تعتبر توحيدة بن الشيخ رمزا من رموز النضال الصحي والاجتماعي والإنساني. و هي رائدة الطب وطب النساء والتوليد في تونس والمغرب العربي وأول امرأة عضو بالمجلس الوطني لعمادة الأطباء، ورئيسة أول هيكل عمومي للتنظيم العائلي ورئيسة تحرير أول مجلة نسائية في تونس. كما أنّها تعتبر، بانخراطها في العديد من الأنشطة الاجتماعية، عنصرا متفردا من عناصر النخبة المناضلة في تونس زمن الاستعمار، والمساهمة بعد ذلك في بناء الدّولة الوطنية المستقلة.
ولدت توحيدة بن الشيخ في تونس العاصمة في 2 جانفي 1909 في عائلة ميسورة أصيلة بلدة رأس الجبل بولاية بنزرت. توفي والدها وهي صغيرة فكبرت في رعاية أمها التي حرصت على تعليمها. أكملت دراستها الابتدائية في مدرسة نهج الباشا حيث تحصلت سنة 1922 على شهادة ختم الدروس الابتدائية، ثم التحقت بمعهد نهج روسيا (Lycée Armand Fallières) لتصبح في سنة 1928 أول مسلمة تونسية تتحصل على شهادة الباكالوريا (آداب فرنسية).
كانت تودّ بعد ذلك الانخراط في العمل الاجتماعي فقدّمها أحد أساتذتها، وقد كان يرغب في أن تواصل دراستها العليا، إلى زوجة الدكتور إتيان بورنت (Etienne Burnet)، الطبيب الباحث بمعهد باستور في تونس في ذلك الوقت، فمكنتها من لقاء زوجها الذي اقترح عليها دراسة الطب في باريس، ووعدها بمساعدتها في تنظيم سفرها وإقامتها. وهكذا فتحت لها أبواب السفر إلى فرنسا سنة 1929 لمتابعة دراستها العليا، وكانت هذه هي النقطة المفصلية في مسيرتها.
بعد ثلاث سنوات من الدراسة في باريس تحصلت توحيدة بن الشيخ على دبلوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا (شهادة PCB)، مما فتح لها أبواب كلية الطب حيث تابعت دراسة هذا التخصص. عملت توحيدة بن الشيخ، خلال دراستها، كطبيبة متدرّبة في مستشفى بباريس، تحت إشراف كبار أطبّاء ذلك الوقت. كما مكّنتها إقامتها في باريس، من الالتقاء، عبر الدكتور بورنت، بشخصيات علمية، من بينها أطبّاء، وأخرى أدبية، مما ساهم في توسيع ثقافتها ومعارفها، أكملت دراسة الطب بنجاح باهر، وأنجزت أطروحتها التي تمحور موضوع بحثها حول الرضيع وحازت على شهادتها سنة 1936 فأصبحت بذلك أول طبيبة في تونس والمغرب العربي.
بعد ذلك عادت إلى تونس، حيث حظيت باحتفاء كبير من قبل العائلة والصحافة والأوساط السياسية والثقافية. ونظّم لها الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي حفل تكريم في أفريل 1937، وبهذا الترحيب بدأت توحيدة بن الشيخ مسيرتها المهنية لتصبح رمزًا للمرأة المناضلة والناشطة في مهنة الطب.
وهكذا بفضل تشجيع أمّها، التي أصرّت على أن تواصل ابنتها دراستها في فرنسا رغم المعارضة التامّة من قبل العائلة، وبفضل المساعدة الحاسمة للدكتور Etienne Burnet وزوجته، تمكنّت توحيدة بن الشيخ من إكمال دراستها العليا. ويعدّ حصولها على شهادة الدكتورا في الطبّ ونجاحها معجزة في بلد يرزح تحت عبء الاستعمار وبيئة تقليدية محافظة ووضعية متردية للمرأة في مجتمع أبوي متسلط، ولكنه صار ممكنا بالإرادة الذاتية القوية لتوحيدة بن الشيخ وشجاعة أمها التي غيّرت قدرها وما توفر لها من تشجيع ودعم من قبل طبيب باحث فرنسي وضع انتماءه للعلم والإنسانية فوق كل اعتبار.
ولقد بدأت رحلة توحيدة بن الشيخ مع النضال مبكرا إذ أنها انضمت أثناء وجودها في باريس، إلى جمعية الطلبة المسلمين بشمال إفريقيا في فرنسا (1931). وقد مكنتها هذه العضوية من المشاركة في أنشطة الجمعية ولا سيّما في صياغة نشريتها والتعريف بالظروف السيئة للمرأة المسلمة في المستعمرات الفرنسية.
ولدى عودتها من باريس سنة 1936، بادرت توحيدة بن الشيخ بفتح عيادتها الخاصة بـ 42 شارع باب منارة بالقرب من القصبة لأنه لم يكن للأطباء التونسيين في ذلك الوقت الحق في الممارسة في القطاع العام. وسرعان ما أصبح هذا العنوان وجهة التونسيات، بغض النظر عن قدرتهن على الدفع، إذ كان هدفها الأسمى مقاومة الفقر والتخلف من خلال الطب. في الواقع، دفعها التزامها بضمان صحة أفضل لبنات وطنها، بعد الطب العام، إلى الاتجاه نحو التخصص في طب النساء والتوليد. وهكذا، أصبحت في عام 1955 طبيبة نساء وتوليد ذات صيت، ورئيسة قسم هذا التخصص في مستشفى شارل نيكول حتى عام 1964، ثمّ في مستشفى عزيزة عثمانة، الذي ترأسته حتى تقاعدها في عام 1977. كما ساهمت، سنة 1955، في إنشاء مدرسة لإعداد القوابل في تونس باعتبار التوليد مجالا طبيا، يرتكز على مؤهلات علمية، ويستوجب مرافق صحية.
وانخرطت توحيدة بن الشيخ بفضل نضالها الصحي وممارستها التي تقوم بالأساس على الإصغاء والمساعدة الاجتماعية، في مشروع سياسة الدّولة الوطنية لتنظيم النّسل فأنشأت قسماً خاصاً بالتنظيم العائلي في مستشفى شارل نيكول في عام 1963، بالإضافة إلى إنشاء مصحّة مونفلوري لتبدأ بذلك نضالها في مجال الصحة النسائية والإنجابية. ثمّ في عام 1970، تمّ تعيينها مديرة لبرنامج التنظيم العائلي في وزارة الصحة العمومية (الديوان الوطني للتنظيم العائلي)، وهو هيكل أنشئ في حينه لتجسيد سياسة الدولة في هذا المجال. وانطلاقا من موقف وطني يعطي الأولوية لمراقبة صحة المرأة، وتنظيم النسل، والحد من وفيات الأمهات والأطفال، كان كلّ ما يشغل توحيدة بن الشيخ هو أن تقدّم العون للآخرين من خلال الطب.وقد قالت في ذلك «إنّ المجال الذي كنت فيه فعّالة هو صحة المرأة».
كما أصبحت الدكتورة توحيدة أيضًا أول طبيبة عضو في المجلس الوطني لعمادة الأطباء في تونس سنة 1959، ليتمّ بعد ذلك انتخابها نائبة للرئيس، سنة 1962. وفي وقت لاحق، نشطت في الهلال الأحمر التونسي (الذي تمّ إنشاؤه في 7 أكتوبر 1956) لتصبح فيما بعد نائبة رئيسه.
وخارج النطاق المهني البحت، واصلت توحيدة بن الشيخ نضالها، لتحسين الظروف المعيشية للمواطنين، وخاصة من أجل تقدّم المرأة على المستوى الصحي والاجتماعي، بالانخراط في العديد من الأنشطة الأخرى. فأنشأت سنة 1945 الجمعية الخيرية « القماطة التونسية»، بهدف إسداء العون للعائلات الفقيرة في احتياجات أطفالها الرضع، وقد استمرت هذه الجمعية حتى سنة 1955. وبعيد الاستقلال أنشأت، بمعية عدد من الأطباء وبعض النخبة، أول مركز لإسعاف الطفولة بباب العسل في تونس العاصمة، ثم مركزا ثانيا، في صفاقس، لتقديم الخدمات ومساعدة النساء الحوامل والأطفال الرضع، ضمّ مجموعة من الأطباء المتطوعين. كما أصبحت خلال سنة 1937 أول رئيسة تحرير لمجلة المرأة التونسية «ليلى»، وهي مجلة شهرية تصدر باللغة الفرنسية وتهدف إلى تحرير المرأة المسلمة في شمال إفريقيا والنهوض بها. شغلت أيضا خطة الرئيسة الشرفية لجمعية قدماء ثانوية آرماند فاليير (Armand Fallières) التي أصبح اسمها لاحقا ثانوية نهج روسيا.
الدكتوة توحيدة بن الشيخ، امرأة ميدان كرست نضالها من خلال الطب للنهوض بالمرأة والأسرة التونسية بداية من سنة 1936 وحتى تقاعدها سنة 1977، لم تتأخر في عام 1952، خلال أحداث الوطن القبلي عندما أقدم الجيش الفرنسي على قصف القرى، وقتل السكان، وتدمير البيوت، عن الذهاب إلى عين المكان، وتحرير تقرير رفعته إلى السلطات الفرنسية.
ولقد جلب لها نضالها، على المستوى الصحي والاجتماعي والإنساني اعترافا وطنيا ودوليا.
ففي 20 مارس 2011، وبمبادرة من Dominique Voynet، الوزيرة الفرنسية السابقة، تمّ منح اسمها لمركز الصحة البلدية في ضاحية Montreuil بالقرب من باريس. وفي 16 أكتوبر 2012، أصدر البريد التونسي طابعا بريديا يحمل اسمها. كما احتضنت كلية العلوم للرياضيات والفيزياء والطبيعيات بتونس مركزًا صحيًا جامعيًا أطلق عليه اسمها، تمّ افتتاحه في 15 ديسمبر 2017. وفي 8 مارس 2019 دشنت بلدية أريانة ساحة المناضلات التونسيات، ومن بينهن توحيدة بن الشيخ، وأطلقت أسماءهن على عدد من الأنهج، حيث حمل أحد الأنهج في منطقة المنزه التاسع اسم الدكتورة توحيدة بن الشيخ. وكذلك الأمر بالنسبة لبلدية القصرين التي أعطت، في أفريل 2021، اسم توحيدة بن الشيخ لشارع في المدينة. من جهة أخرى، أصدر البنك المركزي التونسي، في 27 مارس 2020 للمرة الثانية، ورقة نقدية جديدة من فئة 10 دنانير تحمل صورتها، وقد كانت المرة الأولى في سنة 2005. وأخيرا، وبمناسبة شهر تاريخ النساء (Women’s History Month,WHM)، وقع الاحتفاء بها يوم السبت 27 مارس 2021، من قبل جوجل (Google)، تكريما لها كأول طبيبة في تونس والمغرب العربي، واضعا صورتها شعارا له.
وبهذا المسار المتميّز وهذه المكانة الاستثنائية، دخلت توحيدة بن الشيخ التاريخ من الباب الكبير.
حسن العمري
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية