ولدت رفيعة برنار في مدينة تونس يوم 2 سبتمبر 1922 بحي سوق الـمَرّ، ونشأت في وسط مرح، وكان أبوها جيلاني برناز، وهو عون بمصلحة التسجيل المالي بمكثر ثم بتبرسق قبل الحصول على وظيفة في تونس سنة 1919، قد سجّلها سنة 1927 نصف مقيمة بمدرسة نهج روسيا حيث تابعت دروسها الابتدائية حتّى حصولها على شهادة ختم الدروس. وواصلت دراستها في «معهد الأخوات البيض» بقرطاج.
كانت تلميذة جدّية نجحت في امتحان السادسة وواصلت المرحلة الثانية من تعليمها في معهد أرمان فاليار Armand Fallières، وبالاطلاع على سجّل أعدادها كانت تشكّل بالنسبة إلى رفيقاتها المثَل الأعلى الذي يُحتذى، ولم يكن هناك ما يهيّئ هذه التلميذة النجيبة المثالية وهذه المراهقة المبتهجة المنشرحة لأن تعيش ما سوف تعيش من تقلّبات. وفي هذه السنوات الأربعين لم تكن رفيعة تفكر إلاّ في اللعب والرقص والمزاح مع هذه أو تلك من لداتها. وكانت تجهل كلّ ما يتعلّق بالوضعيّة السياسيّة لبلدها الذي بدأ في الغليان. وبالفعل كان المثقفون التونسيّون بحكم استيائهم من عدم انتدابهم في السلك الإداري بالإيالة قد أبرزوا أفكارهم وعبروا عن آرائهم في «الحلقة التونسيّة» (Le cercle Tunisien) التي تأسّست سنة 1907 ثمّ في أوّل جريدة باللسان الفرنسي وعنوانها «التونسي Le Tunisien (وهي جريدة أسبوعيّة للمحلّيين) حيث تصاعدت اللّهجة العنيفة وصولا إلى أحداث الجلاّز سنة 1911 وانتشر التوتّر إلى أن بلغ الجنوب التّونسي في 1915-1916 وتحوّل حزب «الشّباب التونسي» سنة 1919 إلى «الحزب التونسي». وفي جوان 1920 تحول «الحزب التونسي» إلى «الحزب الحرّ الدستوري التونسي» واندمج في الحياة السياسية، وانشقّت مجموعة من الشباب المثقّف عن الحزب وعقدت مؤتمرا بقصر هلال انبثق عنه فصيل حزبي جديد : «الحزب الحرّ الدستوري الجديد».
في الفترة الموافقة لسنة 1937 كانت رفيعة في قسمها الرابع التلميذة التُّونِسِيَّةُ المسلمة الوحيدة. وكانت تجلب إعجاب بقية التلميذات بهيئتها وبكل ما يميّزها من غيرها. ثم إنّها واجهت وضعيّات وحركات وأقوالا دفعتها إلى أن تعي حال الظلم التي كان يعيش فيها وطنها مع مظاهر الخزي والإذلال، ممّا ولّد لديها الإحساس بالسخط والنقمة على سلوك الميز العنصري الذي خدش إحساسها في أعمق أعماقها وجعلها تتغيّر تماما. ولإظهار سخطها لم تعد تمتثل لأحد، ولا تتكلم إلا عندما تريد أن تبرز أو تقاوم، ولم تعد تشارك في القسم وانتهت إلى أن أصبحت تلميذة سيئة السلوك. وهذا التمرّد في سلوكها تسبّب في طردها من المعهد وأجبرها على الانقطاع عن التعليم قبيل الحرب العالمية الثّانية.
واحتدّ شعورها الوطني رافضة قبول السيطرة فواجهت بكلّ قوة من اغتصب سيادة وطنها وسمح لنفسه بالسخرية منه واحتقاره. وبسلوكها العفوي الكامل وغير المشروط أخذت فكرة الانخراط في المقاومة طريقها إلى ذهنها، وواصلت سيرها فلم يكن هناك ما يدعو إلى التوقف لا سيما وقد قرّرت تبنّي قضيّة وطنها والمساهمة في المقاومة الوطنية ضدّ المحتلّ. واستمرت في هذا الدرب حتّى استقلال تونس في 1956.
بدأت رفيعة نضالها في المدرسة الكائنة بنهج عنق الجمل، المكان الذي اختارته بحكم موقعه في مدينة تونس بعيدا عن الأنظار وصالحا للقاءات السرّية. وفي هذا المكان أخذت تحرّض الطلبة على الخروج والتظاهر في الشارع. وتمثل نضالها في سنوات 1950 أيضا في تبليغ الرسائل وخاصّة ما يتعلق بالبرامج التي يعهد بها الحبيب بورقيبة إليها، وقد قابلته سرّا في منزله الكائن ببطحاء رحبة الغنم (معقل الزعيم حاليّا) وكان بورقيبة يطلعها على زياراته ولقاءاته وتحرّكاته المقبلة وهي تتولّى تبليغ ذلك كلّه للمناضلين. وعندما نُفي بورقيبة في ماي 1952 إلى طبرقة ثمّ إلى جزيرة جالطة طوال سنتين واصلت رفيعة مهمّتها المتمثلة في تبليغ رسائله. وكان يرسل إليها بتوجيهاته وأوامره الكتابية بواسطة صاحب زورق يبلّغها إليها، فتقوم هي بدورها بحملها وتوزيعها على مكاتب الحزب الدستوري. وواصلت رفيعة في نفس الوقت مواكبة الاجتماعات السياسية التي كانت تُعقد إمّا في نهج التريبونال أو في مكتب المحامي الحبيب بورقيبة بباب سويقة.
وكانت من ناحية أخرى تحمل سرّا في الحقائب اليدويّة والقفاف قنابل تقليديّة الصنع تسلّمها إلى الطلبة المحصّنين في الزوايا والمساجد والحمّامات التي لا يمكن للجندرمة الفرنسيّة أن تقتحمها كما كانت تزور القادة والزعماء في سجونهم، ممّا حدا بفرحات حشاد إلى القول «إنّها لتمثل في نظري تونس».
وعلى المستوى الاجتماعي أسهمت رفيعة في تحقيق عدد من الإنجازات إذ كانت تتنقّل في شاحنة من مكان إلى آخر تجمع المال لفائدة القضيّة الوطنية وتسلّمه إلى الأميرة زكيّة ابنة الأمين باي، وكانتا قد تعارفتا منذ أن كانتا تلميذتين في «معهد الأخوات البيض» بقرطاج وأصبحتا منذ ذلك الوقت صديقتين متلازمتين: كانت كلّ منهم وطنيّة وملتزمة بالنّضال ولمّا كانت الأميرة ابنة الباي فإنّها لا تستطيع أن تتحرك في العلانية للمساهمة في تحرير البلاد فأصبحت رفيعة سكرتيرتها الخاصة وكانت تمثل غطاء لها في مستوى التصرف فضلا عن أنها كانت تعمل بأوامرها، وهو ما جلب لهما شكوك السلطة الاستعماريّة وتحقيقاتها، ولم تنج رفيعة بالطبع من هذه التحقيقات والتحريات مما قادها إلى الإيقاف والاعتقال يوم 30 أفريل سنة 1952. وفي الفجر تمّ نقلها إلى السجن المدني بتونس بتهمة إخفاء أسلحة، وتقاسمت غرفة الإيقاف بالجناح ف F مع ستة آخرين من الموقوفين السياسيين وبقيت هناك إلى حدود 1 ماي 1954، وكانت محاكمتها قد بدأت في بداية شهر أفريل سنة 1954 في المحكمة العسكريّة بتونس، واستمرّت هذه المحاكمة ثلاثين يوما. وكانت الصحف تغطي الحدث بعناوين بارزة مثل : «السكرتيرة الخاصة للأميرة زكية» أو «الزعيمة الأرستقراطيّة».
وفي غضون شهر وبفضل مرافعات ساخنة وصاخبة تمّت تبرئة رفيعة وتحريرها في غرة ماي 1954 تحت الزغاريد والتصفيق المنبعث من القاعة وعند خروجها من المحكمة كانت في انتظارها لجنة مساندة تردّد نشيد الثورة.
وبعد أن غادرت رفيعة برناز السجن استأنفت عملها مرشدة اجتماعية بمستشفى طبّ العيون بتونس حيث تعرّفت على الدكتور عبد الحميد الباجي، وقد كان يزورها كلّ يوم في المحكمة لمؤازرتها وليتابع محاكمتها ويقرأ لها الجرائد التي تسهب في نقل الأحداث. وتمّ زواجهما مباشرة بعد إطلاق سراحها. وقد انتظم الحفل في 21 جويلية 1955 بقاعة الاحتفالات بحلق الوادي. وكانت القاعة مزينة بالأكاليل والأعلام التونسيّة وصور الزعماء : فرحات حشاد والهادي شاكر وصالح بن يوسف وغيرهم، ودخلت رفيعة القاعة وهي عروس متلفّعة بالعلم التونسي وكان جميع مرافقيها في النضال حاضرين.
وكلّل زواجها السعيد بأن رزقت ثلاثة أبناء هم: منية (1956) ومحمد (1957) وماجد (1959). وكان زوجها الدكتور عبد الحميد الباحي يرعى شؤون الأسرة ثمّ وافاه الأجل في مارس 1962 فتوفّي تاركا ثلاثة يتامى في عمر 4 و 6 سنوات وسنتين.
وانخرطت رفيعة في جهاد آخر تمثّل في تربية صغارها وتعليمهم وتكوينهم تكوينا متينا. ووجدت نفسها تواجه مصاعب مالية وهي التي لا تملك إلا جراية عملها كمرشدة اجتماعية، فكاتبت وسيلة بورقيبة طالبة مساعدة ماليّة من الدولة جزاء ما قامت بهِ من أجل تحرير بلادها فأجابها علاّلة العويتي، الكاتب الخاصّ للرئيس عندما قابلته، بأنّها ليست في حاجة إلى هذه المعونة، قائلا لها «إنّ نضالك كان واجبا تجاه وطنك فلا تنتظري شيئا من وراء ذلك».
وبعد مدّة طويلة، عندما دعاها الرئيس بن علي إلى قصر قرطاج وسألها عن حالها أجابته بكلّ فخر قائلة : «عندي ثلاثة أبناء سهرت على تنشئتهم بفضل عملي : منية صيدلانيّة ومحمد أستاذ جامعي في الكيمياء وماجد طبيب في الأمراض الصدرية ورئيس قسم». فمنحها الرئيس بن علي جراية ب : 170 دينارا.
وقد وقع توسيم رفيعة برناز ثلاث مرّات : مرة من لدن الرئيس الحبيب بورقيبة سنة 1970 ومرتين من قبل الرئيس زين العابدين بن علي: ففي 13 أوت 1989 قلّدها وسام الجمهوريّة والاستقلال ثم وقع توسيمها من جديد عام 1991 وتعيينها عضوا بـ «مجلس المقاومين وكبار المنضلين».
فارقت رفيعة الحياة في شقتها الكائنة بحي المنار بتونس في 26 سبتمبر 2011 .
علياء برناز (بكّار)
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية