ولدت سوزان ديمون (Suzanne Dimon) في 31 أكتوبر سنة 1932 بقرية سردينيا (Serdinya) من مقاطعة البيريني الشرقية (Les Pyrénées orientales) جنوبيّ فرنسا. أبوها الأستاذ روني ديمون، هو الذي أورثها شغفه بالأدب فكان من الطبيعي أن تتسخّر للتشبّع منه وأن تتهيّأ لتدريسه.
سوزان ديمون أستاذة مبرزة وحاصلة على دكتوراه الدولة عن أطروحة ناقشتها، سنة 1980، بعنوان: «الحوار والنقد الأدبي بفرنسا من 1671 إلى 1687» (Dialogue et critique littéraire en France de 1671 à 1687) وقد ظلّت كلمة «حوار» محوريّة في حياتها المهنيّة والثقافيّة والاجتماعيّة.
تزوّجت سوزان من تونسي زميل لها في الدراسة الجامعيّة هو الأستاذ عز الدين قلّوز، وفي تونس بدأت مسيرتها المهنيّة في مجال التربية. وكان أوّل ما اشتغلت بالتدريس، خلال السنة المدرسيّة 1957-1958، بمعهد خزنة دار الصادقي، حيث درّست الفرنسيّة واللاتينيّة، ثمّ انتقلت إلى المعهد العلوي بالعاصمة حيث تبلورت وتأكّدت مواهبها البيداغوجيّة. فما من تلميذ في الثانوية، كما سيكون الحال مع طلبتها في العالي، إلاّ وأخذت بيده في طريق المعرفة وظلّت ذكراها عالقة بوجدانه. وفي هذه الفترة ألّفت بمعية زوجها وأبيها كتابا لتلاميذ السنة الثانية من المرحلة الثانية بعنوان: مؤلّفون قدامى ترُجِموا إلى الفرنسية
(R. Dimon, A. et S. Guellouz, Auteurs anciens traduits en français, Classe de seconde, livre du maître, Bordas, Paris, 1968. ).
وفي سنة 1971، انتُدبت بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، بالعاصمة لتدريس الأدب المقارن فتعرّف طلبتها، فيما تعرّفوا، أهميّة المسرح الإسباني في القرن السابع عشر. وبالإضافة إلى عملها بالجامعة التونسيّة دعتها جامعة عنّابة الجزائريّة فدرّست بها الأدب الفرنسي خلال السنوات 1980-1983 ثم التحقت بجامعة كان (Caen) الفرنسيّة حيث أنهت حياتها المهنيّة، سنة 1999، برتبة أستاذ متميّز في الأدب المقارن. ولقد اتخذت من هذا الجنس الأدبي مادّة بحث في المثاقفة وفي التأثير والتأثر وفي التراشح والحوار الحضاري وفي الإثراء المتبادل على صعيد الإبداع، كما جعلت منه منهج حياة، ساعدها في ذلك، بلا ريب، انتماؤها الثلاثي: مسقط رأسها فرنسا وجذورها الكتالونيّة والحضن التونسي. وما كتاباتها ومداخلاتها في هذا المجال، كما هو شّأن الملتقى الذي نظّمه بيت الحكمة في أكتوبر 2017 عن «تونس بأقلام الرحّالة في العصر الحديث 1492-1789»
(La Tunisie sous la plume des voyageurs à l’époque moderne : 1492-1789)
سوى أنموذج لنتاج هذا الانصهار المتنوّع. ولسوزان قلوز مؤلّفات ليست بالغزيرة بالقياس إلى ما يعرف طلبتها من سعة ثقافتها ولكنّها من حيث الكيف مركّزة وافية.
تصدر دار غلّمار (Gallimard) الباريسيّة للنشر سلسلة تعليمية قيّمة موجّهة أساسا إلى تلاميذ الثانوي تزوّدهم بأهمّ ما ينبغي لهم أن يعرفوه ويستوعبوه بخصوص المدارس والحركات والمفاهيم الأدبية، وتختار لمعالجتها كلّ مسألة أهل الاختصاص في أقلّ من مائة وخمسين صفحة، ولمّا كانت الأستاذة سوزان قلّوز مختصّة بأدب القرن السابع عشر فقد طُلب إليها أن تكتب في ذلك فألّفت كتابا عميم الفائدة بعنوان «الكلاسيكية»
(Suzanne Guellouz, Le classicisme, Gallimard, Paris 2007.).
وهو يلبّي حاجة الناشئة إلى فهم الموضوع ويتجاوزها إلى عموم القرّاء ممّن يريدون ترميم معارفهم أو استذكار ما طمسته الأيّام على أنّه ليس سهلا أن يكتب الباحث باختصار عن فترة مخاضات فكريّة وإبداعيّة حاسمة تطلّبت الإحاطة بها آلاف الصفحات وما لا يحصى من الاختلافات. وبالرّغم من ذلك فقد نجحت الأستاذة قلّوز في النفاذ إلى جوهرها فاتحة في وجه القارئ فجوات يدخلها من يريد أن يتعمّق وأن يتوسّع.
ولسوزان قلوز إسهامات ثريّة في عدد من الكتب الجماعيّة كإسهامها في كتاب «الرواية»
(Colette Becker (sous la direction de), Le Roman, éditions Bréal, Rosny, 1996.)
بما يزيد عن خمسين صفحة من الحجم الكبير. هذا الكتاب الذي اشترك في تأليفه ثلاثة جامعيّين وثلاث جامعيّات يتناول فنّ الرّواية الفرنسية واقعا وتاريخا عبر العصور منذ القرون الوسطى إلى القرن العشرين، وكان من الطبيعي أن تتكفّل سوزان بما هو من اختصاصها فتكتب الفصل الثالث المتعلّق بالرواية في القرن السابع عشر الذي اشتهر بازدهار الفن المسرحي أصلا. كان ذلك فرصة للحديث عن إرهاصات فكريّة وسياسيّة في فصل يُقرأ لفهم الرواية وأكثر. وفي ظلّ اختصاصها اختارتها دار النشر ديجنكير (Desjonquères) لتحقيق كتاب أحد أدباء القرن السابع عشر هو الضابط سان إيفرمون
(Saint-Évremond, Condé, Turenne et autres figures illustres, Présentation de S. Guellouz, Desjonquères, Paris, 2003)
الذي اقترب من البلاطات واكتوى بمناوراتها وعاشر الكبراء فكان أحد شهود العصر وترك سرديّات مهمّة وطريفة عن رجالات عصره ونسائه في شكل رسائل وبورتريهات شيّقة وقد تولّت سوزان قلوز تقديم الكتاب ونفض الغبار عن شخصية المؤلّف كما سهّلت قراءة النصّ بما أثرته به من شروح وتعاليق تشهد بتمكّنها من مادّتها.
وككلّ الذين استبطنوا العصر الكلاسيكي التقت سوزان قلوز بشخصيّة السيد (Le Cid) البطل الكرنلياني، وكان لا بدّ من تتبّع سيرته الحقيقيّة وهو «الطاغية لذريق النصراني، الملقب بالكبيطور» كما يصفه ابن عذاري (ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب، ج 4 تحقيق إحسان عباس، الدار الغربية للكتاب، تونس 1983، ص 31.). وفي كتاب من الحجم الكبير يضم مائتين وستين صفحة
(Mikel de Epalza et Suzanne Guellouz, Le Cid, personnage historique et littéraire, Maisonneuve & Larose, Paris, 1983.)
عن هذا المغامر الذي سخر سيفه لمن يدفع أكثر، عملت سوزان بالاشتراك مع المستعرب الإسباني ميكال دي إبلثا في مقدّمة علميّة ضافية، على فرز الواقع من الأسطورة دون إلغائها، بل إن الإبداع، شعرا ومسرحا، تكفّل بإعطاء الأسطورة شرعيتها. ولم يفت المؤلّفيْن أن يشيرا إلى احتضان البطل من قبل الفكر القومي اليميني الإسباني تضخيما لملحمة الاسترداد مع أنّ السيد يحمل اسما عربيّا بكلّ اعتزاز. ويتعين التنويه بما تضمنته الدراسة من نصوص كثيرة متصلة بالموضوع بالإسبانية والعربية مع ترجمتها الفرنسيّة.
وأخيرا وليس آخرا، وبالعود إلى ما أشرنا إليه أعلاه من أنّ سوزان قلّوز، كانت تعمل من خلال عنايتها بالأدب المقارن، على تنمية الحوار والتفاعل الحضاري، نقرأ لها كتابا بالغ الأهميّة بعنوان الحوار
(Suzanne Guellouz, Le Dialogue, PUF, Paris, 1992.)
توسّعت فيه كي تحيط بكلّ معاني الكلمة وبمختلف صِيَغِها أدبيّا وفلسفيّا وسياسيّا.
وفي 19 فيفري 2021 توفّيت سوزان، أو هادية، كما كانت تدعى في البيت، عند آل قلوز، تاركة لدى الأقارب والمقرّبين ذكرى المرأة الأليفة العطوف، وبين الزملاء صورة السّيدة المثقّفة المشبعة بالقيم الإنسانيّة، وعند قدماء تلاميذها وطلبتها ملامح الأستاذة المشعة القديرة الحريصة على التبليغ وإيصال المعرفة.
عبد العزيز قاسم
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية