إنّنا لا نبالغ إذا اعتبرنا المناضلة الشابّة مجيدة بوليلة أيقونة تاريخ النضال النسائي التونسي ضدّ الاستعمار الفرنسيّ، هذه المرأة التي تُعتبر شخصيّة استثنائيّة لعدّة اعتبارات وخصال نادرة قلّما تجتمع لدى امرأة أو فتاة في سنّ مبكّرة وعمر قصير إذ لم تعش إلاّ 21 سنة [1931- 1952]. وهذه الصفات التي تجعلها استثنائيّة وأيقونة أوّلها كونها متعلّمة في زمن قَلَّ فيه تعلّم النساء. ذلك أنّ مجيدة بوليلة نشأت في أسرة واعية مستنيرة تؤمن بحقّ الفتاة في التعليم فزاولت تعليمها الابتدائي في مدرسة سيدي سعادة ثمّ في مدرسة « الهلال» العربية الفرنسية بالمدينة العتيقة بصفاقس، وكانت متفوّقةً في كلّ هذه المراحل واكتسبت مستوى تعليميًّا تميّزت به من الكثيرات من بنات جيلها ومدينتها.
وقد استغلّت مجيدة بوليلة الشّابة ما حصّلته من التعلّم لإفادة أبناء مدينتها ممّا يدلّ على نباهتها ووعيها العميق رغم صغر سنّها فكان أن أسّستْ كتّابا قرب منطقة الناصريّة بصفاقس لتعليم بنات مدينتها ورفع الأميّة عنهنّ وتوعيتهنّ إيمانًا منها بحاجة مجتمعها آنذاك إلى الوعي بواقعه السيئ بسبب ما يعانيه من الاستعمار، إذْ نشأت في عائلة وطنية عُرفت بنشاطها السياسي وانتمائها إلى الحزب الحرّ الدستوري ومناهضتها للاستعمار الفرنسي.
ليس غريبا إذن عن فتاة متعلّمة نشأت في هذه العائلة أن تنخرط في العمل السياسي الذي تجاوز مجرّد الوعي إلى الفعل النضاليّ والكفاح فكان أن كوّنتْ سنة 1950 أوّل نواة للشبيبة الدستوريّة للفتيات من التلميذات وأسّستْ شعبة دستوريّة نسائية هي «شعبة الرّبض النسائيّة».
وواظبتْ على حضور اجتماعات «الاتحاد النسائيّ الإسلامي «في مقرّه بتونس ثم أسّست فرعا له بصفاقس سنة 1949. وقد كرّستْ حياتها للعمل النضالي والمشاركة في مختلف تظاهراته .
وتزوّجت مجيدة بوليلة في سنّ مبكّرة وأنجبت ابنتها الأولى ولم يُثنها ذلك عن مواصلة عملها النضالي ضدّ الاستعمار واجتهادها في ابتكار الأعمال الوطنيّة التطوّعيّة.
لذلك لفتتْ نظر السّلط الاستعماريّة الفرنسيّة بتحرّكاتها السياسيّة النضاليّة النشيطة فكان أن اعتقلتها هذه السُّلط وأودعتها في معتقل في تبرسق في مارس 1952 فعُذبتْ وتمّ التنكيل بها بأشرس أشكال التنكيل لكنّها ظلّت صامدة وواصلت أعمالها النضاليّة إلى أن داهمتها الشرطة الفرنسيّة ذات ليلة من شهر سبتمبر 1952 ببيتها بصفاقس وهي حامل بابنتها الثانية.
وكان أن فاجأها المخاض فنقلوها إلى المستشفي الجهوي بصفاقس حيث توفّيت إثر الولادة : وبذلك باغت الموتُ هذه المرأة الشابّة فيما هي تمنح الحياة !..
وإنّه قلّما عرف تاريخ نضال الشعوب امرأة في عمرها قامت بهذه الأعمال النضاليّة والاجتماعيّة الوطنية وتوفّيت رحمها الله ولم تكد تتجاوز الواحدة والعشرين من العمر.
وما كان تعذيب السُّلط الاستعماريّة لها إلاّ اعترافًا بجدوى ما كانت تقوم به و انزعاجًا من دورها النضاليّ الفعّال.
ولقد كانت مجيدة بوليلة مثالاً نادرًا للكفاح الوطنيّ ومقاومة الاستعمار، ورائدةً في مجالات التعليم والوعي وركيزة من ركائز الحركة النسائيّة التونسيّة.
لذلك كرّمتها دولة الاستقلال بما تستحقّه وذلك بإطلاق اسمها على عدّة شوارع بالبلاد التونسيّة وبأحد أهمّ شوارع مدينتها صفاقس وأحد أهمّ المعاهد الثانوية بها.
لكلّ هذا الكثير الذي قدّمته الشهيدة مجيدة بوليلة في عمرها القصير تظلّ تمثّل وجهًا مشرقًا ومثالاً مشرّفا للمرأة التونسيّة في تاريخ تونس الحديث بل وفي تاريخ الحركات التحريريّة ضدّ الاستعمار في العالم بأسره، كما تجسّم حقيقة أنّ الآثار تُطيل الأعمار...
جميلة الماجري
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية