ولدت نفيسة بن سعيد في أواسط العشرينات من القرن الماضي، في وسط تقليدي مستنير. فقد تابع والدها دراساته في المدرسة العسكريّة في سان سير بفرنسا، وهي المدرسة التي كان أسّسها نابوليون الأوّل، وكان شارل دي غول من قدمائها. وبعد أن شغل خطة «قايد» في الكاف، ثم فيّ القيروان فصفاقس، عين وزيرا للتعمير والإسكان ضمن حكومة الطاهر بن عمّار. أما والدتها التي تلقّت تعليمها في معهد نهج الباشا بتونس العاصمة، فهي ابنة امحمد بلخوجة، مدير تشريفات الباي. كان امحمد بلخوجة، الكاتب والمؤرخ، أسس أول جريدة تونسية، جريدة الحاضرة، كما أسّس الخلدونية.
وأما نفيسة، فقد تابعت تعليمها في صفاقس حيث كان يشتغل والدها. وعندما تزوجت لاحقا مسؤولا تابعا للإدارة الجهوية، انتقلت معه إلى قرية صغيرة في الساحل. ولكن زوجها توفّي في ظروف مأساوية، فرجعت إلى تونس مع أطفالها الثلاثة. لقد كانت لنفيسة شخصية قويّة ومزاج صلب، ولذلك قررت، على غير المألوف في ذلك الوقت وفي تلك البيئة الاجتماعية، أن تدخل ميدان الشغل من أجل ضمان استقلالها المالي والاجتماعي.
كانت تونس يومها لاتزال في بداية عهدها بالاستقلال، ولئن كان بورقيبة يشجع النساء على الدخول في الحياة النشيطة، فإن القطاعات المهنيّة لم تكن كلهّا مشرعة أمامهن.
لقد كان لنفيسة بن سعيد ميل إلى الكتابة وأسلوب جميل في التحرير. ولكنها كانت تكتب لغاية متعتها الشخصية بعض الحكايات القصيرة التي كانت تطفح بالشاعريّة، فشجّعتها عائلتها وأصدقاؤها حتى قررت عرضها على إحدى الجرائد.
كانت مجلّة «فايزة» أول مجلّة نسائيّة بعد الاستقلال، تأسّست في 1959، وكانت تدافع عن تعليم المرأة، وتناصر الاختلاط، وحرية الإجهاض، والتنظيم العائلي، كما كانت فوق كلّ ذلك متمسّكة بإبراز الهويّة التونسيّة.
تمّ قبول نفيسة بن سعيد في تلك الجريدة ونشرت فيها حكايات مستمدة خاصة من التراث التونسي، ولكنها نشرت كذلك بعض المتابعات، وبعض المقالات الفكاهية، تحت اسم مستعار هو «نجمة». هناك ابتدأت إذن مسيرتها: مسيرة طويلة خصبة لصحفية ملتزمة، من الأوائل في ميدانها، جريئة في مواقفها، خلاّقة، رفعت عاليا راية الصحافة وطبعتها بطابع شخصي لا تنقصه الوجاهة، فيه كثير من الإحساس بالراهن، وكل ذلك في ثوب من الكتابة الأنيقة.
ابتدأت نفيسة بن سعيد باسم «نجمة» المستعار مع مجلة فايزة، ولكنها سرعان ما رغبت في الدخول إلى صحافة الميدان، صحافة الحوارات، والنقل الأحداث، والاستقصاءات الكبرى. وفي ذلك الوقت تأسست الأسبوعية الإفريقية Afrique Action على يدي البشير بن يحمد، وزير بورقيبة الأسبق للإعلام. انضمّت نفيسة بن سعيد إلى فريق هذه الأسبوعية التي ستصبح لاحقا واحدة من أجود مدارس الصحافة، إلى جانب جوزات عليا Josette Alia غي سيتبون Guy Sitbon، والتقت مرارا جان دانيال Jean Daniel وتانيا ماتيوز Tanya Matthews، مراسلي الجرائد الكبرى في تونس.
إلاّ أنّ هذه الأسبوعيّة تعرّضت لضغط السلطة التونسيّة التي أزعجها استقلالها حيث كان شعارها: «واجب الإعلام، وحرّية الكتابة»، فغادرت تونس لتستقر في البداية في روما ثمّ في باريس تحت عنوان: Jeune Afrique
إذاك انضمّت نفيسة بن سعيد إلى جريدة لابريس La Presse حيث أنشأت عمودا طريفا ضمن المشهد الإعلامي لذلك الوقت، ولو أنه قد تم تداوله كثيرا بعد ذلك : فضوليات عليسة «Les Indiscrétions d’Elyssa»، وهو عمود مخصص لأصداء السياسة، وأصداء المجالس وللأصداء الثقافية. وقد ظلّ العمود ثابتا لعدّة عقود بعد تأسيسه، تحت إشراف ابنتها علياء حمزة.
ثم غادرت نفيسة بن سعيد جريدة لابريس إثر خلاف مع مديرها هنري سماجة Henri Smadja، والتحقت بجريدة لاكسيون L’Action التي ستصبح بعد ذلك لو رونوفو Le Renouveau. على أنّ سماجة رفض أن يعيد لها العمود المذكور واسمها الصحفي متعللا بأنهما ملك للجريدة. فأنشأت إذاك عمودا مماثلا تحت الاسم الثاني للأميرة عليسة: ديدون Didon.
ستعطي نفيسة بن سعيد في جريدة لو رونوفو أحسن ما عندها من المهارة والحذق، متحرّكة في كلّ الأجناس الصحفيّة. فهي بالإضافة إلى «اعترافات ديدون» Confidences de Didon التي كان القراء ينتظرونها بفارغ الصبر كلّ أسبوع، كانت تمضي أعمدة النّقد الحر (rubriques d’humeur)، أو أعمدة المزاج (de couleur) التي كانت كثيرة المتابعة : «في ضوء قلم» («Au clair d’une plume»).
ولكنّ ما جددت فيه حقا إنما هو الحوارات مع المسؤولين السياسيين: «في ما أبعد مع ..» (Encore plus loin avec…)، «أربعة أسئلة أو خمسة إلى» (Quatre ou cinq questions à….).. «في عمق الأشياء» («Au fond des choses). وقلّ من كان من بين المسؤولين السياسيين أو من كبار موظفي الدولة يفلت من تلك الحوارات: نذكر على سبيل المثال فقط أنّ الوزير الأول الهادي نويرة مرّ بها، كما خضع لها مفتي الجمهورية الحبيب بلخوجة، والوزراء الباجي قايد السبسي، ومحمد الناصر، وفؤاد المبزع، وعبد الله فرحات. كانت حوارات فضولية متطفلة أحيانا، في وقت لم يكن يسمح مع ذلك بحرّية الكلمة. ولكنّهم كانوا يقبلون الإجابة.
غير أنّ قلم نفيسة بن سعيد قد أخذها في كثير من الأحيان خارج حدود البلاد، ولا سيما مع ما كان لها من شبكة علاقات واتصالات واسعة، فسافرت إلى الهند لتلتقي إنديرا غاندي، وإلى باكستان لتحاور ضياء الحق، وإلى باريس لتسائل ريمون بار، وإلى موناكو لرؤية الأمير راينر. أما في تونس فكانت تنتظر الزوار الرسميين أسفل مدرج الطائرة أو تكاد، كما كانت تستعمل كل ما يمكن تخيّله من الأساليب لمحاورة ملك الأردن حسين مثلا، أو الرئيس سنغور، أو أم كلثوم، أو الرئيس أحمد سيكوتوري.
لقد تركت نفيسة بن سعيد، في ما أبعد من مسيرة مثالية تابعتها حتى نهاية حياتها، أثرا مضيئا في العالم الاتصالي، ولكن كذلك في المجتمع التونسي. فقد كانت أول امرأة تحصل على رخصة سياقة، ولعلها الوحيدة إلى اليوم التي كانت من بين الشهود في قران نجلها. لقد كانت سيدة اتّصال، من المؤسّسين، جريئة، صارمة، مواظبة، وفتحت طرقا لم تكن مفتوحة إلى ذلك الوقت. وفي قاعات التحرير الصحفي التي غالبا ما كانت قاعات ذكوريّة في ذلك الوقت، برهنت نفيسة بن سعيد بنجاعتها وجسارتها وموهبتها على أنّه لا يوجد ميدان مستحيل دخوله.
وقد كرّمتها الكاتبة هاجر الجيلاني معترفة بأنّها كانت امرأة ريادية، فتحت بكفاءتها وإصرارها طرق الممكن أمام غيرها من النساء. وعنها سيقول الديبلوماسي الكبير أحمد ونيّس الذي كان عرفها معرفة جيدة، إنها كانت صحفية ملتزمة، ومناضلة لا من أجل قضية النساء، ولا قضية حزب من الأحزاب، وإنما من أجل فكرة مّا عن تونس التائقة إلى الحداثة والعظمة.
أمّا المحللة النفسية والأنثربولوجية ليليا العبيدي، فقد لاحظت أن نفيسة بن سعيد قد تركت بصمتها على الصحافة التونسية في سياق ما بعد الاستقلال حيث كان يتعين بناء كل شيء.
وأمّا زملاؤها الذين أطلقوا عليها بسخاء لقب: «فارسة القلم»، فقد حيّوا بكل فخر ما تحصّلت عليه من الأوسمة : وسام الجمهورية، وجائزة الامتياز الأوروبية ...
كما خصصت لها دار سامباكت للنشر (Simpact) كتابا ذكّر بمسارها، وجُمعت فيه بعض حواراتها التي أنجزتها خلال مسيرتها.
علياء حمزة
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية