0 Loading ...

موسوعة النّساء التّونسيّات موسوعة النّساء التّونسيّات

صليحة

[1914-1958]
مجالات النشاط
  • الآداب والفنون

صليحة، مُطربة تُونسيّة عصاميّة، يعتبرها المختصّون والنُّقاد والجماهير أيقونة فنّيّة، تُعبّر بقوّة عن الأصالة الموسيقيّة الغنائيّة التُّونسيّة في القرن العشرين، لما تتمتّع به من قدرات صوتيّة اِستثنائيّة مكّنتها من تحقيق تمازج بديع بين الطّابعين البدوي والحضري، ممّا جعلها تُخلّد اِسمها بأغان راسخة في الذّاكرة الجماعيّة التُّونسيّة.

ولدت المطربة صليحه سنة 1914 بقرية «نبّر» من ولاية الكاف بالشّمال الغربيّ التُّونسي. اِسمها الأصلي هو «صلّوحة» والدها هو إبراهيم بن عبد الحفيظ وهو جزائريّ الأصل، من سُوق هراس بمقاطعة قسنطينة، أمّا والدتها فهي مباركة بنت عمارة بن محمود الرّزقي (نسبة الى أولاد رزق، وهم فرع من دريد)، من ريف الكاف.

اِنتقلت صلّوحة مع عائلتها للعيش في تُونس العاصمة، بسبب الظّروف المعيشيّة القاسية في الرّيف. لكنّها واجهت في المدينة صُعوبات مُماثلة اِجتماعيًّا واِقتصاديًّا، من أهمّها: مأساة فقدان أخويها واِنفصال أبيها عن أمّها، بالإضافة إلى صُعوبة توفير ضروريّات العيش البسيط. فاضطرّت صلّوحة للعمل مُعينة منزليّة مع أختها «علجيّة» لفترة قصيرة في بُيوت أُسر أرستقراطيّة، من بينها بيت محمد باي، شقيق المنصف باي (1881-1948)، الَّذي تولّى عرش تُونس خلال الحرب العالميّة الثّانية.

وكانت تُقام في تلك البُيوت سهرات فنيّة باذخة، تستقطب أبرز الشُّعراء والفنّانين ورجال السّياسة في أواخر عشرينيّات القرن الماضي. وقد تابعت صلّوحة بشغف كبير تلك الأجواء الغنائيّة، وكانت تُردّد خلسة وباستمرار الأغاني الَّتي تستمع إليها بنكهة بدويّة. وفي أحد المجالس الغنائيّة تعرّفت إلى المطربة «بدريّة» الَّتي اِحتضنتها في بيتها بوسط المدينة العتيقة بنهج الباشا بداية من 1929.

بدأت رحلة صلّوحة في عالم الغناء، مع المطرب اللّيبي المقيم بتونس، البشير فحيمة (1907-1972)، المعروف باسم بشير فهمي الطّرابلسي، الَّذي كان مُعجبًا بقدراتها الصّوتيّة، فتولّى رعايتها بعد أن تخلّت عنها المطربة بدريّة. وقدّمها فحيمة في الحفلات الخاصّة، باسم «سكينة هانم». (محمد بوذينة «صليحة حياتها وكامل أغانيها» 1914- 1958، منشورات محمد بوذينة، الحمّامات، 2000، ص 7 - 10).

ثُمّ شاءت الصُّدف أن تعرّفت صلّوحة في أواخر ثلاثينيّات القرن الماضي، على الباجي السّرداحي (وهو عازف عود وصاحب تخت مُوسيقي ومُتعهّد حفلات) فأُعجب بصوتها الجميل وهي تُؤدّي أغنية «اِفرح يا قلبي» للسّيدة أم كلثوم، فتبنّاها فنّيًّا واِختارها للغناء في فرقته الموسيقيّة.

لم يكن اِلتحاق صلّوحة بعالم الغناء أمرًا سهلاً، فالمجتمع التُّونسيّ المحافظ كان يرفض بشدّة دخول بناته المسلمات عالم الغناء. لذلك، كانت أغلب المطربات التُّونسيّات من أصول يهوديّة. (Mbarek Rais Sonia, Le statut du musicien en Tunisie, Etat des lieux de la politique musicale: Approche sociologique, LHarmattan, Paris 2018, p. 310).

تزوّجت صلّوحة في مطلع الثّلاثينيّات وهي لم تتجاوز السّابعة عشرة من عمرها. زواجها لم يُعمّر طويلاً، أنجبت خلاله ثلاث بنات، بقيت واحدة منهنّ على قيد الحياة وهي عروسيّة، الَّتي سنكتشفها بعد وفاة والدتها، باسمها الفنّي «شبيلة راشد».

وفي المقابل لقسوة السّياق الاجتماعيّ، ساهم السّياق السّياسيّ والثّقافيّ، والحراك الوطني التُّونسي قبل الحرب العالميّة الثّانية، بقدر كبير في تجديد المجال الثّقافيّ والفنّي وتحوّل المطربة صلّوحة من أجواء السّهرات الخاصّة إلى عالم الاحتراف.

لقد أفرز اِنعقاد المؤتمر الأفخارستي في ماي  1930 بتونس، حراكًا كبيرًا في أوساط المناضلين السّياسيين وأهل الثّقافة والفنّ، لبناء عقد اِجتماعيّ سياسيّ ثقافيّ وطنيّ جديد، مُناهض لثقافة المحتلّ قوامه تحصين الهويّة ومُقوّمات الشّخصيّة التُّونسيّة. ولقد تنامى هذا التّوجّه العام مُحقّقًا تحولاً كبيرًا في تاريخ الفنّ والموسيقى وخاصّة بعد اِنعقاد المؤتمر الأول للموسيقى العربيّة في القاهرة سنة 1932 وإحداث جمعية الرّشيديّة يوم 2 ديسمبر 1934، ومن أدوارها الأساسيّة: المساهمة الفعّالة في مُواجهة طغيان الموسيقى الفرنكو-عربيّة والموسيقى الشّرقية المنتشرتين في عشرينيّات وثلاثينيّات القرن الماضي، والمحافظة على التُّراث الموسيقيّ التُّونسيّ خاصّة منه المالوف وتثمينه، بالمراهنة على مُوسيقيّين وشُعراء وأصوات جديدة قادرة على تطويره. (منير سعيداني وسمير بشّه البناء الاجتماعي للذّوق الموسيقي «، فعاليات اليوم الدّراسي بمناسبة اِختتام مئويّة صليحة، مركز الموسيقى العربيّة والمتوسطيّة، إصدارات النّجمة الزّهراء، تونس 2014، ص 133 - 137).

وفي هذا السّياق تبلورت الرّغبة في إرساء مُوسيقى تُونسيّة مُستمدة من المصادر الشّعبيّة والحضاريّة بالمراهنة على المطربة صليحة، فجرى اِقتراحها للمشاركة في الحفل الفنّي الَّذي قُدّم على ركح المسرح البلديّ بالعاصمة مساء يوم 14 أكتوبر 1938 بمناسبة تأسيس «محطة تُونس البريديّة» الَّتي أصبحت بعد ذلك الإذاعة التُّونسيّة. وكان هذا التّاريخ مفصليًّا في حياة صليحة الفنيّة، خلاله اِلتقت بمصطفى صفر (شيخ مدينة تُونس، وأحد مُؤسّسي الرّشيديّة، وأوّل رئيس لها في 1934) الَّذي أقنعها بالالتحاق بالرشيديّة، وفي 1 جانفي 1941 بدأ تكوينها في الرشيدية ولُقّبت باسم صليحة.

وكان للشّيخ خميس التّرنان (1894-1964)  ولمحمد التريكي (1899-1998)، ثُمّ في مرحلة لاحقة الأستاذ صالح المهدي (1925-2014) دور بارز في صقل موهبة المطربة صليحة، والمحافظة على الشّكل الخام لصوتها البدوي، مع اِكتشاف مدى تأقلمها مع تنوّع القوالب الغنائيّة البدويّة والحضريّة.

وهو ما جعلها تُصبح مُطربة الرشيديّة الأولى خلال أربعينيّات القرن العشرين وخمسينيّاته (1941-1958)، خاصّة بعد أدائها المتميّز للفوندوات «فراق غزالي»، و«يا خيل سالم». علمًا وأن الفوندو، هو قالب غنائي تُراثي، يجمع بين الأسلوبين البدوي والحضري، في مُستوى النّصّ والمقامات والإيقاعات.

وأدَّت المطربة صليحة خلال سنوات الاحتراف الفنّيّ في الرّشيديّة، أكثر من 05 أغنية مُقسّمة إلى أغان من التُّراث، وأُخرى مُلحّنة خصّيصًا لها بتنوّع الأنماط الغنائيّة ومقاماتها وموضوعاتها، وقد كانت تُغنّي باقتدار كبير العروبيّات والفوندوات والقصائد والموشّحات والأغاني.

وقد ألهم صوتها كبار الكُتّاب والشُّعراء مثل جلال الدين النّقاش(1910-1989)، وأحمد خيرالدين (1905-1967)، ومحمود بورقيبة(1910-1956)، والهادي العبيدي (1911-1985)، وعلي الدوعاجي (1909-1949)، والعربي الكبادي(1880-1961)، ومحمد المرزوقي (1916-1981)... وأبرز الملحّنين مثل خميس الترنان الَّذي لحّن لها معظم أغانيها، ومنها «ياللّي بعدك ضيّع فكري»، و«أم الحسن غنّات»، و«هجر الحبيب  وما درى»، و«عش بالوصال»، و«يا زهرة»، و«أنوح فتسخر من أدمعي»، و محمد التّريكي «يا لايمي على الزّين»، وأغنية «عش حالما بالوصال». أمّا صالح المهدي، فقد لحّن العديد من الأغاني من بينها أغنية «دار الفلك من بعد طول العشرة»، و«مريض فاني»، و«أوتاري وعودي». وقدّور الصّرارفي (1913-1977)، الَّذي لحّن لها أغنية «ساق نجعك بالرّنة»، وبهذا أصبحت صليحة مُطربة تُونس الأولى، وذاع صيتها من خلال حفلات الرّشيديّة على المستويين الوطني والمغاربي.

ومثلما شهد المسرح البلدي بتونس العاصمة أوّل حفل لها سنة 1938، بمناسبة تأسيس الإذاعة التُّونسيّة؛ فقد شهد أيضا آخر حفل لها، وكان ذلك في 10 نوفمبر 1958 حضره جُمهور غفير، يتقدّمه الزّعيم الحبيب بورقيبة (1903-2000)، وكانت آخر أغنية أدّتها في الحفل، وهي «مريض فاني طال بي دايه»، بمثابة أغنية الوداع.

تُوفّيت المطربة الكبيرة صليحة يوم 25 نوفمبر 1958 عن سنّ تُناهز الأربع والأربعين عامًا، في أوج عطائها الفنّيّ، وسار في جنازتها الآلاف من التُّونسيّين. وتكريمًا لها، كتب الشّاعر محمد المرزوقي مرثيّة صليحة بعنوان «في غيبتك الأحباب زاد بكاهم»، الَّتي لحّنها الدّكتور صالح المهدي وجرى تقديمها في حفل أربعينيّة المطربة صليحة، بصوت المطربة فتحية خيري (1918-1986).

إنّ حالة الحزن الَّتي ألمّت بمختلف شرائح الشّعب التُّونسي على رحيل المطربة صليحة، كانت دليلاً واضحًا على أهمّيّة الدّور الَّذي لعبته الرّاحلة بصوتها في إثراء الرّصيد الغنائيّ في مرحلة بناء الذّوق الموسيقي في مشروع الدّولة الحديثة، واِنتشار الأغنية التُّونسيّة الأصيلة في منطقة المغرب العربيّ الكبير، و هو ما جعلها تُلقّب بـــ»كوكب الشّرق التُّونسيّة».

وتقديرا لدورها الفعّال في الارتقاء بالأغنية التُّونسيّة، أطلقت بلدية تُونس اِسمها على أحد شوارعها، كما أصدر البريد التُّونسيّ طابعًا بريديًّا يحمل صُورتها، وكانت وزارة الثّقافة قد أطلقت اِسمها على مهرجان اِنتظمت دورته الأولى في نوفمبر 1959 بمناسبة الذكرى الأولى لوفاتها. كما تواصلت تجربة التّجديد والمحافظة على الأغنية التُّونسيّة الأصيلة في الرّشيديّة بعد رحيل المطربة صليحة، مع اِبنتها عروسيّة، واِسمها الفنّي «شبيلة راشد» (1933-2008) ، الَّتي كانت تتمتّع بصوت ممتاز.

وقد اِحتفلت تُونس بمئويّة المطربة صليحة سنة 2015، وفي ذات السّياق أصدر مركز الموسيقى العربيّة والمتوسّطيّة ستّة أقراص مدمجة ضوئيّة(ليزريّة)، لأهمّ ما غنّته المطربة الخالدة صليحة مع فرقة المعهد الرّشيديّ، تشمل المجموعة الكاملة لأغان جرى تسجيلها في أستوديو الإذاعة التُّونسيّة، وأستوديو البشير الرّصايصي، وفي الحفلات العامّة خلال الفترة الممتدة من 1938 إلى 1958.

 سنيا مبارك

 

تفاعل مع المنشور وشاركنا تعليقاتك

ابحث بالمجال
العلوم
الاجتماعيّة والقانونيّة
العلوم
التجريبيّة والطبيّة
الآداب
والفنون
الالتزام
والنّضال في الحياة العامّة
الحضارة
والتاريخ
تواصل معنا

اقترح شخصية

تواصل معنا

العنوان

شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية

البريد الالكتروني
directiongenerale@credif.org.tn
رقم الهاتف
0021671885322
Drag View Close play
0%