اقترن دخول وسيلة بن عمّار عالم السياسية بارتباطها بقصّة حبّ مع الزعيم الحبيب بورقيبة، انطلق هذا المسار بلقاء حضرته وسيلة في حمام الأنف يوم 12 أفريل 1943 بمناسبة إطلاق سراح بورقيبة من أسر دام حوالي خمس سنوات. وكانت هذه الصدفة منعطفا في حياتهما، كان عمر وسيلة حينئذ 31 سنة، فقد ولدت في 22 أفريل 1912 في نهج سيدي عبد الرؤوف في حي المركاض قرب باب الجديد، بتونس العاصمة، في عائلة بورجوازية تقلّد عدد من أفرادها، منذ القرن الثامن عشر، مناصب عليا في الدولة الحسينيّة.
كان والد وسيلة، محمد بن عمّار وكيلا بالمحاكم الشرعيّة، وكان رغم تكوينه الزيتونيّ متفتّحا على الحياة العصريّة وعلى الفنون، لا يمانع في خروج ابنته من البيت لارتياد قاعات السينما والمسرح وأماكن الفرجة؛ أمّا والدتها فاطمة الدلاّجي فتنتمي إلى أسرة بورجوازيّة عريقة من «بَلْدية العاصمة»، تتّصل بالشاذلي الدلاّجي شيخ المدينة في عهد الصادق باي.
لم تتخطّ وسيلة في دراستها المرحلة الابتدائيّة وكان ذلك إنجازا هاما، لأنّ أغلب بنات جيلها لا يذهبن إلى المدارس. أصيبت وسيلة في مطلع شبابها بمرض صدريّ عضال أقعدها عن الدراسة وأجّل زواجها؛ لم تكن وسيلة رائعة الجمال، ولكنها كانت جذّابة وأنيقة، وكانت بمقاييس زمانها تستجيب لمواصفات المرأة الشرقيّة، إذ كانت متوسّطة الطول معتدلة القدّ، ممتلئة الصدر، نقيّة البشرة، طويلة الشعر.
تزوّجت وسيلة بن عمار سنة 1938 زواجا تقليديّا من علي بالشاذلي، وكان ملاّكا عقّاريا وأنجبت منه بنتا.كان زوجها فلاّحا متوسط الدخل، ولم يكن متعلّما أو شغوفا بالعمل، استقرّت معه في شقّة صغيرة في تونس، ثم انتقلت لتعيش بالريف في مزرعته في عين غلال في منطقة بنزرت حيث أخذت زمام الأمور بيدها، فصارت تشارك في الأعمال الفلاحية وتقود الجرّار وتشرف على الحصاد، وتقاسم المزارعين الفقراء حياتهم البسيطة، ولا تمانع في نصب خيام البدو القادمين من الجنوب صيفا فوق أراضي زوجها.
تواصلت لقاءات وسيلة ببورقيبة في السرّ والعلن؛ وصار العامّ والخاصّ يعلم أنّ وسيلة هي رفيقة الزعيم، وأنّ هذه الصداقة أصبحت علاقة غراميّة قويّة؛ فقد وجد بورقيبة في حبيبته ما لم يتوفّر له طيلة حياته: ذكاء فطري وقّاد، وذوق رفيع، وولع بالموسيقى، وتربية بورجوازيّة لم يتعوّد بها، فهي تجيد الطبخ وتنظّم المناسبات العائلية بإتقان، ولها قدرة كبيرة على كسب الصداقات، ولها رأي صائب في الأفراد، وتقييم حصيف لشؤون الحكم. ثمّ إنّ وسيلة كانت شغوفة بالسياسة، فقد انخرطت في العمل الخيري وهي في سنّ العشرين، فظهرت لأوّل مرّة للعلن، وأخذت الكلمة في حفل نُظّم لجمع التبرّعات لضحايا الفيضانات في شهر فيفري 1932؛ كما شاركت في النقاش الذي سبق تأسيس الاتحاد الإسلاميّ التونسيّ في 1936، وكانت لها مساهمة في تأسيس الاتحاد القومي النسائيّ التونسيّ في 1956 الذي تولّت رئاسته الشرفيّة. ثم إنّها انخرطت في الحركة الوطنيّة وشاركت في تأسيس شعبة نسائيّة في باجة في جانفي ،1952 وفي المظاهرة التي انتظمت بالمناسبة، فتمّ إيقافها ومحاكمتها في بنزرت ثم أطلق سراحها.
ازداد نفوذ وسيلة بعد الاستقلال، وثمّة روايات تقول إنّها كانت ممن أيّدوا إصدار مجلّة الأحوال الشخصيّة، وأنّها دفعت في اتجاه إلغاء نظام البايات وإعلان الجمهوريّة، وهناك من يوجّه لها تهمة الاستيلاء على جزء من المصوغ الراجع للبايات الذي وقعت مصادرته بعد تنحية الأمين باي آخر البايات الحسينيّين.
لم تسع وسيلة إلى الزواج من بورقيبة ولكنه ألحّ عليها في الأمر؛ ثم إنّه طلّق زوجته الأولى الفرنسيّة ماتيلد Mathilde تمهيدا لذلك؛ فعُقد القران في 12 أفريل 1962 في قصر السعادة بالمرسى الذي أصبح مقرّا للزوجين قبل أن ينتقلا إلى قصر قرطاج الذي كان في طور البناء.
لُقبت وسيلة بعد زواجها «بالماجدة» وتوسّعت سلطتها، وسرعان ما صارت سيّدة القصر ومن أبرز الفاعلين السياسيّين في تونس، ومع أنّها لم تتقلّد أي منصب رسميّ، فقد كانت لها شبكة قويّة من الصداقات في كل الأوساط بما في ذلك المعارضة اللّيبراليّة والنقابات، و دوائر القرار في العالم العربيّ، وكانت على صلة بالطائفة اليهودية بتونس. ثم إنّها طوّرت علاقات وطيدة بمختلف وزراء الداخليّة؛ فكانت تتدخّل لتعيين موالين لها في المناصب الحسّاسة، بما أتاح لها بناء صلات زبونية قويّة مع عدد من القيادات السياسيّة والأمنيّة التي كانت تنقل لها كل المعلومات الاستخباريّة. وبذلك صارت وسيلة قادرة على «صنع» الوزراء وإبعادهم، حيث ساهمت في الإطاحة بالوزير أحمد بن صالح سنة 1969؛ وإنهاء التجربة الاشتراكيّة التي نفّذتها تونس منذ بداية الستّينات.كما حالت دون تسميّة محمد الصيّاح وزيرا أول سنة 1980، وكانت وراء تعيين محمد مزالي لهذا المنصب، ولكنها ما لبثت أن انقلبت عليه بعد ذلك. كما كان لها باع في تغذية الصراع على خلافة بورقيبة بالتدخّل لترجيح كفّة المقرّبين منها.
لم تخرج السياسة الخارجيّة التونسيّة عن اهتمام وسيلة التي كان لها شغف كبير بالعلاقات مع العالم العربيّ، فقد عٌرفت بمناصرتها اللامشروطة للقضيّة الفلسطينيّة، وبصلاتها الوطيدة مع ياسر عرفات وأبو إياد وعصام السرطاوي، ومن شواهد ذلك دورها في إقناع بورقيبة باستضافة الفلسطينيين في تونس بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان، وإخراجهم بالقوة من بيروت في صائفة سنة 1982.
وبالتوازي، عملت وسيلة على رفد الدبلوماسيّة الرسميّة بتطوير علاقات شخصيّة مع عدد من كبار المسؤولين والقادة العرب، وخاصة مع معمّر القذافي والهوّاري بومدين وعبد العزيز بوتفليقة، كما كانت لها لقاءات مع الملك المغربي الحسن الثاني والرئيس السوري حافظ الأسد، والرئيس العراقي أحمد حسن البكر، عدا اتصالاتها غير المعلنة مع أمراء الخليج. ولم تمنع صلات وسيلة بالقذافي من التدخّل بقوّة لإجهاض تجربة الوحدة الاندماجيّة بين تونس وليبيا التي اعلنت في 12 جانفي 1974 لما تيقّنت أنّ الزعيم الليبي كان يسعى إلى الالتفاف على تونس.
انتهت حياة وسيلة السّياسيّة، وهي في خريف العمر، بعد طلاق مدوّ في 11 أوت 1986، واستتبع ذلك سحب صفة «الماجدة» منها، ومنعها من حمل لقب بورقيبة، فاستقرّت بالخارج متنقّلة بين باريس وعواصم أخرى، ولم تعد نهائيّا إلى تونس إلا في شهر جويلية 1988.
توفّيت وسيلة في بيتها بالمرسى في جوان 1999، ودُفنت بتوصية منها بجوار والدها بمقبرة الجلاز.
نور الدّين الدّقي
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية