«العاشرة احترام الجار.. العاشرة احترام النائم» جملة إذاعيّة دغدغت أسماعنا كلّ ليلة بصـوت حـالـم هـادئ حنون. إنّه صوت ملاك الميكروفون نجوى إكرام في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
ولدت الفتاة مبروكة، كما هو في الوثائق الرسميّة، وحوريّة في البيت والعائلة، بنت محمود العقبي بمدينة قسنطينة بالجزائر في 12 أفريل 1932. والتحقت بمدرسة ابن باديس و تلقّت دروس البلاغة والدين والفقه على يد الشيخ الجليل «أحمد حماني»، الذي أصبح فيما بعد مفتي الديار الجزائريّة، وتميزت بإتقانها للغة العربيّة وتجويدها للقرآن الكريم بصوت جميل.
توفّي والدها – وقد كان تاجرا - إثر انتهاء الحرب العالميّة الثانية وكانت الجزائر ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي وأصبحت الوضعيّة الماديّة صعبة فقرّرت العائلة السفر إلى تونس على إثر تلقّيها لدعوة من إحدى العائلات التي كانت تربطها بالمرحوم علاقة طيّبة وكانت له معها معاملة تجاريّة، فتمكّنت أمّها من الحصول على مستحقات زوجها من بعض التجار الذين كان يتعامل معهم.
سنة 1946 حلّ الركب في تونس بنهج الباشا وتحديدا نهج غرنوطة حيث استقبلتهم العائلة المذكورة بحفاوة كبرى وامتدت الضيافة فترة من الزمن حتى ألحّوا عليهم بعدم العودة والبقاء بتونس. وبعد تفكير عميق اقتنع الجميع بوجوب البقاء هنا باعتبار ما بين البلدين والشعبين من أواصر القربى والمودّة.
كانت حوريّة أو مبروكة تعشق الاستماع إلى الإذاعة التونسيّة وخاصة المسرحيّات التي كانت تقدّمها الفرقة التمثيليّة، وكانت تحفظ عن ظهر قلب بعض المواقف التي تعجبها منها.
وصادف أن كانت العائلة تتجوّل في إحدى الأمسيات بضاحية الزهراء على شاطئ البحر وبدأت حوريّة تتندّر وتسرد بعض المواقف التمثيليّة التي حفظتها بطريقة جميلة جدّا، ولم تلحظ حينها أنّ عيونا ترقبها وآذانا تستمع إليها باهتمام. وعندما انتهت من «عرضها» توجّه إليها شخص محترم وقدّم نفسه فإذا هو «محمد عبد الكافي» الموظف بالإذاعة التونسيّة وأبدى لها إعجابه بصوتها واقترح عليها الانضمام إلى الإذاعة متطوّعًا لمساعدتها وتقديمها للمسؤولين إن رغبت. في البداية خافت من التجربة ومن دخول الإذاعة ولكن بتشجيع من عائلتها وافقت وكانت بداية المسيرة.
1948 وضعت مبروكة قدمها لأوّل مرّة في الإذاعة حيث استقبلها مصطفى بوشوشة ومحمود بورقيبة وأجريا عليها اختبارا صوتيّا باللغة العربيّة فكانت رائعة جدّا فألحقها بوشوشة مباشرة بالفرقة التمثيليّة للإذاعة تحت إشراف الفنّان حمودة معالي.
انتشر الخبر في الإذاعة انتشار سريعا بأنّ هناك فتاة جزائريّة ستنظمّ إلى الفرقة التمثيليّة صوتها جميل وعمرها 16 سنة فحسب، فاستقبلها جميع الممثّلين والتقنيّين بكل حبّ وترحاب. وبدأوا يطوّعون سمعهم على لهجتها الجزائريّة ويطوّعون نطقها على التكلّم باللهجة التونسيّة، وتعهّد الفنان حمودة معالي بصقل صوتها باللهجة المحليّة، وانطلقت التمارين وأصبح يدربها يوميا على خصوصية اللهجة التونسيّة.
وفي انتظار تعودها على اللهجة التونسية كان لزاما على الفرقة أن تسند إليها أدوارا باللغة العربيّة، فكان أول موقف تجسّده صوتيا من إحدى روائع توفيق الحكيم فأذهلت الجميع بحلاوة صوتها وقوة نبراتها وصدق إحساسها ثمّ بدأت تتعوّد على نطق «علاش» و«كيفاش» و«برشة» و«توّة» و «كيفنّك» و«اش نحوالك» وأخذت عقدة لسانها تنحلّ تدريجيّا لتصقل نهائيّا بعد أشهر من التمارين اليوميّة المضنية.
وعندما بدأت تشارك في الروايات اقترح عليها تغيير اسمها ليكون مطابقا لصوتها الجميل، ولكنّها رفضت الفكرة في البداية ثمّ اقتنعت وأسندت المهمة للإذاعي محمد حفظي باختيار اسم فنّي ملائم لها فكان المقترح «نجوى إكرام».
1949 أسند إلى نجوى إكرام أوّل أدوار البطولة من إحدى روائع توفيق الحكيم ـ أيضا وكان لمشاركتها الوقع الحسن وبدأ الجميع يكتشفون صوتها ويعجبون به، وقد مثّلت إلى جانب محمد الهادي وتوفيق العبدلّي ودلندة عبدو وجميلة العرابي والزهرة فائزة وعزالدين بريكة والحطاب الذيب.
سنة 1952 قدم الممثل والمخرج المصري كمال بركات إلى تونس بدعوة من الإذاعة قصد تكوين فرقة باللغة العربيّة إلى جانب الفرقة التي كانت تمّثل باللهجة التونسيّة فأعجب بصوتها إعجابا وأصبحت هي البطلة الرئيسيّة في أغلب الأعمال التمثيلية التي أدارها فمثلت في أغلب مسرحياّت توفيق الحكيم ومحمود تيمور وجميع مسرحيات ناجية ثامر وفي الأعمال العالميّة المترجمة.
في تلك الأثناء تكوّنت مدرسة التمثيل العربي فانخرطت فيها وكان يدرّس بها «حسن الزمرلي» و«عثمان الكعاك» و«أحمد خير الدين» و«محمد عبد العزيز العقربي» فدرست المسرح على قواعده الصحيحة وتعلّمت مخارج الحروف على أسس علميّة حتى أنها أصبحت تردد الأناشيد.
عندما بلغت العشرين من العمر تزوّجت من التقني بالإذاعة عزالدين التركي الذي كان يتولّى تسجيل الروايات، وحضر حفل زفافهما وفد كبير من الفنّانين والفنّانات وغنّت عليّة لأول مرّة «ظلموني حبايبي» ذات ليلة من صائفة 1953.
ومع ازدياد الخبرة والاستقرار النفسي أصبحت نجوى إكرام تبدع أكثر في أدوار الدراما حتى دعاها مصطفى خريّف إلى المشاركة في بعض البرامج التي كان ينشطها فكان لصدى صوتها الأثر الجميل في نفوس المستمعين.
وفي نفس الفترة التنشيطيّة لم تنقطع عنها الأدوار التمثيليّة وتألّقت في المسرحيّات العاطفيّة وخاصة مع الفنّان محمد الهادي.
ويذكر أنّه سنة 1962 حين استقلّت الجزائر كانت شهرتها قد سبقتها إلى هناك فتلقّت دعوة عن طريق سفارة بلدها إلى الالتحاق بالجزائر بنفس مهمّتها الإذاعيّة بتونس مع امتيازات السكن والتنقل والمرتّب، ولكنّها اعتذرت بكلّ لطف وشكرتهم على الدعوة والمقترح المغري وقالت لهم «الحمد لله أنّ لي والدتيْن الأولى أنجبتْ والثانية ربّت».
أثناء حرب الجلاء عن بنزرت سنة 1963 عايشت نجوى إكرام مواقف بطولية للشعب التونسي ولم تدخر جهدا في الوقوف إلى جانبه فقد كانت عبر الميكروفون تكرر النداءات والتعليمات بطريقة واضحة وصريحة وتعيد جملتها الأثيرة «الوطن فوق كلّ اعتبار» وكان عبد المجيد بن جدّو يكتب الشعر الوطني الحماسي وكانت هي تقرؤه رفقة مليكة بالخامسة. ومن القصائد التي قرأتها آنذاك قصيدة «بني وطني يا ليوث الصدام» التي غنّتها في ما بعد المطربة « عليةّ» في منتصف سنة 1964 كانت نجوة إكرام تقدّم برنامجا أدبيّا بعنوان «همس الليل» من إنتاج الشاعر مصطفى خريّف، وكان عبارة عن فسحة شعريّة ينتقيها المنتج بعناية فائقة من أمهات قصائد الشعر العربي، وكان لذلك البرنامج صدى كبير لدى مستمعي الإذاعة التونسيّة. وصادف أن تمّت دعوة الشاعر الكبير نزار قباني إلى تونس في شهر ماي تحديدا من طرف كتابة الدولة للشؤون الثقافية والأخبار بحرص من وزير الثقافة الشاذلي القليبي (1925-2020) وذلك لتقديم ثلاث أمسيات بدار الثقافة ابن خلدون، وبصفاقس، وبالمسرح البلدي بتونس العاصمة.
وإثر تقديمه لأمسيتيه الأولى والثانية خصّص مصطفى خريف حصّة من برنامج «همس الليل» لقراءة البعض من قصائده فافتتن نزار قباني بصوتها واقترح عليها مشاركته قراءة الشعر في الأمسية الشعريّة التي قدّمها على ركح المسرح البلدي بالعاصمة.
نشّطت نجوى إكرام باقتدار وتميّز العديد من البرامج على غرار برنامج «صباح الخير» ثمّ «في رياض النفس» و«أغنية لكل مستمع» و«سهرة الأسبوع» و«سهرة عائلية» ثمّ برنامج «ألف مبروك» ثمّ أصبحت تشارك المذيع عبد العزيز الرياحي في برنامجيْه «موعد الخميس» و«كلمات متقاطعة» ثمّ أصبح لها برامجها الخاصة مثل «ركن التعارف» ثمّ «ركن المفقودين» و«هنا صفاقس» و«سهرة من ألف ليلة وليلة».
سنة 1992 أحيلت نجوى إكرام على التقاعد بعد عطاء متميّز دام 44 سنة من العمل المتواصل ومن النجاحات والنجوميةّ الإذاعيّة. وقد نجحت في مسيرتها المهنيّة بامتياز كما نجحت في مسيرتها العائلية حيث اعتنت بابنيها بعد وفاة ابنتها البكر ثمّ وفاة زوجها إذ أرسلت ابنها سليم ليدرس الطبّ بفرنسا بينما فضّل خالد الأعمال الحرّة في تونس.
سنة 2008 وبمناسبة تنظيم المهرجان الأوّل للإذاعة التونسيّة (في الذكرى 70 لتأسيسها) تمّت دعوتها وتكريمها واسترجاع الذكريات معها.
وفي يوم الأربعاء 23 أوت 2017 فجعت الأوساط الإذاعيّة برحيلها عن سنّ تناهز 85 سنة ودفنت بتونس العاصمة.
حافظ الشتيوي
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية