تنتمي مليكة بالخامسة المولودة سنة 1925 والمتوفّاة سنة 2023 إلى جيل المؤسّسين والمؤسّسات للإذاعة التّونسيّة. بدأت مسيرتها المهنيّة في العمل الإذاعي ثمّ في العمل التّلفزي، فكانت رائدة المذيعات في تونس وعميدتهم حيث انطلقت مسيرتها الإعلاميّة سنة 1947 وانتهت مع إحالتها على شرف المهنة سنة 1995. وهي أوّل صوت نسائي تونسي على أمواج الأثير يقول «هنا تونس». بيد أنّ مسيرة مليكة بالخامسة لم تقتصر على المجال الإعلامي بل شمل اهتمامها، الالتزام بقضايا مختلفة ثقافية توعويّة واجتماعيّة نسويّة ذات بعد وطني. وهي جزء من مشروع بناء وطني جسّدته النّضالات النسويّة خلال الفترة الاستعماريّة ثمّ دعمته مرحلة بناء الدّولة الوطنيّة المنبثقة عن الاستقلال.
تنحدر مليكة بالخامسة من عائلة أصيلة مدينة القيروان تعيش بالحاضرة، أولت التّعليم مكانة متميّزة. فقد زاول والدها حسن بالخامسة، تعليمه في جامعة الأزهر بمصر وتخرّج منها وعمل هناك بسلك المحاماة لمدة من الزّمن. ويبدو أنّه خلال إقامته بمصر، عاين عن قرب تطوّر مدارس البنات وظهور الحركة النّسويّة النّشيطة ورائدتها هدى شعراوي وتأثّر بها. وإثر عودته إلى تونس عمل مع المحامي مصطفى الكعاّك وكان له نشاط إذاعي. والظّاهر أن لمسيرته التّعليميّة والمهنيّة دورا في مسار ابنته المهني والاجتماعي لاحقا، حيث كان دائما مشجّعا لها ولم يعارض تعليمها أو حتّى عملها. زاولت مليكة بالخامسة تعليمها بمدرسة البنات بنهج الباشا في المرحلة الابتدائيّة والثانويّة وتخرّجت منها.
بدأت علاقة مليكة بالخامسة بالإذاعة بصفة مبكّرة - حسب ما أدلت به في أحد حواراتها، بمناسبة المهرجان الأوّل للإذاعة التونسيّة الذي انتظم في جوان 2008 - إذ جلب والدها مذياعا كبيرا «TSF» من مصر. بدأت منذ صغرها تعي، أهميّه الإذاعة في التّثقيف والاطلاع على العالم الخارجي، بمتابعتها لإذاعات أجنبيّة وبالخصوص، عندما فتحت «إذاعة تونس البريديّة» أبوابها بمحطة الكوليزي، في 14 أكتوبر سنة 1938، قبل أن تنتقل هذه الإذاعة إلى ساحة العملة بالحاضرة. وقد تأثّرت مليكة بالخامسة، خلال هده الفترة بأصوات مختلفة، من بينها صوت المذيع عيسى خليل الصباغ وقراءته الجيدة للأنباء وكذلك بمدير الإذاعة نورالدين بن محمود وروايات عبد العزيز العروي وغيرهم... هذا وقد اقتحمت مليكة بالخامسة الإذاعة منذ نعومة أظفارها حيث شاركت في حصّة لأناشيد الأطفال، والفضل في هذه التّجربة يعود إلى تشجيع والدها ومباركته بحكم اضطلاعه بنشاط ثقافي في الإذاعة، وهي حصة من إعداد المدرّسة الجزائريّة عربيّة الدزيري.
وقد قامت خلال هذه التّجربة الإذاعيّة المبكّرة، بتقديم الأناشيد والمحفوظات، كما تأثرّت عندما كان سنّها أربع عشرة سنة، بدعوة والدها للفناّن السيّد شطّا، لزيارة منزلهم. وقد قام السيّد شطّا بتدريبها على بعض الأناشيد والمحفوظات، وهو أمر بقي عالقا في ذاكرتها (من ذلك إلقاؤها لأنشودة «أقبل البدر علينا»). وقد اعتبرت مليكة بالخامسة، أنّ حرص والدها على تحفيظها القرآن، لعب دورا مهمّا في إتقانها لمخارج الحروف وأداء النّصوص. ولم يكتف والدها بذلك بل حرص على اهتمامها بالفنّ الرّاقي وذلك بحصولها على هدايا، عندما تصدح ببعض أغاني السيّدة أم كلثوم. وقد حفّزها هذا الأمر على الاهتمام بترديد الأناشيد وغيرها. واعتبرت مليكة بالخامسة أن شغفها بالإذاعة بدأ مع هذه المرحلة. والملاحظ أنّ المستوى التّعليمي وانفتاح والدها ساهم بشكل محوري في بناء شخصيّتها، وبذلك ساهم انحدارها من وسط عائلي حضري يمتلك قدرًا معتبرًا من الثّقافة والتّعليم، في تمهيد الطّريق لها لاقتحام المجال المهني بصفة مبكّرة، في مجتمع لاتزال المرأة فيه تكاد تكون مغيّبة عن المجال الإداري والثّقافي.
أرست الإدارة الاستعماريّة الفرنسيّة بتونس، نظام الامتحانات والمناظرات لدخول مختلف الإدارات التي أسّستها. وقد توسّع هذا النّظام إثر الحرب العالمية الثّانية ليشمل بدوره الإذاعة التّونسية الّتي تغيّرت هيكلتها كليّا منذ هذا التاريخ نحو مزيد إدخال عناصر تونسية لتغطية نشاطاتها. وقد ترشّحت مليكة بالخامسة لمناظرة الإذاعة سنة 1947، الموجّهة لانتداب مذيعين من الجنسين، وأشرف على هذه المناظرة مدير الإذاعة آنذاك نورالدين بن محمود. وقد تحدّثت مليكة بالخامسة مرارا عن الصّعوبات والعراقيل الّتي واجهتها، لاجتياز هذه المناظرة. ففي معرض حديثها - في أحد حواراتها التّي أدلت بها إلى «مجلّة الإذاعة» بتاريخ مارس 2009- عن فحوى الاختبار بهذه المناظرة، ذكرت أنّها اجتازت امتحانًا في إلقاء نص باللّغة العربّية دون أخطاء. ولم تتوقّع الصّعوبة في التّقديم، وهي الّتي تعوّدت إلقاء الأناشيد منذ طفولتها، بل كان خوفها ممّا بلغ إلى علمها، أن أحد أعضاء اللّجنة وهو شيخ، من بين المعارضين لدخول النّساء الإذاعة بحجّة أن «صوت المرأة عورة» وكان الشّيخ القمودي. إلا أنّها نجحت في اجتياز المناظرة. وتمّ قبولها لتكون أوّل كلمة تنطق بها «هنا تونس» وبقيت تعمل بالإذاعة منذ 1947 إلى 1995.
واجهت مليكة بالخامسة في بداية مسارها المهني، صعوبات مختلفة وقد تحدثّت عن تجربتها في التنقّل في الفضاء العام بين منزلها بباب سويقة ومؤسّسة الإذاعة في المقرّ الجديد بساحة العملة مرتدية «السفساري» حتى تتوارى عن عيون المارّة. كما واجهت أيضا مواقف استغراب من سماع صوت امرأة في الإذاعة، صدرت بالخصوص، عن بعض أفراد عائلتها الموسّعة وعن غيرهم. لكنّها في المقابل وجدت أيضا، الدّعم من عائلتها الضيّقة، إضافة إلى والدها : وجدت المساندة من أخيها عليّ بالخامسة الذي كان يعمل بدوره في الإذاعة كمنسّق بمعيّة حمادي المكّي والهادي الغالي والتّقني عزالدين التّركي. كما ساندها أيضا، ابن عمّها الهادي بالخامسة الذي كان يعمل بدوره مذيعا وتزوّجته لاحقا. وقد لعب الهادي بالخامسة، دورا مهمّا بعد زواجهما في دفعها نحو مزيد المثابرة في العمل الإذاعي. وأفادت في حوار - سبق ذكره - «أن المرأة التونسيّة قد استطاعت التّوفيق بين حياتها العمليّة والأسريّة... وقد وجدت صعوبات في التّوفيق بين العمل وتربيّة الأطفال، حيث اختارت العمل اللّيلي حتى تتمكّن من متابعة تربيّة أبنائها بالاتّفاق مع زوجها». كما ساعدتها والدتها على تجاوز بعض العقبات العائليّة بمساهمتها في رعاية أطفالها الثّلاثة. وأكّدت مليكة بالخامسة في نفس الحوار على دور الأسرة والعلاقات الاجتماعيّة في تحقيق نجاح المرأة وثمّنت دعم زملائها من مذيعي الرّعيل الأّول مثل مصطفى الفيلالي ومن الصحفيّين مثل محمد بن سالم وعبد المجيد بن جدّو وغيرهما...
كانت مليكة بالخامسة أوّل صوت ضمن الهيكلة الجديدة للإذاعة فهي من جيل المؤسّسين. وأعدّت وقدّمت قبل الاستقلال، عدّة برامج واضطلعت أثناء ممارسة مهامها بقراءة النّصوص وتقديم الإعلانات. وقد التحقت بها أسماء أخرى من النّساء مثل نجوى إكرام وناجية ثامر وهند عزوز ثم ليلى الريحاني.
قدّمت مليكة بالخامسة صورة، عن الاحتفاء بالظفر بالاستقلال، بحكم أنّها كانت شاهدة عيان. ففي الحوار الذّي أدلت به إلى «مجلة الإذاعة» بالعدد الصّادر في مارس 2009، تحدّثت عن أجواء الفرحة الّتي عاشها الشّعب التّونسي في مارس 1956 وواكبتها الإذاعة التّونسية قائلة: «في ذلك اليوم المشهود، تحوّلت سيّارة الإذاعة إلى باب سويقة وظلّت تبثّ الأغاني الوطنيّة عبر الأبواق» وأقيم حفل في نفس السّاحة أحيته مجموعة من الفنّانين من بينهم أحمد حمزة ويوسف التّميمي واسمهان التّونسية وصليحة... وقد حضر الحبيب بورقيبة جزءًا من الحفل. وأضافت أنّ حدث الاستقلال قد ارتبط بخلعها للسفساري وتحقيق المرأة حريّتها عبر إصدار قانون الأحوال الشّخصيّة.
وقد تطورت مسيرة مليكة بالخامسة الإذاعية بعد الاستقلال، بإنتاجها وتقديمها لبرامج مختلفة من بينها برنامج عنوانه «بين السيدات» بمعية ناجية ثامر ثم التحقت به لاحقا بعض المذيعات الاخريات مثل نائلة بن عمار والسيدة المحرزي... وكان البرنامج باقتراح من مدير الإذاعة في تلك الفترة البشير المتهنّي. كما قدمت برنامج «من المرأة وإليها». لإبراز كفاءتها المهنيّة، تجربة تقديم البرامج المباشرة حول موضوع الأسرة. وقد ارتقت بالمنتوج الإذاعي باستضافتها لأطباء ومحامين ومستشارين ومثقفين وغيرهم. وتحوّلت إثر ذلك إلى مذيعة ربط وإرسال في التّلفزة التونسيّة دون أن تستقيل من العمل الإذاعي ومن إعداد البرامج.
وسعت مليكة بالخامسة في هذا السّياق إلى تطوير مسيرتها المهنيّة، باستضافة الأدباء والشعراء والتنقّل داخل البلاد حتى تتطلّع عن كثب، على مشاكل واهتمامات وقضايا التّونسيّين حتى تكون فيما بعد، مادّة لابتكار الأفكار في برامجها الإذاعيّة، مثلما فعلت في برنامج «بين البيت والشّارع» صحبة زميلتها هند عزوز. وحرصت على خدمة قضايا تهمّ المرأة من خلال برامجها، حيث ساهمت في نشر الوعي بضرورة عمل المرأة وتحسيسها والسّعي إلى توعية المستمعين، ساعدها في هذا العمل، ارتفاع أعداد المتابعين للحصص الإذاعيّة نتيجة انتشار أجهزة الرّاديو في أوساط المجتمع ثم لاحقا انتشار جهاز التّلفزة.
والملاحظ أنّ برامجها كانت هادفة وموجهة أساسا نحو الأسرة من أجل بناء جيل متعلّم ونشر ثقافة الاعتناء بالأطفال وتربيّتهم تربيّة مثلى حتى يتمكّنوا من تسلّم المشعل. وقد حرصت على القيام بدورها الإداري على أكمل وجه.
انخرطت مليكة بالخامسة في الاتّحاد النّسائي التّونسي الذي تأسس سنة 1956 وانعقد مؤتمره الأول سنة 1958. وقامت بعدّة نشاطات في صلب هذه المنظّمة النّسائيّة، مثل عقد الاجتماعات في مختلف المدن والقرى التّونسية، الّتي كانت تضمّ حسب - روايتها - 3000 امرأة للتّعريف بمجلّة الأحوال الشّخصيّة وفصولها المختلفة، إلى جانب حرصها في هذه الاجتماعات على تثمين أهميّة تحقيق الاستقلال وإبراز الدّور الذي اضطلعت به المرأة في النّضال الوطني.
هذا وإثر انعقاد المؤتمر الرّابع للاتّحاد القومي النّسائي التّونسي في جوان 1966، تمّ انتخاب مليكة بالخامسة عضوا ضمن المكتب التّنفيذي برئاسة راضية الحداد، برتبة كاتبة عامة مساعدة، إلى جانب هند عزوز وفاطمة بن شعبان. أمّا في المؤتمر الخامس المنعقد في أوت 1973 بالمنستير، فقد اضطلعت برئاسة لجنة التّحرير واللّوائح وتمّ انتخابها ضمن لجنة مكتب المؤتمر إلى جانب السيدة سلامة ودردانة المصمودي. وقد واكبت مليكة بالخامسة النشاط التّوعوي لهذه المنظّمة وحماية حقوق النّساء في الجهات الدّاخلية للبلاد، وعملت ضمن مجموعات من النّساء إذ كانت تؤمن بجدوى العمل الجماعي وتعتبر في إحدى المقابلات التي أجريت معها في منزلها بضاحية باردو سنة 2009 أنّ ما أصبحت تعيشه النّساء من مكتسبات وحقوق، هو في الواقع، بفضل العمل الدّؤوب للرّعيل الأوّل من نساء الاتّحاد النّسائي اللاّتي ناضلن لتحقيق روح مجلة الأحوال الشّخصيّة.
واعتبرت مليكة بالخامسة - في نفس الحوار السابق الذّكر وفي تقييمها لتقدّم حقوق المرأة التّونسيّة أنّ بعض أهداف مجلّة الأحوال الشخصيّة، تحقّقت بفضل ما بلغته المرأة من تعليم وشغلها مناصب قيادية وذلك بفضل الظروف العامة والإرادة السياسيّة وعمل المرأة التّونسيّة على إثبات جدارتها وكفاءتها، وأصبحت بذلك رائدة عربيّا ودوليّا. ومثّلت التّجربة التّونسية بذلك مثالا يحتذى، في مجال الأسرة والطفولة وذوي الاحتياجات الخصوصيّة، واعتبرت ذلك «فرصة حقيقيّة لكلّ امرأة عربية لتدعّم مكاسبها وحقوقها في ظل النشاط الدؤوب والمتواصل صلب منظمة المرأة العربية».
ولم تنفكّ مليكة بالخامسة في كل ّحواراتها تؤكّد تفانيها في القيام بعملها طوال مسيرتها المهنيّة التّي امتدّت على خمسة وأربعين سنة، من أجل النّهوض بتونس. ممّا نتج عنّ حصولها على عديد الأوسمة والتقديرات.
فاطمة شلفوح
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية