0 Loading ...

موسوعة النّساء التّونسيّات موسوعة النّساء التّونسيّات

القدّيسة مونيكا

[ق 332 م]
مجالات النشاط
  • الحضارة والتاريخ

ولدت البربريّة مونيكا سنة 332 للميلاد بطاغست (سوق أهراس بالجزائر) وهي المدينة الهامّة لولاية تتبع قرطاج. إنّها إفريقية القرن الرابع للميلاد الّتي انضمّت إلى المسيحيّة بصفة رسميّة على يد قسطنطين الأكبر وهو المؤسّس للإمبراطورية المسيحيّة.

والسيّدة الّتي نسمّيها اليوم القدّيسة مونيكا، تعرّفنا عليها من خلال آثار ابنها القدّيس أوغستينوس أحد أكبر سادة الكنيسة المسيحيّة. فقد وصفها في اعترافاته (Confessions) ، على امتداد عديد الفترات من حياتها، منذ طفولتها إلى مماتها. وكان يذكّر خاصّة بنوع العلاقات الصعبة وفي نفس الوقت المثيرة للعاطفة الّتي كانت تربطه بها. تنتمي مونيكا إلى عائلة اعتنقت المسيحيّة منذ أمد بعيد وقد تلقّت تعليما دينيّا مكثّفا وتشبّعت منذ صغرها بالحبّ المطلق للّه، ولهذا كثيرا ما كانت تتردّد على الكنيسة لتصلّي بإيمان صادق. ورغم كلّ هذا فقد تمّ تزويجها من وثنيّ يدعى أوراليوس باتريسيوس وهو يكبرها سنّا ولكنّه كان من الأعيان يتولّى القضاء بالبلديّة وكان يملك العقارات ويعيش في بحبوحة. وقد تحدث عنه ابنه أوغستينوس قائلا إنّه طيّب القلب وفي نفس الوقت تجتمع فيه عديد المساوئ: فهو بالفعل عنيف وغضوب، يهمل قرينته ويخونها. وكانت مونيكا تقبل كلّ شيء وتحاول استجلابه إلى المسيحيّة، غير أنّ ذلك لم يحدث إلاّ قبل وفاته بقليل لمّا تحصّل على التنصير. وفي انتظار ذلك كانت لا ترى فيه إلاّ الزوج الذّي تكنّ له الاحترام وتبادره بالطاعة الكاملة. وكانت صبورة متفهّمة تتحلّى بكلّ الصفات الّتي تجتمع في الزوجة الطيّبة والمسيحيّة الحقّة. فهي لطيفة، متحفّظة، متعفّفة، متواضعة. ولكن وراء كلّ هذه الخصال الحميدة كانت ذات طبع صارم. وصفها أوغستينوس بأنّها نابغة حقّا وآدميّة سامية وحازمة، إيمانها لا يتزعزع ولا يمكن القدح فيه وهي كثيرا ما تدعو اللّه لخلاص أقربائها.

رزق باتريسيوس ومونيكا ثلاثة أبناء وقد ربتّهم الأمّ تربية دينية: ولدان هما نافيقيوس وأوغستينوس وبنت نجهل اسمها.  من هؤلاء الأبناء الثلاثة لا أحد يضاهي أوغستينوس فهو يتّقد ذكاء وحماسا وحبّا للحياة ولكنّه صعب المراس، مشاكس ويأبى الخضوع. وكانت أمّه تحرص على أن يواصل دراسته إذ كانت تقول «بعلم قليل نضيع وبعلم كثير نعود إلى اللّه». وبالفعل كانت مونيكا تخشى أن يصبح ابنها عاقا، لذلك قرّرت مرافقته أينما توجّه، لا سيما عندما حلّ بقرطاج لتجويد علومه ومزيد تهذيب تربيته. كانت تراقبه عن كثب ولا تترك له الحريّة، تخاف على سلامته الجسديّة وخاصّة الأخلاقيّة وكانت تمارس عليه الضغط المتواصل حتّى يعتنق المسيحيّة وتطلب اللّه بكلّ حماس حتّى يعينها في مهمّتها تلك لأنّها كانت تريد في الحقيقة إنقاذ روح ابنها. ولما قرّر أوغستينوس الذهاب إلى إيطاليا حتّى يتمكّن من ممارسة الخطابة الّتي امتهنها لم تتردّد البتّة في مرافقته. وبالفعل فقد كانت لصيقة له على امتداد كامل حياته وكانت تتدخّل بصفة متواصلة في اختياراته وفي قراراته الشخصيّة. لذلك فإنّه رغم حبّهما المتبادل فإنّ علاقتهما كانت تشوبها الحدّة والصلابة. فهذا الابن اللاّمع والمستقلّ يرفض القانون والإيمان بالمسيح ويميل إلى العبث إذ يعيش في الرذيلة ولا يريد أن يسمع ولا أن يفهم الرسالة الالاهيّة رغم أنّها «تجري في عروقه وقد شربها في حليب أمّه»، ومع ذلك فإنّ مونيكا لم تهمله ولم تتخلّ عنه حتّى عندما يغوص في أكثر الملذّات دناءة. لأنّها تعلم أنّ مواضبتها على الصلاة وقوّة ايمانها ودعواتها والدموع الّتي تذرفها بغزارة وبصفة مستمرّة بإمكانها أن تهديه. وقد قال لها أحد الأساقفة ذات يوم لمّا كانت تتذمّر:»مونيكا، لا تشغلي بالك فإنّ الابن الّذي ذرفت من أجله كلّ هذه الدموع لن يضيع أبدا». وهكذا استعادت الأمل وواصلت الدعاء بلا هوادة والبكاء ومراقبة هذا المخلوق الّذي يواصل تعنّته والّذي تنبّأت له  في نهاية الأمر بمستقبل مشرق.

وكان عليه رغم هذا كلّه أن ينتظر حصول المفاجأة بميلانو حيث تمّ اللّقاء الحاسم بينه وبين الأسقف أمبرواز الّذي سيصبح فيما بعد القدّيس أمبرواز بميلانو. كان هذا الأسقف يعي جيّدا مدى التأثير القويّ لمونيكا على ابنها وكان يعلم بأنّ هذه المسيحيّة الّتي تصلّي أبد الدهر وتمارس الشعائر الحميدة هي بمثابة حجر الأساس لهداية ابنها. وهكذا ففي ميلانو بالذّات عاش أوغستينوس لحظة الإشراق يوم عيد الفصح 387 وكان ذلك بحضور والدته.

وفي ميناء أستيا حيث كانا ينتظران الرحيل إلى أفريقيا سيبتسم القدر لمونيكا. ولمّا كانا يتأمّلان معا عبر النافذة مشهد البحر الممتدّ أمامهما اتّحدت روحاهما في روح واحدة تغمرها نشوة أزليّة. إنّهما يكتشفان القدرة الإلاهيّة ويتساءلان عن الحياة الأبديّة فيقتربان كثيرا من اللّه ويعيشان جنبا إلى جنب لحظة مؤثّرة من التأمّل. بعد هذه الواقعة المشرقة الّتي رواها أوغستينوس بإطناب في اعترافاته، شعرت مونيكا بألم وفهمت بأنّه لا يمكنها أبدا العودة إلى أفريقيا. ففي سنّ 56 انفصلت تلك الرّوح التقيّة والمقدّسة عن جسمها. واعتبر ذاك الموت بمثابة الانتصار وكان أوغستينوس هو الّذي حضر لحظة إغماض جفنيها اللّذين ذرفا الكثير من الدموع من أجل خلاص روحه. دفنت مونيكا بأستيا ونقلت رفاتها سنة 1430 إلى روما بكنيسة سانت أوغستينوس بكومبو مارزيو (SantAugutino di Campo Marzio) حيث لا تزال هناك إلى اليوم.

وبوصفها الأمّ الودود والحاضنة الّتي تطمح دائما إلى دفع ابنها نحو حبّ الكنيسة، فإنّ مونيكا ستأخذ مكان «الأّم الكنيسة» (Icclesia mater) الّتي تستقبل أوفياءها. وهكذا كانت تظهر من خلال لوحة فسيفسائيّة شهيرة تمّ جلبها من مدينة طبرقة بالبلاد التونسيّة. ومع تحوّل الابن ليعيش حياة تشبه حياة الأباطرة، تكون فرحة مونيكا أكثر ممّا كانت تتوقّع لأنّه بفضل انتصار هذه الوالدة المتحمّسة الحازمة فإنّ كنيسة المسيح هي الّتي ستكون منتصرة في النهاية.

ولقد كانت مونيكا، على امتداد فترات حياتها، بمثابة الرمز كانت تظهر مونيكا دائما كرمز للتشبّث بالأشياء والشجاعة والصرامة والحماسة الدينيّة. والملامح المميّزة لهذه الشخصيّة هي ملامح زوجة مستعدّة للتضحية بنفسها وملامح أمّ حاضنة. فهي بذاتها تمثّل حبّ كلّ الأمّهات المتوسّطيّات، أولائك الأمّهات الّلاتي يغالين ربّما في حبّهنّ ولكنّهن صادقات في مشاعرهنّ. وبقطع النظر عن كلّ شيء فهي مسيحيّة ورعة قد وهبها اللّه الامتياز بأن تكون أمّا لواحد من أكبر أباطرة الإيمان ولواحد من أكبر قدّيسيّ المسيحيّة التّونسيّة بالذات.

 

ليلى السبعي (العجيمي)

 

تفاعل مع المنشور وشاركنا تعليقاتك

ابحث بالمجال
العلوم
الاجتماعيّة والقانونيّة
العلوم
التجريبيّة والطبيّة
الآداب
والفنون
الالتزام
والنّضال في الحياة العامّة
الحضارة
والتاريخ
تواصل معنا

اقترح شخصية

تواصل معنا

العنوان

شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية

البريد الالكتروني
directiongenerale@credif.org.tn
رقم الهاتف
0021671885322
Drag View Close play
0%