هي بيّة بنت البشير الرحّال، شهرت عليّة، وهو الاسم الفنّي الذي اختاره لها صالح المهدي (1925-2014) لاحقا بعد انخراطها بجمعية الرشيديّة للموسيقى التونسيّة)، تيمّنا بالشاعرة والعازفة عليّة بنت المهدي أخت الخليفة العبّاسي هارون الرشيد (766 - 809 م) والخليفة الموسيقار إبراهيم بن المهدي (779 - 836 م).
نشأت عليّة التونسيّة في عائلة فنيّة، إذ أنّ أباها البشير الرحّال ممثّل معروف قام بدور البطولة في مسرحية «الحاج كلوف في الحمّام» تأليف أحمد خير الدين (1905-1967)، وزوج أختها رضا القلعي (1931-2004) عازف الكمان والملحّن ومؤسّس فرقة «المنار» وهو الذي اكتشف مواهبها في الغناء مبكّـرا فشاركت في عروض فرقته تحت اسم «فتاة المنار» ولحّن لها أولى أغانيها: «يا قلبي آش بكّاك بالله قلّي» و»ظلموني حبايبي» التي لقيت انتشارا مشجّعا.
وبعد توقّف قصير عن الغناء نتيجة ضغوط عائلية، التحقت عليّة بجمعية الرشيديّة والتقت بصالح المهدي فتعلّمت بعض أصول الموسيقى والعزف على العود وحفظت مقطوعات من «المالوف» التونسي ثمّ شاركت، بصفتها منشدة في المجموعة الصوتيّة، في فرقة بلدية تونس للموسيقى التي تأسّست سنة 1954، وانتدبت سنة 1957 بالفرقة الموسيقية التابعة للإذاعة التونسيّة فساهمت، ضمن المجموعة الصوتيّة، في تسجيل أكثر من مئة موشّح من التراث المصري، أدّت في عدد منها بعض المقاطع بمفردها، وذلك بإشراف فهمي عوض، عازف القانون المصري الذي انتدبته الإذاعة للغرض، وساهمت هذه المشاركات في إثراء زادها الفنّي.
لم تلبث أن بدأ نجمها يتلألأ بعد أن انخرطت في فرقة الإذاعة ولفتت انتباه أكبر الشعراء والملحّنين في ستينات القرن العشرين بفضل صفاء نبراتها ودقّة أدائها واختيارها الزخارف المناسبة وقدرتها على الارتجال، بعد أن تمكّـنت من أغلب «الطبوع» التونسيّة و«المقامات» المشرقيّة، وتجلّى كلّ ذلك في أداء قصيد «بني وطني» الذي نظمه عبد المجيد بن جدّو (1918 -1994) ولحّنه الشاذلي أنور (1925-1995) حين كانت تونس تخوض غمار حرب الجلاء عن مدينة بنزرت في صيف 1961. وتوالت النجاحات وتسجيل الأغاني بالإذاعة، حيث غنّت قصائد وأغاني من أشعار أحمد خير الدين ومحمود بورقيبة (1909-1956) وجلال الدين النقاش (1910-1989) وحمادي الباجي (1940-1995) والهادي العبيدي (1911-1985) والمختار حشيشة (1920-1983) وغيرهم، وغنّت من ألحان أغلب الموسيقيّين من أجيال مختلفة وأكبرهم سنّا محمد التريكي (1899-1998) وصالح المهدي(1920-2014)، وقد تصدّر قائمة الملحّنين التونسيّين من حيث عدد الأعمال التي لحّـنها لها إذ فاقت العشرين يبن قصائد وأغان، وونّاس كريم (1922-2003) وقدّور الصرارفي (1913-1977) والشاذلي أنور وموريس ميمون (1926-1993) وعلي شلغم (1928-2002) ومحمد رضا (1932 -) وعبد الحميد ساسي (1934-1984) وصولا إلى حمادي بن عثمان (1946-2021).
وقد لقيتْ أغلب القصائد والأغاني التي أدّتها المطربة عليّة نجاحا جماهيريّا، ولحّنت في «طبوع» تونسيّة، مثل «الزين هذا لواش.. يا مذبّلة الارماش» نظم عبد المجيد بن جدّو وألحان صالح المهدي و«قالوا زيني عامل حالة.. ما لا لا» نظم محمد اللّجمي وألحان عبد الحميد ساسي، وغنّت من التراث التونسي «ناعورة الطبوع» (مجموعة «براول» من مختلف النوبات التونسيّة)، واحتلّت الأغاني المبنيّة على المقامات المصرية مكان الصدارة ومنها على سبيل المثال لا الحصر «يا مداوين الناس وينو دواي» و«ياللي أنت روح الروح» (وكلتاهما من كلمات محمود بورقيبة وألحان صالح المهدي) و«عروستنا» (كلمات رضا الخويني وألحان موريس ميمون) و«نظرة من عينك تسحرني» (كلمات أحمد خير الدين وألحان صالح المهدي) و«ظلموني حبايبي» (كلمات وألحان رضا القلعي) و«عش يا فؤادي بالأمل» (كلمات المختار حشيشة وألحان ونّاس كريم) و«بسرّك ودلالك» (نظم أحمد خير الدين وألحان علي شلغم) وأغنية «ما نحبّش فضة ولا ذهب» (كلمات محمد سلام وألحان محمد رضا) وقصيدة «الساحرة» (شعر جعفر ماجد وألحان محمد رضا).
وأجادت عليّة أداء الموشحات المصرية (على غرار «أحنّ شوقا» الذي سجّلته ببيتها بحضور عدد من الفنّانين من تونس ومصر) وانتشرت أغانيها في تونس وخارجها بفضل البثّ الإذاعي والتلفزيوني والحفلات التي أحيتها في تونس وبفرنسا سنة 1964 وفي مصر في أول زيارة لها سنة 1969 ضمن فرقة الإذاعة بمناسبة الاحتفال بألفية القاهرة، تلتها زيارة ثانية سنة 1972 حيث دعيت للمشاركة في مهرجان الموسيقى العربية مع عدد من المطربات والمطربين العرب، وأدّت أغاني لأمّ كلثوم وفازت بالمركز الأوّل في هذه التظاهرة الفنيّة، ممّا شجّعها على مواصلة المغامرة والقيام بجولات فنّية بالخليج العربي وبأغلب البلدان العربيّة، واستقرّت بلبنان بين سنتي 1975 و 1977 ولكنّها فضّلت الرجوع إلى القاهرة لتستقرّ فيها نهائيا حيث التقت بالفنّان حلمي بكر صاحب لحن أغنية «علْلِي جرى من مراسيلك»، كما غنّت من ألحان بليغ حمدي «دامعة عيني دامعة» و محمد الموجي «طرح الهوى» و«ملحمة أم كلثوم» ومن ألحان رياض البندك «لا ملامة».
وقد فاق العدد الجملي للمصنّفات الموسيقيّة المودعة بخزينة التسجيلات بالإذاعة التونسية باسمها المائتين. كما مثّـلت عليّـة أدوارا في مسرحيّـات غنائيّة في تونس، في الفترة الأولى من حياتها الفنيّـة، ثمّ في القاهرة بعد استقرارها بها. ففي تونس لعبت دور «أزمرلدا» في مسرحيّة «أحدب الكنيسة» تأليف الفرنسي «فكتور هوقو» (1802-1885) ومثّلت فصل الربيع في مغناة «الفصول الأربعة» التي لحّـنها رضا القلعي، وقدّمت ضمن فرقة مدينة تونس للموسيقى أواسط خمسينات القرن العشرين وفي مسرحيّة «ضحكة وألف دمعة» اقتباس وإخراج والدها البشير الرّحال عن «بنات الفقراء» ليوسف وهبي الملقّـب بعميد المسرح العربي (1898-1982).
كما مثلت، إلى جانب المطرب علي الرياحي والمطربة نعمة، في شريط قصير أخرجه عمار الخليفي (1934-2017) عنوانه «حبذ وغيرة» وفي فيلم «أمّ عباس» إلى جانب الزهرة فايزة (1919-1999).
وفي مصر شاركت في مسرحيّة «الدنيا مزيكا» إخراج سيد راضي إلى جانب صلاح السعدني، وفي فيلم «ناصرة والذئب» الذي تحوّل إلى مسلسل تلفزيوني، حيث تقمّصت دور الناصرة البدوية، ولمع نجمها من خلال ملحمة «حبايب مصر» تأليف عبد العزيز سلام وألحان حلمي بكر، وقد مكّـنتها من نيل وسام الاستحقاق الثقافي من يدي الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات.
تميّزت المطربة عليّة في أداء جلّ القوالب والأنماط الموسيقيّة المنتشرة في تونس ومصر بفضل موهبتها الفطريّة وما حصلت عليه من معرفة بأسس الموسيقى الأصيلة وساهمت، إلى جانب ترباتها من الفنّانات وعلى رأسهنّ المطربة نعمة (1936-2020)، في التعريف بالأغنية التونسيّة خارج أرض الوطن وفي بلاد النيل، حيث اختارت الاستقرار، وكانت من بين النّساء التونسيّات اللاّتي تحدّين التقاليد المتحجّـرة التي لم تكن تسمح لهنّ بممارسة الفنون، فخطّت اسمها بحروف من ذهب في تاريخ الموسيقى التونسيّة المعاصرة.
فـتـحـي زغـنـدة
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية