ولدت راضية بلخوجة في 13 أوت 1933 في أسرة عريقة في الانتماء إلى الثقافة الدينيّة (الزيتونيّة) متحدّرة من أصول تركيّة. ذلك أنّ جدّها الأعلى محمّد بلخوجة كان يمارس مهامّ شيخ الإسلام كما كان جدّها البشير بلخوجة شيخا بجامع الزيتونة، وتزوّج من خديجة داود ورُزق منها خمسة أولاد من بينهم الصادق، والد راضية.
ولم تكن تربية الصادق مطابقة لتربية آبائه وأجداده بل شكّلت منعرجا تاريخيّا إذ تمّ تسجيله بالمدرسة الصادقيّة فأصبح توارث المعرفة يتمّ – منذ تلك اللحظة وللمرّة الأولى – خارج الجامع الأعظم بما فتح الباب لمسارات مهنيّة جديدة، في علاقة بالتنظيم الإداري الجديد الذي فرضه النظام الاستعماري. فما أن أنهى الصادق تعليمه حتّى تمّ تعيينه نائب رئيس لدائرة المحاسبات، وقد كان رئيسها فرنسيّا بالضرورة، فوقع إدماجه من ثمّ ضمن الإدارة «العصريّة».
لم يُرزق الصادق من زواجه الأوّل أبناء فتزوّج مجدّدا من سعيدة بنت خديجة ريدان، أصيلة قليبية وعبد السلام آيت ملاّل وهو من أصل مغربي. كان عمر الصادق يناهز الستّين بينما لم تكن سنّ زوجته الجديدة يتجاوز العشرين.
غير أن زواجهما كان – بالرغم من هذا الفارق العمري – من أسعد ما يكون وأنجبت له منه خمس بنات : فاطمة وأسماء (وهي المناضلة المعروفة وزوجة المناضل عزّوز الرباعي) وسعيدة – آمنة وراضية وسعاد. وقد نعمت البنات بطفولة سعيدة بفضل تدليل أبيهنّ إلى أن توفيّ الأب بحادث تمثّل في دهس سيّارة عسكريّة له أثناء الاحتلال الألماني عام 1943 وكان عمر راضية وقتها عشر سنوات، فكان على أمّها – وهي أرملة شابّة – أن تتحمّل مسؤوليّة القيام على تربية بناتها الخمس بشجاعة ونجاعة مثلما يشهد به مسار حياة راضية.
تلقّت راضية وأخواتها، على عادة الفتيات المتحدّرات من أسر برجوازيّة، تعليمهنّ في المنزل : كان لهنّ مؤدّب – هو سيدي الطيّب الأكحل – يدرّسهن اللغة العربيّة والقرآن الكريم – وكانت الآنسة لامبروزو Mlle Lambroso) -) تعلّمهنّ الفرنسيّة. وبعد الحرب قرّرت الأمّ أن تسجّل بناتها بالمدرسة العموميّة وأن تضمن لهنّ تكوينا عصريّا بحيث لا يمكننا إلاّ أن ننوّه بالدّور الذي قامت به هذه الأم التي تجرّأت على القطع مع القيم المحافظة التي كانت تصدر عنها عائلة زوجها ولم تفتأ تشجّع بناتها على السّير في طريق التقدّم، يدلّ على ذلك توجيهها لابنتها أسماء بلخوجة في انخراطها في الحركة الوطنيّة ودعمها لها عندما ألقي عليها القبض أثناء نضالها العملي. وقد اصطدم تسجيل البنات الكبار الثلاث بحاجز السنّ. ولنفس السبب تمّ قبول راضية في مدرسة مهنيّة فلم تنعم بالدخول إلى المدرسة الابتدائية إلاّ البنت الصغرى. غير أنّ راضية قد تمكّنت – بعد مضيّ بضعة أشهر واجتياز اختبار في المستوى – من الالتحاق بالمدرسة الابتدائيّة هي الأخرى ثمّ نجحت في مناظرة ختم التعليم الابتدائي عام 1949.
أما بالنسبة إلى التعليم الثانوي فقد وقع الاختيار على إعداديّة لويز روني ميلي (Louise René Millet) دار الباشا كما يحلو للنّاس أن يسمّوها، بسبب النظام الصادقي، وهذا بالرغم من التنقّل اليومي بين حمّام الأنف ونهج الباشا. ولقد كانت المؤسّسة في مستوى الشهرة التي تحظى بها : تعليم مزدوج اللغة متين جدّا، ومدرّسون ممتازون يجمعون بين الكفاءة والوطنيّة. وقد كانت راضية تقدّس أساتذتها، وكان منهم عبد الوهّاب بكير وأحمد بن عبد السّلام والشادلي بلقاضي وسعاد بوغنيم وآسيا نويرة ومنجيّة مبروك... وتدين لهم بحبّها للوطن واللغة العربيّة.
وعلى إثر حصول راضية على الجزء الأوّل من الباكالوريا بمعهد دار الباشا وعلى الجزء الثاني منها – تخصّص الفلسفة – معهد آرمون فاليار (Armand Fallières)، معهد نهج روسيا حاليّا، التحقت بكتابة الدولة للإعلام واختارت أن تواصل دراستها العليا بمجال الصحافة، وقد شجّعها على ذلك إمكانيّة الحصول على منحة تهديها الدولة إلى الطلاّب، فكانت أوّل تونسيّة تختار دراستها الجامعيّة في تخصّص الصحافة كما كانت من بين قلّة قليلة غادرن البلد لمواصلة الدراسة بباريس. وبعد سنتين من التكوين وتربّص ميداني في التوثيق الفرنسي اختارت أن تتخصّص في التوثيق وقضّت سنة بمدرسة الفنون والحرف من أجل استكمال مسارها الدراسي.
لم يكن الطلاّب – خلال السنوات الأولى من الاستقلال – يجدون أيّ صعوبة في تحصيل الشغل لأنّ البلد كان في طور بناء وكان في حاجة إلى موظّفين يشغلون المراكز التي ظلّت شاغرة برحيل الفرنسيين. ولهذا فقد دعيت راضية فور عودتها من قبل السيّد الشاذلي القليبي، كاتب الدولة للإعلام والثقافة، إلى إنشاء مصلحة التوثيق التي تحتاجها الإدارة والتي ستصبح في ما بعد المركز الوطني للتوثيق.
عام 1963 اشتغلت السيدة راضية بالنشر، ضمن الشركة التونسيّة للتوزيع التي كان يديرها السيّد عزّوز الرباعي، وتحمّلت بالخصوص مسؤوليّة طبع الكتاب المدرسي. وعام 1970 عُيّن السيّد محمد بن إسماعيل مديرا للإذاعة والتلفزة فدعاها إلى تنظيم أرشيف هذه المؤسسة، وكانت النتيجة مركزا مختصّا في معالجة الوثائق المكتوبة، فضلا عن التسجيلات والأفلام. وبعد مرور عابر بالإدارة العامّة للتنمية الجهويّة، ختمت مسارها المهني بالمعهد العربي لحقوق الإنسان بإشراف السيّد حسيب بن عمّار. وعلاوة على ذلك فقذ خصّصت السيّدة راضية شيئا من وقتها لخدمة اختصاصها، وذلك في إطار الجمعيّة التونسيّة للموثّقين والكتبيّين وأهل الأرشيف، وقد شغلت فيها مرتين خطّة رئيسة مكتبها التنفيذي.
عاشت راضية في حمّام الأنف، وقد كانت معقلا من معاقل الوطنيّة، احتلّت المرأة فيها مكانا من الحياة العامّة بفضل العمل الذي قامت به بشيرة بن مراد مؤسّسة أوّل جمعيّة نسائيّة سنة 1936. وقد انخرطت في هذه الجمعيّة فتيات كثيرات مثل بنات بلاّغة وبنات دعلول وبنات بلخوجة ولاسيما أسماء (التي أصبحت فيما بعد زوجة عزّوز الرباعي). وعرفت بنشاطها السياسي الذي خالفت به رغبة البعض من أفراد أسرتها. ومن ثمّ كانت سبيل السياسة مرسومة لراضية، فكان أن أقبلت على الحياة السياسيّة وانطلقت فيها غير عابئة بالمحاذير، فاتحة الباب على الاختلاط فاندمجت في فريق من الشباب كان قد ربط الصلات بين تلاميذ المعاهد العصريّة والطلاّب الزيتونيّين وتسمّى بـ «اللّجنة المؤقتة السريّة لتلاميذ وطلبة تونس، وكان ذلك يوم 16 مارس 1952. وسوف يشكّل هذا الفريق فيما بعد أوّل نواة للاتحاد العام لطلبة تونس. وقد كانت لهذا الفريق لقاءات وأنشطة سريّة هدفها نشر الوعي الوطني في صفوف الشباب التلمذي (في المدن الكبرى) وطلاّب الزيتونة وفروعها.
وقد كانت راضية، من ناحية أخرى، العنصر المحرّك لفريق آخر مكوّن من «الباشيّات» (تلميذات دار الباشا) المتحمّسات للنّضال السياسي. وهو فريق تشكّل في أثناء لقاءات الغداء بين تليمذات المعهد وتعزّز بتلميذات من حمّام الأنف من أمثال نفيسة بلغيث وعائشة الرياحي ودليلة بالوحشيّة، ثمّ بأخريات من القاطنات قريبا من المعهد مثل وداد وراضية جوادة ونايلة الأخوة وفريدة كامل... ولا يخفى ما يمكن لمثل هذه اللقاءات أن تبعثه في هذا الجيل من الفتيات المتطلّعات إلى العلم والحريّة الطافحات بالحماسة والوطنيّة. ولهذا فإنّ كثيرات منهنّ قد شاركن في الأحداث الكبرى التي اهتزّت لها مدينة تونس عام 1952 : ويكفي أن نذكّر هنا بالمظاهرة الطلابيّة الكبرى التي انطلقت من زاوية سيدي إبراهيم يوم 26 فيفري وانتهت بإيقافات في صفوف التلاميذ من بينهن (Louise René Millet). وقد كان من بين الموقوفات ليليا تاج، وهي من الفريق المذكور وكانت أسماء الأختين راضية وسعاد بلخوجة ونايلة الآخوة ضمن قائمة «الزعيمات» أثناء أحداث الشغب والإضراب التي جدّت بالمعهد يومي 18 و 19 مارس وداهمت خلالها الشرطة حرم المعهد وتسبّبت للتلميذات المذكورات في عدّة أيّام من الرفت.
غداة الاستقلال بدأت الفتيات التونسيّات يخرجن شيئا فشيئا من البوتقة العائليّة كي يشاركن في أنشطة كانت – حتّى ذلك التاريخ – محظورة على النساء : نعني بالخصوص المصائف والجولات والكشّافة. وقد كان الدكتور الصادق المقدّم جارا لعائلة بلخوجة وكان رئيسا للمصائف الإسلاميّة فدعا أمّ راضية إلى أن تأذن لبناتها في المشاركة فيها فالتحقت راضية بمصيف بعين دراهم كانت مديرته السيّدة خديجة بن مصطفى وأمينة المال السيّدة حليمة عطيّة وكانت كلتاهما مشاركة إلى أن جانب زوجها (سليم بن مصطفى وعبد المجيد عطيّة) في الأنشطة الكشفيّة : هذه العلاقة هي التي سمحت للأختين راضية وسعاد بلخوجة بالانخراط في الحركة الكشفيّة، وكان هذا طبعا بموافقة من أمّهما ودون علم سائر العائلة.
وقد نشأ فريق من الفتيات وانتظم أوّل لقاء كشفي لفائدتهنّ ببئر الباي، وانتعشت الحركة – التي كانت السلطة الاستعماريّة قد أوقفتها من قبل – فعادت بقوّة غداة الاستقلال، ناهيك أنّه لمّا أرسى الحبيب بورقيبة بحلق الوادي، يوم غرّة جوان 1955 كانت الكشّافة حاضرة وسط هتافات عالية وأفراح عارمة يعسر وصفها. وعلى إثر ذلك تمّ انتخاب راضية، وكذلك فاطمة بوخريص – خلال مؤتمر انتظم ببئر الباي – ضمن القيادة العامّة، فجالت في كلّ أنحاء البلد للتعريف بالعمل الكشفي لدى الفتيات وإنشاء فروع له في كل منطقة. غير أنّ التجربة الفريدة التي ظلّت راضية محتفظة بها لنفسها هي المخيّم الأوّل الذي نظّمته 36 قائدة – تحت إشرافها ودون حضور أو مساعدة لأيّ قائد – والذي انعقد بغابة عين دراهم، غير بعيد من فيلق الجيش الفرنسي، وحيّى نجاحه الجميع.
وفي إطار النشاط الكشفي شاركت راضية في الملتقى العربي المختلط الذّي انتظم عام 1956 بأبو قير (إحدى ضواحي الإسكندريّة) وشاءت الصدف أن تشهد، خلال إقامتها هناك، حدثا تاريخيّا كبيرا ذا بُعد دولي هو إعلان الرئيس جمال عبد الناصر عن تأميم قناة السويس في خطاب يوم مشهود ووسط حشد بشري هائل.
وفي العام الموالي شاركت راضية بلخوجة في المهرجان العالمي للشباب بموسكو. وعند عودتها في 24 جويلية 1957 فوجئت – عند نزولها من القطار ومن خلال اللاّفتات التي رُفعت – بأنّ اسم بلدها قد أصبح «الجمهوريّة التونسيّة» بدل «إيالة تونس».
جميلة بينوس
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية