المجتمع التونسي. ولعلّ القضايا التي استقطبت معظم اهتمامها هي تلك التي تقع في صميم عملية البناء الوطني، ولا سيما ما اتّصل بالعلاقة بين الدولة والهويّة الوطنيّة (بن سالم 1974).
وسرعان ما اهتمّت أيضا بابن خلدون، الذي بدا لها أن آثاره توفّر عناصر حاسمة في بناء نظريّة سوسيولوجيّة للسلطة وفي دراسة التراتبات الاجتماعية وعمل الدولة في المغرب الكبير (بن سالم، 1973). على أنّ الدّاعي الأساسي لهذه العودة إلى ابن خلدون هو خاصّة ترويج مساهمته النظريّة في السوق العالميّة للأفكار الاجتماعيّة. ثمّ إنّ عودتها إلى ابن خلدون، ولكن أيضا إلى أعلام مثل روبرت مونتاني Robert Montagne وإميل مسكراي Emile Masqueray وغيرهم قد أضفت على عملها ملمحا أنثروبولوجيا سيظلّ ملازما لها، وسيترجم في مقال لها مهمّ حول النّظريّة الانقساميّة (بن سالم، 1982).
ويفسّر هذا القربُ من الأنثروبولوجيا جزئيا اهتمام ليليا بن سالم بالقرابة والأسرة، و هو الاهتمام الذي بدأ في نهاية الثمانينات، واستمرّ من خلال المشاركة في المغامرة الجماعية حول Hasab wa Nasab (حسب ونسب) بإشراف صديقتها الوفيّة صوفي فرشيو، وهو عمل أُعدّ من أجل توضيح العلاقة بين القرابة والمصاهرة والتراث في المجتمع التونسي (فرشيو، 1992)، وتُوّج بتأليف لامع نُشر سنة 2009 تحت عنوان Familles et changements sociaux en Tunisie. (الأسر والتغيرات الاجتماعية في تونس).
وعلى الرغم من أنّ ليليا بن سالم كانت توفيقيّة المزاج، فقد كان لها إحساس حاد بأهميّة «الأساسيات»، وهو إحساس لا شكّ أنّها اكتسبته من مخالطة معلّميها، مخالطة مكّنتها من عدم المساومة، وحصّنتها، في الوقت نفسه، من تأثيرات خيبة الأمل والتراخي. وإنّ معظم الذين حظوا بالتعامل والاشتغال معها يعرفون أنّ هذه «الأساسيّات» تدور حول قيم الجامعة: الجهد والجدارة، والصّرامة وروح العمل المتقن، والتواضع وروح التضحية. وهي قيم متجذّرة في المثل العليا لمدرسة الاستقلال: مدرسة للجميع، في خدمة الأشدّ فقرًا، حريصة على جبر الضرر، والحدّ من آثار التفاوت. ولعلّ التمسّك بتلك القيم هو الذي قد يفسّر، جزئيا، افتتانها بأعلام علم الاجتماع الكلاسيكيين، وقراءتها المنتبهة والمتجدّدة لأعمالهم بما هي الأساس الذي لولاه لما كانت التطورات الحديثة لعلم الاجتماع إلاّ صلفا وتيها.
عماد المليتي
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية