إنّنا لا نبالغ إذا اعتبرنا هذه السيّدة التونسيّة « أمّ العلاء العبدريّة» أوّل امرأة احترفتْ مهنة التّعليم بالمعنى الكامل لمفهوم المهنة والاحتراف. كما أنّه ليس من باب التجاوز اعتبارها تونسيّة لأنّها وُلدتْ وعاشت في تونس الحاضرة رغم أصولها الأندلسيّة إذ وَفَدَ أبوها من غرناطة مهاجرًا إلى تونس أوائل القرن السابع للهجرة المقابل للقرن الثالث عشر ميلاديا أي منذ ما يزيد عن سبعة قرون.
وقد وُلدتْ له ابنته هذه - أمّ العلاء - بتونس فحرص على تعليمها لا لِمجرّد التعلّم في حدّ ذاته بل لأنّه قد أراد إعدادها لمهنة التّعليم للارتزاق منها في حال وفاته حتى تكون لها مهنة شريفة تعيش بها ونلاحظ هنا بُعد نظر هذا الأب وإيمانه بقدرة المرأة على العمل وحاجتها إلى الحريّة الاقتصاديّة ضمانًا لحياة كريمة تكون فيها هي عائلة نفسها عند الحاجة.
فكان أن حفظت أمّ العلاء القرآن كاملا وتفوّقت في التّمكّن من مختلف العلوم وأتقنت الكتابة بخطّ جميل وشاركت في حضور المناظرات في المسائل العلميّة الهامّة بتميّز وتفوّق لا يقلّ عن تميّز الرّجال في عصرها.
ومن علامات تفوّقها وما بَلَغَتْهُ من درجات عالية في مجال العلم والمعرفة أنّها كتبتْ بخطّها نُسخًا عديدة من كتاب «إحياء علوم الدّين» للإمام الغزالي إلى جانب نسخها لعديد المؤلفات الأخرى في مجالات الأدب والتربية في زَمنٍ لم تكن فيه الكتابة وإتقان الخطّ عملا سهلا، بل ويكاد هذا الأمر يكون مقصورًا على الرّجال، بل و على قلّة منهم.
ولمّا اشتهرتْ أمّ العلاء بعلمها وبروزها في مجالات المعرفة دُعيت إلى تعليم بنات عائلات الأغنياء والأشراف بل وكُلّفِتْ أيضا بتعليم بنات بلاط سلاطين الحفصيّين. ولذلك يجوز القول إنّها قد أسّستْ لاشتغال المرأة بمهنة التعليم تقليدًا راسخًا و سنّة حسنة فكانت أوّل المعلّمات و أشهرهنّ.
وقد آمنت السيدة أمّ العلاء العبدريّة بمهنتها هذه وبقيمتها المعنويّة والماديّة لذلك لم تكتف بأن احترفتها هي ولم يتوقّف الأمر عليها فحسب، وإنّما أعدّت ابنتيها للاشتغال أيضا بمهنة التعليم فخلفتاها عندما كبرتْ هي وتوقّفت عن العمل.
خصال أمّ العلاء العبدريّة:
إلى جانب ما عُرفت به المعلّمة السيّدة أمّ العلاء العبدريّة من شهرة وتفوّق في مهنة التعليم ومن سَعَةِ معارفها العلميّة فقد عُرفت أيضا بخصالٍ عالية وأعمال خيريّة إنسانيّة منها أنّها كانت تتبرّع بما كانت تتقاضاه من أجرٍ وعطايا من أمراء الحفصيّين للفقراء والمحتاجين ولافْتداء أسرى المسلمين من قيود القراصنة.
وهكذا تكون السيدة أمّ العلاء العبدريّة نموذجًا ومثالاً لما بلغته المرأة التونسيّة منذ القديم من قدرة على ارتقاء مراتب عُليا من المعرفة أهّلتها لتكون مدرّسة تنشر العلم وتساعد على رفع الجهل عن نساء مجتمعها، كما كانت مثالا راقيا في مجال الأعمال الإنسانيّة وفي تكريس مبدإ الأُثرة بمساعدة أبناء وطنها من المحتاجين إلى السند والرّفد.
فكانت العالمة والمعلّمة والأمّ المثالية في تربية ابنتيها وتعليمهما وتأهيلهما للعمل بهذه المهنة الشريفة، مهنة التعليم، كما كانت المرأة الخيّرة المحسنة الكريمة.
وقد توفيّت رحمها الله بتونس سنة 647 للهجرة، حوالي سنة 1250 ميلاديا.
جميلة الماجري
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية