هي رشيدة، وتدعى رفيقة، بنت سالم بن علي الجربي. وهي البنت الوحيدة لوالدتها محرزيّة بن الحاج يوسف. كان والدها أصيل مدينة صفاقس يعمل حلاّقا بالمدينة العتيقة بسوسة وكان مُغرما بالموسيقى يعزف على خمس آلات موسيقية وهي: القانون والعود والكمان والإيقاع والبيانو. وقد ورثت رشيدة هذا البيانو عن والديها وهو لا يزال يؤثُث مكتب ابنها عماد إلى غاية اليوم رغم مرور أكثر من 150 سنة عن صنعه.
وُلدت رشيدة الجربي الشتيوي يوم 17 جانفي 1934 بمنزل والديها بالمدينة العتيقة بسوسة وزاولت تعليمها الابتدائي بالمدرسة الفرنسية – العربية والثانوي إلى غاية المرحلة الأولى منه بمعهد الفتيات بسوسة.
تعلّمت الموسيقى والعزف على أربع آلات، وهي العود والبيانو والكمان والإيقاع وارثة هذه الهواية عن والدها فشغفت بالموسيقى وقرّرت التخصّص فيها.
وبعد زواجها سنة 1954 من السيّد الطاهر الشتيوي استقرّت بسوسة، أولا بحيّ التروكاديرو (قرب الكنيسة) ثمّ بباب البحر (ساحة فرحات حشّاد) ثمّ بنهج محي الدين القليبي (بحيّ جوهرة). وإثر إنجابها لأبنائها الأربعة، قرّرت دراسة الموسيقى والتخصّص فيها. لذا توجّهت في ربيع سنة 1968 إلى تونس العاصمة لمقابلة الدكتور صالح المهدي الذي كان يعرف والدها سالم الجربي منذ سنوات لاستشارته حول دراسة الموسيقى فقال لها: «هل تعزفين؟ «فأجابت: «أعزف على ثلاث آلات يا دكتور». ففرح بذلك كثيرا وأمرها بالترسيم في المعهد الوطني للموسيقى والرقص بتونس العاصمة، وهو ما حصل فعلا حيث عادت إلى مقاعد الدراسة بهذه المؤسّسة.
وفي أكتوبر 1968 فتح هذا المعهد فرعين له بكلّ من صفاقس وسوسة وتحديدا بدار الشعب القديمة قبل أن ينتقل إلى مقرّه الحالي وراء حديقة بوجعفر سنة 1975، وتجنّبا للتنقل بين سوسة وتونس في نهاية كل أسبوع، طلبت نقلتها إلى المعهد الجهوي بسوسة وواظبت على الحضور واجتياز الامتحانات للحصول على الديبلوم.
ورغم مشاغل العائلة والبيت تشبّثت السيّدة رشيدة الشتيوي بمواصلة الدراسة بالمعهد الجهوي للموسيقى والرقص بسوسة (وهو المعهد الوحيد بجهتي الوسط والساحل حينئذ). وكانت مدّة الدراسة به تمتدّ على أربع سنوات. و بعد سنتين فقط من الدراسة أصبحت تكتب وتقرأ النوتة الموسيقية وتعزف كلّ المقامات والأوزان وتنشد كلّ نوبات المالوف التونسي والأغاني المدرجة في البرنامج الرسمي لمعاهد الموسيقى بتونس آنذاك.
وبما أنّ الاختبارات الشفويّة والتطبيقيّة لتلاميذ معهدي سوسة وصفاقس كانت تتمّ في تلك الفترة بالمعهد الوطني للموسيقى والرقص بالعاصمة، فقد شاءت الصدف أن يجرى لها الدكتور صالح المهدي (زرياب) نفسه الاختبار الشفوي واختبار العزف على آلة موسيقية ويعلن شخصيّا عن نجاحها في ديبلوم الموسيقى العربيّة في دورة جوان 1970.
وقبل مغادرتها المعهد استدعاها ليقترح عليها الالتحاق بالتعليم بعد أن تقرّر بعد جلسات عمل بين وزارتي التربية القوميّة والثقافة إدراج مادة الموسيقى في المرحلة الأولى من التعليم الثانوي بجميع معاهد الجمهوريّة فوافقت في الحين دون تردّد. لذا طلب منها إيداع ملفّ ترشّحها لهذه الخطّة بمقرّ وزارة التربية في أقرب وقت ممكن وهو ما حصل بعد تسلّمها لديبلوم المعهد.
وفي غرّة سبتمبر 1970 تلقت من وزارة التربية القوميّة برقيّة تقضي بتعيينها مدرّبة موسيقى بالمعهد الفنّي بسوسة. غير أنّها لم تكتف بهذا الديبلوم، بل قرّرت مواصلة دراسة الموسيقى بمفردها والعزف على جميع الآلات بمساعدة بعض الأساتذة المختصيّن بمدينة سوسة وفي مقدّمتهم أستاذاها بالمعهد الجهوي للموسيقى بسوسة، محمود القزّاح والحبيب الرايس...
وبعد سنة من التدريس بهذا المعهد انتقلت إلى الفرع المختلط لمعهد الذكور بسوسة (L’annexe du Lycée de Garçons de Sousse) الكائن بباب الجديد.
وأمام تحفّظ بعض الأولياء بالمعهد الثانوي للفتيات بسوسة على تدريس بناتهم الموسيقى من طرف أساتذة رجال، انتُدبت رشيدة في سنة 1972 معلّمة موسيقى بهذا المعهد العريق (تأسّس سنة 1949). وفي سنة 1990 وبعد مناظرات داخليّة للارتقاء المهنيّ أصبحت أستاذة تربية فنّية وبقيت تدرّس وتنشّط نادي الموسيقى بهذه المؤسّسة إلى حين خروجها على شرف المهنة سنة 1994. وبهذا المعهد وبالمعهدين السابقين وفي إطار الشبيبة المدرسية، كانت تشرف عشيّة كلّ جمعة على نادي الموسيقى لتعليم العزف على الآلات والإنشاد الموسيقي. وقد تخرّجت من هذه النوادي أجيال من العازفات والمنشدات، اختصّ الكثير منهنّ في الحقل الموسيقي على غرار: التلميذة خديجة العفريت (ابنة المرحوم العزّام العفريت التي تخرّجت دكتورة من السربون في الموسيقى في اختصاص آلة القانون وأصبحت تدرّس بالمعهد العالي للموسيقى بسوسة) ومنشدين ومنشدات، نذكر من بينهم التلميذة صوفيّة صادق... الخ.
كما نشطت منذ الصغر بالكشافة التونسية «فوج سوسة المدينة» ضمن الفرقة الموسيقية للكشافة الجهويّة مع السيّد نذير الطريطر واستأنفت نشاطها ضمن نفس الفوج بعد إحالتها على التّقاعد بتأطير ومرافقة الكشافين الجدد في أنشطتهم الثقافية وخاصّة الموسيقية منها والإعداد للاجتماعات والملتقيات الكشفيّة المحلّية والجهويّة والوطنيّة لفوج سوسة المدينة.
في جويلية 1976 وعلى إثر إبرام توأمة بين مدينتي سوسة و«نيس» (Nice) الفرنسية، تولّى رئيس اللجنة الثقافيّة الجهويّة بسوسة الحاج عبد الحفيظ بوراوي منذ إحداث كتابة الدولة للثقافة والإعلام سنة 1961، دعوة فرقة ماجورات مدينة «نيس» للمشاركة في استعراض أوسّو بسوسة. وأمام إعجاب الجمهور والمسؤولين بأداء هذه الفرقة طلب من رئيستها السيدة «كانيون» (Cagnion) تكوين فرقة مماثلة بمدينة سوسة. وبعد تدريبات واستعدادات، رأت هذه الفرقة الموسيقيّة النحاسيّة والاستعراضيّة النسائيّة المحلّية (ماجورات سوسة) النور في شهر جويلية 1978 وقدّمت أولى عروضها أمام الجمهور بمناسبة استعراض أوسّو يوم 24 جويلية 1978.
وبشهادة الكثير من بنات ذاك الجيل فتح هذا المولود الفنّي الجديد باب «تحرّر» البنت الساحليّة ودخولها الحقل الفنّي ومشاركتها في شتّى مجالات الإبداع الثقافي بمختلف ضروبه، بعد أن مهّدت له عديد الفرق الموسيقيّة النسائية (الحْضَارِي) بجهة الساحل عامّة وبكل من سوسة والمنستير بصفة خاصة.
وأمام تنامي عدد الفتيات بهذه الجمعية تمّ منذ سنة 1980 الالتجاء إلى الأستاذة رشيدة الشتيوي للإحاطة بهنّ وتعليمهنّ العزف على الآلات النحاسية والاستعراض برتبة «مسؤول مرافق» فكانت بذلك مع ثلّة من المسؤولين الجهويّين من الأعضاء المؤسّسين لماجورات سوسة.
واتّخذت هذه الفرقة من الطابق السفلي للمعهد الجهوي للموسيقى بسوسة مقرّا للقيام بتدريباتها في نهاية الأسبوع. وقد حقّقت إشعاعا منقطع النظير حيث نسجت على منوالها مدن أخرى بالجهة مثل «ماجورات قصر هلال» في خريف سنة 1978 وبداخل البلاد لاحقا.
هذا وقد تواصل نشاط السيّدة رشيدة الشتيوي بهذه الفرقة لسنوات عديدة حتى بعد خروجها إلى التقاعد.
كما كانت تعيب على خريجي المعاهد العليا للموسيقى جهلهم العزف على الآلات قائلة: «... أستغرب كيف لطالب يتخرّج من المعهد العالي للموسيقى يدرس سنوات دون أن يتعلّم العزف على أي آلة هذا شيء لم يقبله عقلي...!»
في 15 ديسمبر 2006 وتقديرا لما قدّمته الأستاذة رشيدة الشتيوي للقطاع الثقافي بالجهة وللقطاع الموسيقي تحديدا، قامت مديرة المعهد الجهوي للموسيقى بسوسة، السيّدة منى عمّاري – شلّوف بتكريمها وسط حضور لأفراد عائلتها وزملائها وتلاميذها القدامى من خرّيجي المعهد.
وفي 17 ماي سنة 2010 وبمناسبة المهرجان الموسيقي بسوسة «حنين» الذي ترأسه الإعلامي وليد بسباس وبمساعدة الأستاذة نجاة عيّاد النابلي (المكلفة بالأنشطة الثقافية ببلدية سوسة)، تمّ تكريم الأستاذة رشيدة الشتيوي مع كل من الفنان العزّام العفريت الذي كوّن عديد الموسيقيين بالجهة وأدار العديد من التظاهرات الثقافية و السيدة رقيّة التومي أوّل سائقة حافلة في تونس (بشركة النقل بالساحل) والعالم العربي منذ 1976.
وبمناسبة الذكرى 61 لاستقلال تونس، تولّى رئيس الفرع الجهوي لمنظمة التربية والأسرة بسوسة توجيه دعوة لعدد من المربّين والمربّيات القدامى المحالين على شرف المهنة لتكريمهم في أحد نزل المدينة وذلك يوم 25 مارس 2017، كانت في مقدّمتهم الأستاذة رشيدة الشتيوي التي حضرت الحفل مع أفراد عائلتها وزملائها القدامى.
توفيّت الأستاذة رشيدة الجربي- الشتيوي يوم 02 مارس 2020 ودفنت في اليوم الموالي بالمقبرة القبلية بسوسة (طريق المنستير). وقد تركت أربعة أبناء هم: علي (أستاذ تربية بدنيّة متقاعد ورئيس جمعيّة خريجي المعهد العالي للرياضة بقصر السعيد ورئيس رابطة الوسط والساحل لرياضة المعوقين) وحمادي (أستاذ تربية بدنية ولاعب ومدرّب سابق لكرة السلّة بالولايات المتحدة، مقيم حاليا بباريس) وعماد الدين (درّس التربية البدنيّة وهو حاليا صاحب وكالة عقاريّة بسوسة) ونادية (موظفة سامية بجامعة الدول العربية، مقيمة حاليا بجنيف).
كما تولّت المرحومة كفالة البنت ثريّا الغربي منذ سنّ الرابعة فربّتها ودرّستها وعلّمتها الموسيقى والعزف على جميع الآلات الموسيقية مع الاختصاص في آلة البيانو لتصبح معلّمة موسيقى بمدرسة الأخوات بسوسة.
عادل بن يوسف
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية