هي مخرجة ومركّبة أفلام يتمثل مشروعها الفنّي في رواية حكايات تترجمُ بالصورة والصوت صمتَ الأمّ. وقد التجأت إليها لتنجو من هزّات العالم وانكساراته وأوجاعه.
شاركت مفيدة التلاتلي، بعد تكوينها في هذا الاختصاص بمعهد الدراسات العليا للسينما بباريس (IDHEC) حيث أنهت دراستها سنة 1968، في نشأة الحركة التي لقبها الناقد والمخرج فريد بوغدير بالسينما العربية الفتيّة. ومواصلة للطريق التي رسمها يوسف شاهين، عملت هذه المجموعة من المخرجين العرب الشبّان على القطع مع النمط السينمائي السائد لتقترح مقاربات جديدة من ناحية الموضوعات والجماليّة بهدف إثارة وعي المشاهد وحسّه النقدي. ولعبت مفيدة التلاتلي، باعتبارها مركّبة أفلام دورا محوريّا في هذا الحراك الذي فرض سينما المؤلّف على الساحة الفنّية والفكرية العربيّة.
ومن بين الأفلام التي ركّبتها مفيدة التلاتلي نذكر فيلم «سجنان» (1973) لعبد اللّطيف بن عمّار، وفيلم عمر قتلاتو (1977) لمرزاق علواش، وظلّ الأرض (1982) للطيب الوحيشي و«عبور» (1982) لمحمود بن محمود و«الهائمون» (1984) للنّاصر خمير، و«السامة» (1988) لناجية بن مبروك و«حلفاويين» (1990) لفريد بوغدير.
وتبقى تجربة «نهلة» (1979) للمخرج الجزائري فاروق بلوفة تجربة رائدة، فقد مثّل هذا الشريط بجرأته الشكليّة ونفَسه التجديديّ وتركيبه السنفوني الذي تمتزج فيه جدليّات الشعر والانكسار والصمت وفرقعات الواقع، محطة فارقة في مسار السينما العربيّة.
أخرجت مفيدة التلاتلي شريط «سيدي أبي سعيد» (4 أوت - 7 فيفري 2021) وشريطين طويلين هما «صمت القصور» 1994 و«موسم الرجال» 2000 .
وقد أحرز الأول على نجاح جماهري واعتراف دولي منقطع النّظير، فوقع ترتيبه من بين أهمّ مائة فيلم لمخرجات في تاريخ السينما العالميّة. كما تحصّل الفيلم على تنويه خاصّ من لجنة تحكيم الكاميرا الذهبيّة في مهرجان «كان» 1994، والتانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائيّة.
ولكن مفيدة التلاتلي التي أخرجت أيضا فيلما وثائقيّا حول أيّام قرطاج السينمائية وشريطا تلفزيّا هو «نادية وسارّة» (2003) قد مثّلت خيط ربط بين جيل من السينمائيين المتفرّدين الذين تمكّنوا كلّ من منطلقه من كسر حواجز التمثّلات المهيمنة و إدراج سؤال الفرد كطرف في معادلة الواقع العربي الراهن الرّازح تحت وقع النكسات السياسية والأنا الأعلى الاجتماعي.
وعبر عملها كمخرجة وسكريبت ومركّبة أفلام، فرضت مفيدة التلاتلي نفسها باعتبارها رواية مدركة لآليّات السرد السّنيمائي.
هذا، وتدور أحداث شريط «صمت القصور» في آخر أيّام الاستعمار الفرنسي بتونس، وهو يروي انطلاقا من مجموعة من «الومضات الورائيّة» قصّة علياء وهي البنت غير الشرعية للخادمة والراقصة خديجة وسيدي علي باي. وعند وفاة هذا الأخير تعود علياء الى القصر الذي ترعرت فيه، وقد صارت مطربة، وتتجوّل في أرجاء القصر المهجور فتسترجع الذكريات الأليمة حول صورة أمّها ضحيّة كامرأة في مجتمع ذكوري وكعاملة منتمية لطبقة اجتماعية مهمّشة. ويخيم الصمت على هذا العالم المغلق. الذي يحكمه المسكوت عنه فيتحوّل تبادل النّظرات إلى السبيل الوحيد. للتواصل لم تكن مفيدة التلاتلي تخفي إعجابها بالمخرج السينمائي والمسرحي السويدي «انغمار برغمان» الذي اعتبرته من أهمّ المخرجين الذين أثّروا في تجربتها.
وقد تمكّنت صاحبة «صمت القصور» من الولوج عبر اللقطات المقرّبة إلى موسيقى الأرواح دون السقوط في الدراميّة المفتعلة أو في البكائيّة، فكم اقتربت كميرا مفيدة التلاتلي من وجوه الشخصيات لسبر أغوارها والكشف عمّا تكتم في دواخلها عبر قراءة الملامح.
وهنا تكمن كل الأهمّية التي توليها المخرجة لتبادل النّظرات، فهي اللغة الحقيقية الوحيدة المكنة والخالصة في عالم يتحكّم المسكوت عنه في تفاصيله.
وتكمن الأهمّية التي حظي بها «صمت القصور» في أنّه الشريط الذي وضع مقوّمات العالم السّنيمائي للتلاتلي، وهو عالم تروي عناصره رهانات المجتمع التونسي وواقعه، عبر تفكيك العلاقات بين الأجيال النّسائية المختلفة وبين الأزواج وبين المهيمِن (الذكوري، الأرستقراطي، المحافظ…) والمهيمَن عليه.
كلّ هذه العلاقات تحكمها استحالة البوح، ويبقى الجسد حاملا لآثار الجراح النّفسيّة والحميميّة يُعلن منها ما قلّ ويُسِّر ما كثُر...
وغالبا ما يلعب الفنّ (الغناء والموسيقى والرّقص بشكل خاصّ، …) دور المتنفّس والطّريق إلى استعادة السيطرة على مصير الشخص ويعيد إليه توازنه، ولو إلى حين...
هذه العناصر تأكّدت في أعمال مفيدة التّلاتلي التي فرضتها كوجه سينمائي بارز.
وقد شاركت مفيدة التلاتلي في عديد لجان التحكيم في المهرجانات الدوليّة وكانت من بين أعضاء لجنة تحكيم المسابقة الرسميّة لمهرجان «كان».
وكذلك عُيّنت مفيدة التلاتلي وزيرة للثقافة في جانفي 2011 وكانت أوّل امرأة تتقلّد هذا المنصب.
طارق بن شعبان
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية