رجاء بن عمّار فنّانة مسرحيّة شاملة (ممثّلة-راقصة، ومخرجة ومؤلّفة عروض فنّيّة) تحتلّ موقِعًا لا يُنْكَرُ في الحياة المسرحيّة التونسيّة بمـُخْتَلَف مُكَوِّناتها. ولعلَّنا لا نُجانب الصّوابَ إذا ما رأيْنا فيها صورةً لجيلٍ من أجيال تونس الحديثة، عامّةً، ولصِنْفٍ من النّساء التونسيّات فيه، خاصَّةً. ولقد تجلّى ذلك في انشغالها عميقًا، وهي تمارِسُ فنَّها الذي مثّل كلَّ حياتِها، بِما كان يحصُل في البلاد، من ناحية، وفي انفتاحها في الآن ذاته، من ناحية أخرى، على ما كان يَجِدُّ في العالم في مجال المسرح وفنون العرض من مُنجزات وفي سَعْيِها إلى استيعابها استيعابًا خلاّقًا. ولئن كان للمدرسة العموميّة التونسيّة وامتداداتها وللتحوّلات التي عَرِفَتْها البلادُ، منذ الاستقلال، ما قد يُفَسّر أبعادًا هامّة في ميزات رجاء بن عمّار، فإنّ للمسار الشخصيّ الذّاتيّ، كذلك، أَثَرًا فيها، لا يُمكِن طمسُه، خاصّة إذا ما انتبهنا إلى بعض المنعرجات التي قامت فيه.
لقد تمثّل المنعرج الأوّل في انقطاعها بصورة اختياريّة عن مواصلة دراستها في مدرسة الترشيح العليا وارتباطها برفيق حياتها المسرحي المنصف الصّايم لإقامة مشروع مسرحيّ استمرّ إلى آخر يوم من حياتها.
أمّا المنعرج الثاني فتمثّل في اكتشافها لعوالم المسرح وفنون الفرجة في ألمانيا من خلال مُعايشتها لها في مناسبتين الأولى عند التحاقها بِإحدى جامعات مدينة ميونِخ München والبقاءِ فيها، مُدّةً ناهزت السنة (1975-1976) والثانية الستّة أشهر (1991) بدعوة من فرع ألمانيا للمعهد الدولي للمسرح.
ولا تكادُ تُخفي رجاء بن عمّار الأثرَ البالِغَ الذي تركته فيها مُعايشتُها للحياة المسرحية الألمانية في هاتين المُناسَبَتيْن، وهذا بيِّنٌ في الحَيِّزِ الذي خَصَّتْهُما به في ما دوّنته في سيرتِها الذّاتيّة المكتوبة باللغة الفرنسيّة (والممتدّة على صفحتيْن)؛ ففي حين اقْتَصَر تقديمُ تَكَوُّنِها المدرسيّ الأساسيّ على أقلَّ من سَطْرٍ واحِدٍ («دار المعلِّمين العليا، قِسم الآداب الفرنسيّة»)، خصّصت ما يٌقارب رُبْعَ الحَيِّزِ الذي قامت عليه سيرتُها الذّاتيّة لِتفصيل القول في ما عاشته في ألمانيا في المناسَبتيْن، تدقيقًا لأسماء المؤسّسات التي زارت وتحديدًا لأسماء من تواصلت معهم من الأساتِذة والفنّانين. فذكرت - إضافة إلى تعلّم اللغة الألمانيّة في معهد غوته وجامِعة ماكسيميليان - مدرسةَ «روث فون زربوني» R. V. Zerboni الواقعة في «قاوتينق»Gauting إحدى ضواحي «ميونيخ» (وهي مدرسة عريقة، تمتدّ الدراسة النّظامِيّة فيها على ثلاث سنوات)، ودقّقت موضوع الدّورة التدريبية التي اتّبعتها فيها (الدراماتورجيا وبناء الشخصيّة)؛ وذكرت، عند استعراضِها للدورات التدريبية الأخرى التي تلقّتها ولِلِّقاءات الفنّيّة التي أجْرَتْها، أسماءَ عدَدٍ من الفنّانين والفنّانات الذين أسْهَموا في بناء المسرح الألماني ورسموا مساراتٍ في فنون العرض الجديدة، شأن المخرِج مانفريد فيكفارث 1929 - 2014 M. Wekwerth مدير «البيرلينير آنسامبل» (1977-1991) Berliner Ensemble، والمـُخْرِجُ النمساوي «كارل باريلا» (1905-1996) K. Paryla الذي اشتغل مع بريشت وعايشه في منجزاته ومحنته، ومانفريد بايلهارتز Beilhartz مدير مسرح مدينة «كاسل» Kassel وبدت عنايةُ رجاء بن عمّار مُنْشَدَّةً انشدادًا واضِحًا، إلى «التانزتياتر» Tanztheater [الرقص المسرحيّ] وإلى أساطينه في تلك الفترة فلقد ذكرت كُلًّا من الكوريغراف [مُصمّم الرقصات] W. Forsythe مديرِ أوبرا فرانكفورت Frankfurt وكريزنييك Krysnieck مدير مسرح مدينة بريمن Bremen وبرزت من بَيْن مَنْ ذكرت من الأسماء «بينا باوش» (1940- 2009) P. Bausch مديرة مسرح «فوبيرتهال» Wupperthal بروزًا لافِتًا. ومعلومٌ هو الموقِع الذي احتلّته «بينا باوش»، عند أغلب الباحثين والمؤرّخين، في بناء ما قام عليه الرقص المعاصِر ومعلومٌ هو الاعتراف لها بِتَثْوِيـر فنِّ الرّقصِ عامّة، وابتداعِ الـ»تانزتياتِر» الذي يلتقِي بِالمسرح من حيث الإحالة في عُروضه، على مشاهد ووضعيّات من الحياة اليوميّة للناس، من ناحِية، والتعويل فيه، من ناحية أخرى، على جسدِ الرّاقِص وطاقاته المـُطْلَقة، بدَلًا عن الاقتصار عند تصميم العروض على التّوليف بين «خُطوات الرقص» المـُحَدَّدَة.
ولا نرانا مجانبين للحقيقة عندما نذهب إلى أنّ «بينا باوش» وما مثّلته قد كانت النموذجَ المـُـبْهِرَ والمـُشْتَهَى الذي لن يغيب عن ذِهن رجاء بن عمّار وعن شواغِلها والذي سيقود تطلّعاتِها الفنّيّة. فإلى جانب كوْن «بينا باوش» فنّانةً فتحت آفاقًا جديدة في فنّها فهي، كذلك، امرأةٌ استثنائيّة ذات طاقة فيّاضة نجحت في فرض ذاتها فرضًا؛ ولعَلَّنا واجِدون في انبهار رجاء بن عمّار بـِ «بينا باوش» مفاتيحَ لفهم بَعْضٍ من المنطق الذي خضع له مسارُها الفَنِّيُّ وقاد مشاريعَها وأعمالَها إلى آخر نَفَسٍ في حياتها. ولعلّنا واقِفون، كذلك، على السّرّ في المعارك التي خاضتها، سواء منها التي تجلّت في رفع تحدّيات قامت على صعيدها الشخصيّ، أو في تجاوز العراقيل التي كانت قائمة على مستوى واقِع المسرح وفنون العرض في تونس، ثقافَةً ومؤسّساتٍ.
لقد كان على رجاء بن عمّار المـُمَثِّلة التي اكتشفت «الرّقص المسرحي»، وقد اشتدّ عودُها، أنْ تتحدّى العوائق النّاجِمةَ عن تأخُّرِ اكتشافها له وتعلُّقِها بِه؛ وذلك لأنَّ «الرَّقص المسرحيّ» هو، قبل كلّ شيء، رقصٌ يُنْجِزُه راقِصون متمَكِّنون من أدوات فنِّهم، حتى وإن ارتبط بصورة من الصُّور بالمسرح. و«بينا باوش» راقِصةٌ مكتملةُ التكوّن في مجالها و«كوريغراف» خبَرت فنون الرقص مُمارسة وتنظيرًا، مدّة من الزمن ليست قصيرة؛ وما أنجزته في مجال «التانزتياتر» هو في صميم فنّ الرّقص ومرجعيّاته وأدواته. واكتسابُ المهارات البدنيّة والفنّيّة التي يتطلّبها فنُّ الرّقص، يَنْطَلِق بالنّسبة إلى من يحترِف هذا الفنّ، منذ الطفولة، ويَستَمِرُّ تعهُّدُ تلك المكتسبات وتطويرُها بانتظام وانضباط. لقد تطلّب من رجاء بن عمّار إدراجُ الرقص المسرحِيّ ضمن شواغل المـُمثّلةِ التي كانت أن تخوض معْرَكَةً مع نفسها فَتْعَمَلَ، جاهِدةً كلَّ الجهد، على اكتساب المهارات التي تسمح لها بأن تُصبِح «مُمَثـِّلة – راقِصة»، وهي الصّفة التي تصف بها نفسها في سيرتها الذّاتيّة وبها تُعرّف مهنتها. ولقد حقّقت، في معركتها هذه، على صعوبتها، انتصاراتٍ تجلّت، من ناحية، في تطويرِ أدواتِ تعبيرِها في ما أدّت من أدوار، بعد عَوْدَتها إلى تونس، وفي نوعيّة الأعمال المسرحيّة التي أنجزت تَصَوُّرًا وإخراجًا، من ناحية ثانِية. ولعلّ أهمَّ نقلةٍ نوعيّة حصُلت لها من وراء معرَكتها هذه، هي تنزيلها الجسدَ عامَّةً والجسدَ في عمل الممثّلين، خاصّة، موقِعًا أساسِيًّا في عَمَلِها وفي نِظْرتها للمسرح وتجلّياته. ولم يَعُد غريبًا، بعد ذلك، أن تتحوَّل إلى داعية إلى هذه الرّؤية، كلّما أُتيحت لها فرصةُ الكلام في المسرح أو العمل فيه، إلى درجة أنْ أُقِرّ لها برسالتها تلك فطُلِب منها أنْ تُشْرِف، أكْثَرَ من مرّة، على ورشات لتدريب المُمثّلين والمـُمثِّلات، في البلاد التونسيّة وفي عدد من البلدان العربية.
أمّا عن أثر هذه النُّقلة النّوعيّة في المسارات التي اتّبعتها رجاء بن عمار في أعمالها المسرحيّة فإنّها واضِحة كلّ الوضوح ويكْفي، للتّاكُّد من الأمر، أن نُقارن بين عرض «تمثيل كلام» الذي أنْجَزَتْه فرقة «مسرح فو» 1980 وبين «باب النجوم» العرض المـُنجَزِ 2008. لقد قام العملُ الأوّلُ على الكلمة وهذا جليٌّ في عنوان العرض الذي وضَع الـ «كلام» موضع المركز وإليه أضاف الـ «تمثيل» باعتباره منطلِقًا منه وآيلًا إليه، وهو واضِحٌ، كذلك، في اسم الفرقة ذاتها الذي أبرزَ الفمَ [النّاطِقَ بالكلام] وإليه نَسَب المسرحَ فبدا ذلك بمثابة مشروعٍ فَنّيٍّ يَجْمع بين مؤسّسي الفِرقة ويَرْسُم ما يُميِّزُهم وبدا هذا العرض تجسيدًا لذلك المشروع. أمّا العرض الثاني «باب النجوم» فأُرْفِق، عند الإعلان عنه بكونه «installation/performance/théâtre déambulatoire» [تنصيبة / عرض أدائي / مسرح التِّجوال]، ولا يَخْفى، في هذا التعريف، الإعلانُ عن سعي إلى الخروج، في هذا المٌقْتَرَح الجمالِيّ، عن المسرح رغم شيء من التمسّك بالانتماء إليه، ونِيّة الخروج عن المسرح بَيِّنٌةٌ في تعدّدِ الأجناس الفنّيّة التي نُسِب إليها هذا المقترحُ الجَمالِيُّ؛ وهذا التعدُّد لا يخلو من حالة ترَدُّدٍ في ذهن صاحبة العرض تجلّت في صلة التجاور بين الأجناس المعلنة دون الوَصْل بينها؛ والجامِع بين الجنسيْن الأوّليْن نَفْيُهما للكلام حِوارًا أو سردًا وتغييبُهما للدراما بِنْيَةً وأساسًا للتفاعل والتواصل مع المـُتلَقِّي. أمّا سِمة التّجوال التي وُسِمَ بها المسرحُ في هذا التعريف فلا تُعْلن عن نوعيّة من المسرح وإنّما تتعلّق، في حقيقة الأمر، بموقِع الجمهور المتلقّي مِن مكوّنات العرض المـُقْتَرَح عليه. فلقد قام هذا العرضُ على مجموعة من التنصيبات زُرِعت في مواقِع مُختلِفة من مباني المركز الثقافي بالحمّامات وحديقته، وقامت التنصيبات على اختِزال مشاهد تراوحت مكوّناتُها بين عناصر ساكنة وأخرى مُتحرّكة وبين مشاهد صامتة وأخرى مليئة بالأصوات، كلامًا مُعادًا، وغناءً وضجيجًا يتداخل فيها الحُلْمُ المـُزْعِج باليومِيّ المـُتكَرّر مع إحالات على واقع الناس وحياتهم. وكان على الجمهور أن يقادوا إليها الواحِدة بعد الأخرى في مسلكٍ رأت صاحِبَةُ العرض أن تكون نهايتُه الساحةَ الواقعة وراء الركح الدّائرِي لمسرح المركز الثقافيّ، لا خشبة ذلك الرّكح، إمعانًا منها في إعلان الخروج عن المسرح، دون الخروج عنه. وبين هذين العرْضيْن عدد هامّ من العروض نقف فيها على سعي إلى التّضئيل من شأن الكلمة وإدماج الرقص في تلك العروض المسرحيّة إدماجًا أصبح، في كثيرٍ منها، عُنصُرًا من بِنْيَتِها عليه تقوم. ولقد عوّلت رجاء بن عمار، في ذلك، على دعوة عدد من الخبرات التونسيّة في مجال الرَّقص التقليديّ منه والمعاصر للإسهام في هذه العروض من موقع الراقصين أو من خلال وضع خبرتهم على ذمة الممثلين والممثّلات ومن ورائهم العرض المسرحي المقترح. كذا كان الأمرُ، مَثَلاً، في «الأمل» (1986) عندما دعت «خيرة عبيد الله» الراقصة الأولى في الفرقة الوطنيّة للفنون الشّعبيّة بصفتها خبيرة؛ وفي «بستان جمالك» (1987)، عندما عوّلت على الكوريغراف البولوني ريموند سوبيتشاك R. Sobitchak وفي «مجنون غرناطة» ثم في «سلام بومباي»، 1990، مع الرّاقصة الكوريغراف إيمان السماوي وفي «ليلة بيضاء» (1992) و «ريّا وسكينة» (1995) مع الراقصيْن الكوريغرافيّين عماد جمعة ونجيب خلف الله.
لقد خَبِرت رجاء بن عمّار المسرَحَ من خلال مسارِها الفنّيّ الذي تَمَاهى أو كاد مع حياتها كلّها (أنجزت ما يُناهِز 20 عرضًا مسرحيّا كانت في أغلبها الممثّلة أو الممثّلة- الراقصة، وأخرجت أكثر هذه الأعمال إمّا بالاشتراك مع المنصف الصايم أو رشاد المناعي أو آن ماري السلامي أو بِمُفردِها) وعَمِلَت على أن تكون سَيِّدةَ خطابها فيه، ولقد ظلّت واعِية وعيًا حادًّا بمنزلتها امرأةً وامرأةً فنّانةً تحقَّقَت لها في تونس الحديثة من المكاسب ما يُحمّلها مسؤوليّةَ تَطْويرِها والدِّفاع عنها بكلّ شراسة، ولم تتوانَ، عند قيام الثورة في تونس، عن الاندراج فيها إلى جانب المثقّفين الوطنيّين اندراجًا مباشِرًا وفاعِلاً.
محمد المديوني
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية