ولدت منّوبيّة الورتاني بتونس العاصمة سنة 1899 في أسرة عريقة عرفت بالدين والأدب والفكر والسياسة والإصلاح، وترعرعت بين بيت أبويها بنهج الباشا ودار عمّها المصلح الوطني الشيخ أحمد الورتاني (1830-1885) بباب سعدون وبيت أخيها بالرضاعة المصلح الوطني الشيخ محمد المقداد الورتاني (1875-1950) وكانت هذه البيوت محاضن علمٍ وأدب وشعر وصحافة وتنوير وسياسة وإصلاح.
وقد جمعت الصداقة ابنةَ الجيران بنهج الباشا بشيرة بن مراد بمنّوبيّة وأختيها زينب وعائشة منذ الطفولة كما كان والد بشيرة شيخ الإسلام محمد الصالح بن مراد (1881-1979) يتردّد على صديقه محمد المقداد الورتاني.
توهّجت بيئة النشأة التي كبرت فيها منّوبيّة بسمعة الأجداد والأحفاد السبق في ميادين الإصلاح ممّا شهد لهم به مثقفون وسياسيون في تونس واسطنبول ومصر وفرنسا.
فقد كان عمها الشيخ المدرّس الزيتوني والمفتي والصحفي والمصلح أحمد الورتاني أستاذا لخير الدين التونسي (1820-1890) ومدرّسا لأبنائه وأبناء مصطفى خزنه دار (1817-1878). ومن تلاميذه المصلحان محمد بيرم الخامس (1840-1889) ومحمد السنوسي (1850-1900) وغيرهما.
وكان شقيقها الأديب والمؤرخ والصحفي والرّحالة والمترجم الشيخ محمد المقداد الورتاني بدوره مصلحا وطنيا استودع آراءَه الإصلاحية كتبَه وأوّلها كتاب رحلته إلى أوروبا «البرنس في باريس» الذي أصدره سنة 1914. وقد سُمّي مترجما بالحكومة ونائب الأوقاف بالعاصمة ثم سفيرا للبايات بدول أوروبا.
وقد ناصر حقوق المرأة في كتابه «البرنس» مستندا في جرأة غير مسبوقة إلى قولة المستشرق الهولاندي كريستيان سنوك هَرْغْرونْيَه (C. S. Hurgronje) (1857-1936 -»الإسلام لا يمكن أن يرتقي ارتقاء حقيقيا إلا إذا حرر نساءه الراسفات في سلاسل التقاليد القديمة التي لا تنطبق على روح العصر الحديث التي هي روح الترقي الحقيقي». وقد رفض الورتاني وهن المجتمع وجمود الفقه وبعده عن المقاصد، ودعا إلى التواصل بين الغرب والشرق، ورفض دونية المرأة وتعدد الزوجات، ودعا إلى تعليم المرأة.
ارتادت منّوبيّة الورتاني مدارس البنات بالعاصمة التي كانت –على قلّة عددها- تُعلّم البنات اللاّئي تجد فكرة تعليمهن حظوة عند آبائهن وأُسرهنّ وأخذت فيها من المعارف والفنون بحظ. واتصفت منذ نعومة أظفارها بذكاء ونباهة تضاعفت بالاستماع إلى مشيخة العائلة في مجالسهم المنزلية ومسامراتهم وهم يحاضرون في العلم والدين والفقه والشعر والقانون والسياسة. كما نهلت الفتاة من كنوز مكتبات العائلة الضخمة التي حوت آلاف المجلدات وفرائد الكتب والمؤلفات ما شحذت به شخصيتها الطُّلَعَة، فجمعت بين علوم العربية الأصيلة وعلوم العصر ونبغت في اللسان الفرنسي.
كما نهلت منّوبيّة من الأطاريح والمسائل الثقافية التي احتضنها صالون أخيها محمد المقداد الورتاني الذي كان يعقده بداره يوميا تقريبا ويرتاده المثقفون من أمثال البشير صفر (1856-1917) ومحمد الطاهر ابن عاشور (1879-1973) وعبد العزيز الثعالبي (1876-1944) والطاهر الحداد (1899-1935) والبشير النيفر (1888-1974) وأبو القاسم الشابّي (1909-1934) وحسن القلاّتي (1880-1966) وغيرهم...
وكانت منّوبيّة موظفة بحكومة الاحتلال ومقرها آنذاك بالقصبة بتونس العاصمة. وقد مكنها مستواها الذي لم يتسنّ لكثير من غيرها من النساء التونسيات من التوظف بإدارة الحكومة، فكانت مترجمة. كما اضطلعت منّوبيّة بالتدريس في مدارس البنات وفي بيتها وبعض نوادي المرأة التونسية. ودرّست بعض نساء الأعيان.
ولقد كانت منّوبيّة حاضرةً في الحفلَ الذي أقامته جمعية «الترقي» (L’Essor) الاشتراكية المنضوية تحت لواء الحزب الاشتراكي الفرنسي، ورئيسها آنذاك ألكسندر فيشي (Alexandre Vichy) وتساعده زوجته ايف نُوال (Eve Noel). وكانت الجمعية تنشط في تونس وتعقد التظاهرات والاجتماعات ومقرّها بشارع باريس بتونس (دار الثقافة ابن رشيق حاليا). فهل كانت منّوبيّة الورتاني اشتراكية المذهب ؟
لا نستطيع أن نجزم بانتماء منّوبيّة الفكري أو السياسي إلى منتظم الاشتراكية، لكن انتماءها إلى جمعية الترقي وعلاقتها بمدير الجمعية فيشي وزوجته نُوال يدفع الحدس إلى ذلك خاصة وأنها كانت صديقة الاشتراكيين ومنهم عمر بوحاجب وشقيقه علي بوحاجب وحسن القلاتي وفرحات حشاد وغيرهم وكانت منفتحة على مبادئ العقلانيّة والمساواة وهي القيم التي يستوي عندها الاشتراكيون والنقابيون في تونس وفي العالم.
وقد قادت منّوبيّة الورتاني معركة «السفور» أو نزع غطاء الرأس، وذلك عندما صعدت يوم 15 جانفي 1924 على منبر جمعية «الترقي» الفرنسية الاشتراكية في إحدى ندواتها ودوّى صوتها عاليا بتحرير المرأة وتمزيق الحجاب والحدّ من تعدّد الزوجات والمساواة بالرجل في جميع الحقوق ومراجعة الفقه السائد وقراءة القرآن في عمقه ونزع القداسة عن جسد المرأة وإصلاح عقلية الرجل والمجتمع ككل.
ويصف المؤرّخ حمادي الساحلي هذا الحدث بقوله «نظّم فرع الحزب الاشتراكي الفرنسي بتونس سنة 1924 ندوة حول قضيّة المرأة أشرف عليها عدد من المثقفين الفرنسيّين من أعضاء جمعيّة «الترقّي» (L’Essor) وفي مقدّمتهم الأستاذ ألكسندر فيشي وزوجته آف نوال. وأثناء الندوة أخذت الكلمة سيدة تونسية مسلمة كانت سافرة، وهي منّوبيّة الورتاني التي طالبت بتمكين المرأة المسلمة من التمتع بجميع حقوقها ونادت بضرورة رفع الحجاب» : (تراجم وقضايا معاصرة، ص 439).
كما تفاعلت منوبيّة مع المستجدّات الدولية في الشرق، فعرّجت على الثورة التركية لسنة 1921 واستشهدت بنتائجها الإيجابية على المجتمع التركي، وخاطبت الرجال الحاضرين داعية إياهم إلى احتذاء نموذج الأتراك في الثورة على القديم وتحرير المرأة التركية وبناء دولة عصريّة.
كما ألحّت هذه الداعية على ضرورة احترام جسد المرأة فيما نقلته االأستاذة إلهام الطرابلسي من دعوة منّوبيّة إلى «نزع القداسة عن هذا الجسد حتى يتسنّى للكيان أن يتحقق اكتماله وأن يتكوّن ويتعلم ويتربى».
وأكّدت ضرر التمسك بـ «حرفية النص القرآني من دون روحه العميقة السمحة» كما ذكر أحمد خالد : (أضواء من البيئة التونسيّة، ص 215).
هكذا أحدثت منّوبيّة ضجة في المجتمع وكانت حديث الجرائد، شحذت أقلام الصحفيين والكتاب والشعراء والجدل في الأوساط الثقافية وأضرمت التفكير في العقائد الجامدة ووجّهت إلى تفكير يُسائِل حريّة الإنسان وكرامته والنصَّ والفقهَ ويراجع المُسلَّمات. وقد سال مداد الأقلام مدحا أو ذما، وتباينت المواقف بين فريق منتصر لدعوة منّوبيّة وآخر معارض مناهض.
ومن المعارضين المحامي الشاب الحبيب بورقيبة رغم أنه صديق لعائلة الورتاني ونزيل صالون الدار إلى ما بعد الحدث. فكان يعبّر للداعية منّوبيّة عن استيائه مما تدعو إليه علنا في المحافل وحاول مساجلتها بقوله: «لم يحن الوقت بعد لنزع الحجاب». لكنها برهنت عن ثبات على المبدإ ودعته إلى النقاش والجدل.
أما محمد الطاهر بن عاشور فقد كان من أشد مناهضي السفور والاختلاط. وقد سبق أن كلّم صديقه محمد المقداد الورتاني في ضرب ستارة بين النساء والرجال في صالونه، لكن أبى الورتاني ذلك شارحا له حقَّ النساء في حضور المناقشات بالصالون والنهل من مواضيع العلم والأدب والسياسة.
كما عارض الشاعر عبد الرزاق كرباكة (1901-1945) دعوة منّوبيّة الورتاني النسوية وشنّع عليها المساسَ بالمُسلَّمات، وهاجمها بمُطَوَّلة نشرتها الجرائد وهي بعنوان «داعية رفع الحجاب» ومطلعها :
«أَعَقِيلَةَ الإِسْلاَمِ هَلْ يُرْضِيكِ ~ هَتْكُ الْحِجَابِ وَمَسُّ شَرْعِ نَبِيكِ ؟»
كما رفض الصحفي الشاذلي خير الله (1898-1972) أيضا ثورة منّوبيّة الورتاني، فانبرى يُثبت تهافت أفكارها ويشجب تطاولها على الفقه والتقاليد المتوارثة.
صمدت منّوبيّة وناضلت لترقية أوضاع المرأة واستعادة حقوقها المهدورة، فلعبت أدوارا اجتماعية توعوية وأخرى تربوية وتثقيفية مهمة من ذلك أنّها قامت بالتعبئة العامة لدعوتها عن طريق أسلوب ميداني تمثل في محاورة النساء وتنبيههن إلى حقوقهن وتوعيتهن بخصوص ضرورة تغيير وضعهن كي يرتقين بأنفسهن وبأبنائهن وبأسرهن رابطة بين رقي المرأة ورقي ذهنية الرجل ومستوى الأسرة والمجتمع. وقد ردّد بورقيبة لاحقا قولتها الشهيرة التي أخذها عنها «تحرير المرأة هو تحرير الرجل»، كما التحقت بها أختاها زينب وعائشة لمعاضدة جهودها التوعوية في المجتمع.
وقامت منّوبيّة بتدريس النساء في مدارس البنات في الحاضرة. وبالرغم من قلّة عدد هذه المدارس إلى سنوات الأربعينات فقد ازداد عدد البنات اللائي أقبلن على التعلم وأكثرهن من العائلات الميسورة.
وقد طالبـت بعـض نساء الأعيان منوبية وأختيـها بتدريسهن فـي بيوتهن اتقـاء الاختلاط بالعامّة.
ودعّمت منّوبيّة الورتاني وشقيقتيها زينب وعائشة الهيآت النسويّة التي أخذت في التشكّل، فساعدن المناضلة النسوية بشيرة بن مراد في تعبئة النساء لحضور اجتماعات «الاتحاد الإسلامي النسائي» الذي أسسته سنة 1936 والانخراط في هيئته وفي مبادئ التحرر التي دعت إليها بشيرة.
كما دعّمت الشقيقات الورتاني الهيئة التأسيسية لـ «نادي الفتاة المسلمة» سنة 1944 وقد ترأسته سعاد ختاش (-) زوجة الشيخ محمد صالح النيفر (-). فكانت زينب الورتاني الكاتبة العامة للنادي وأمينة المال ومُحرّرة في المجلة التي أسسها النادي سنة 1955 وهي«الإلهام».
واضطلعت منّوبيّة وشقيقاتها في النادي بأدوار تربوية وتثقيفية، فكن مدرّسات فيه «تنفيذا لتعهدات الاجتماع الأول سنة 1944 الذي تناشد وثيقته «النساء المسلمات بتحسين وضع إخوتهن (...) كما بتعين عليهن تعليم أخواتهن في الدين العربية وهي لغة أجدادهن». فقد عُهِد إلى الشقيقات الورتتاني خاصة بمهمّة تعليم المرأة التونسية وتثقيفها، وهو دور كتبت عنه زينب الورتاني مقالات نشرتها مجلة «الإلهام».
لقد أثّرت منّوبيّة في غيرها من دُعاة تحرير المرأة فسارت حبيبة المنشاري (1907-1961) على نهجها الإصلاحي ونسجت على منوالها، فاعتلت يوم 29 جانفي 1929 منبر «جمعية الترقي» الفرنسية وخاطبت العموم ناقدة وضعية المرأة المتخلفة وحرمانها من حقوقها.
كما أثرت في صديقتها وبنت الجيران بشيرة بن مراد التي كانت ترتاد بيت صديقاتها منّوبيّة وزينب وعائشة الورتاني القاطنات بالجوار بنهج الباشا قريبا من بيت شيخ الإسلام محمد الصالح بن مراد. فتبنّت بشيرة أفكار التحرير والتنوير ورفض السائد مما تدعو إليه صديقتها منّوبيّة وأختاها زينب وعائشة.
كما لا نستبعد تأثيرها في المصلح الطاهر الحداد (1899-1935) الذي صدع بضرورة تحرير المرأة في كتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» الصادر سنة 1930 أي في نهاية فترة العشرينات المتأججة بألوان الجدل حول وضعية المرأة. ذلك الجدل الذي أضرمت فتيله منّوبيّة الورتاني سنة 1924 وانخرطت فيه حبيبة المنشاري سنة 1929 وفتح أعين النساء وأطياف المجتمع إلى ثورة جديدة تبعث العقل وترتقي بالذهنيات لبناء مجتمع حداثي. وقد انخرط الحداد في الثورة النسوية وأجج سعيرها بكتابه الرائد.
كما تحوّل الحبيب بورقيبة تدريجيا من موقفه الرافض نزعَ غطاء الرأس إلى موافق عليه فيما بعد. فبعدما لاحظ إصرار المصلحة منّوبيّة واتساع نطاق الدعوة إلى حقوق المرأة في صفوفٍ من الشعب ومن المثقفين وقيام نوادٍ نسوية للغرض رأى ضرورة الانسجام بالإرادة النسوية ونبض المجتمع. فسار بورقيبة في نهج الثورة وشجع بعض نوادي المرأة، وأصدر سنة 1958 «مجلة الأحوال الشخصية» لتنظيم العلاقات في الأسرة والتقليص من هيمنة الرجل، فحمى حقوق المرأة بسور القانون.
وقامت منوبيّة بالتعبئة السياسيّة وجيّشت النساء التونسيّات للخروج في المظاهرات العامة ومنها ثورة 9 افريل 1938 إلى جانب قيادات رجاليّة مهمة أبرزها علي البلهوان (1909-1958) والمنجي سليم (1908-1969). وكانت منّوبيّة في المقدمة تقود جمع النساء وترفع العلم المفدّى وتنادي بالتحرّر وبـ»برلمان تونسي».
وقد اهتمت منّوبيّة الورتاني بالعمل النقابي ولقيت حظوة وترحيبا من كوادره وعلى رأسهم فرحات حشاد. فآزرت مضامين النضال النقابي من منطلق أفكارها الاشتراكيّة ووقفت إلى جانب فرحات حشاد مناصِرة داعمة.
اكتنف حياة منّوبيّة الورتاني بعض الغموض بعد سنة 1950 لِما كان من تردّدها على فرنسا في مهامّ إداريّة أو شخصيّة. ويُرجَّح أنها استقرّت في العدوة الفرنسية واشتغلت بالتدريس هناك.
توفيت منّوبيّة - في ما نرجّح - بُعَيْد الاستقلال عن مسيرة حافلة بشعلة الثورة المتواصلة والنضال الاجتماعي والتربوي والسياسي والنقابي الزاخر، وكانت رائدة لتحرير المرأة في تونس وعبّدت طريق الكفاح النّسوي لمن جاء بعدها ممن واصلوا المناداة بحريّة المرأة، وكانت مثالا لجيل متنوّر من الأنتلجنْسِيا الذين راموا تحرير الإنسان والمجتمع والوطن في النصف الأول من القرن العشرين.
هاجر الورتاني
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية