تعدّ شخصيّة زينب فرحات، «مفردًا بصيغة الجمع» - حسب تعبير أدونيس - فهي صحفيّة صاحبة قلم، التزمت بقضايا ثقافيّة وفكريّة وأخرى حقوقيّة وإنسانيّة، من بينها الدّفاع عن الحقوق والحريّات والتّضامن مع حريّة الشّعب الفلسطيني، وهي مسرحيّة طالما وقفت إلى جانب رفيق دربها المسرحي الكبير توفيق الجبالي، وهي كذلك مناضلة نسويّة وهبت من وقتها وجهدها الكثير في سبيل حقّ المرأة في الحريّة والكرامة.. يمثّل النّبش في سيرتها الذّاتيّة مصدر ثراء للباحث، حيث اختزلت محطّات من حياتها، بعض التفاصيل المهمّة من تاريخ تونس المستقلّة.
ولدت زينب فرحات في 14 ديسمبر 1957، سنة إعلان الجمهوريّة. وهي تنتمي إلى عائلة تحظى بمكانة اعتباريّة خلال الفترة الاستعماريّة بحكم أنّ المجتمع كانت تسوده الأميّة آنذاك، في حين كان والدها الصّحبي فرحات، مدرّسا في إدارة التّعليم العمومي، درّس في المدارس القرآنية المختلفة بالإيالة التّونسيّة وانتهى به المطاف إلى مدرسة باب الخضراء وبقي كذلك إثر الاستقلال. وقد اندمج والدها في النّضال السيّاسي، بالانخراط في الحزب الحرّ الدستوري الجديد والنّضال النّقابي ضدّ المستعمر الفرنسي حيث كان نقيب المعلّمين وأحد مؤسّسي الفدراليّة العامة للموظّفين التّونسييّن التي تأسّست سنة 1937، والتّي أصبحت بدورها أحد أعمدة الاتّحاد العام التّونسي للشغل الذي تأسّس سنة 1946. وقد كان الصّحبي فرحات من رفاق فرحات حشاد.
تأثّرت زينب فرحات بهذا الوسط الثّقافي والنّضالي. لكنّ اتّهام والدها المدرّس آنذاك، بالتورّط مع زمرة المتّهمين في المحاولة الانقلابيّة التي شهدتها تونس في 19 ديسمبر 1962، كان له عليها وعلى إخوتها وكل أفراد العائلة - إثر سجن والدهم ووفاته في السّجن في ظروف سيئة - الوقع الأليم الشّبيه بالمأساة. وقد أثّر هذا الحدث في توجّهات زينب الفكريّة، حيث لا نجد لها أيّ انخراط في حزب سياسي، لكنّها في المقابل لم تستقل من الشأن العامّ، ولا سيما أنّها قامت بالسّير على خطى أختها صفيّة فرحات الّتي كانت مدافعة عن حقوق المرأة.
زاولت زينب فرحات دراستها الثّانوية بمعهد نهج الباشا، وأتمّت دراستها العليا بمعهد الصّحافة وعلوم الإخبار بتونس، حيث حصلت على الإجازة في الصّحافة وعلوم الإخبار سنة 1985. وعملت بين سنتي 1985 و 1995 صحفيّة في الجريدة التونسيّة اليوميّة النّاطقة باللّغة الفرنسيّة «لوطون» Le Temps، الصّادرة عن دار الصباح، وعملت كذلك مراسلة صحافيّة بالمكتب الجهوي لوكالة « أم بي سي نيوز» MBC News بين سنتي 1985 و 1995 أي خلال نفس المدّة. والملاحظ أنّ دراستها بمعهد الصّحافة وعلوم الإخبار والوسط العائلي الذي نشأت فيه، قد ساهما في توجيه قلمها نحو الكتابة في قضايا إنسانيّة واجتماعيّة، من ذلك أنّها كانت من المدافعين عن القضيّة الفلسطينيّة. وعن التجربة الصحفيّة تقول زينب فرحات: إنّها تجربة «من أجمل التجارب التي خضتها، عشرة أعوام من العمل والنضال».
أسّست زينب فرحات إلى جانب زوجها المسرحي والفنّان توفيق الجبالي فضاء مسرح التياترو، في 5 أكتوبر 1985، ووقفت وراء نجاح التّجربة رفقة زوجها. وقد شغل هذا الفضاء والعمل الدؤوب الذي تطلّبه الجزء الأكبر من مسيرتها الحافلة فهي مديرة فضاء «التياترو» والقائمة على جانبه الاتّصالي.
شكّل مسرح التياترو هذا، شكلا من أشكال المقاومة الثّقافية خارج الأطر الحزبيّة، وقد تبنّت فيه زينب فرحات وزوجها رسالة إبداع بإنتاجهما مسرحيّات أشهرها، مسرحية «كلام الليل» بأجزائها العشرة وغيرها من المسرحيّات... بالإضافة إلى حرصها على إقامة احتفالات سنويّة لذكرى مولد الفنّان الشيخ إمام، في الوقت الذي كان فيه غناء الشيخ محظورا في تونس، لكنّ زينب فرحات لم تكتفِ بالاحتفال بالذكرى السنوية للفنّان، بل أطلقت اسمه على نادٍ موسيقي لا يزال ينشط إلى تاريخ كتابة هذه السطور.
هذا وقد وظّفت زينب فرحات مسرح التياترو وظّفته لمساندة القضيّة الفلسطينيّة، حيث كان هذا الفضاء يستقبل كلّ الأنشطة والتّظاهرات التي تهتمّ بفلسطين والقضيّة الفلسطينيّة، من ذلك إقامة حفلات مارسيل خليفة ونصير شمّة وتنظيم اللّقاءات الشّعريةّ لسميح القاسم وتوفيق زيّاد وغيرهما... لا سيما وأنّها كانت صديقة للفلسطينيين إبّان إقامتهم بتونس خلال مرحلة الثّمانينات وبداية التّسعينات، وكانت تجمعها علاقات متميّزة ببعض قيادات منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، على غرار ياسر عرفات وصلاح خلف المعروف بـ «أبي إياد». والجدير بالذّكر أنّها حاورت في بداية مسيرتها المهنيّة الصّحفيّة، الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وتحدّثت لاحقا عن هذا اللقاء الذي أثّر في شخصيّتها.
والملاحظ أنّ مسرح التياترو بقي، «منشقًّا وعصيًّا» في وجه نظامين أو مرحلتين تاريخيّتين من تاريخ تونس، هما المرحلتان «البورقيبية والنوفمبرية» حيث كان البلد تحت سيطرة الحزب الواحد وحرم هذا الفضاء الثقافي من دعم المال العمومي الذي كان يحظى به من كان يدور في فلك السّلطة آنذاك. كان هذا الفضاء تعبيراً عن نفس ثوري حرّ تعرضت زينب فرحات وزوجها توفيق الجبالي بسببه، مرارا للمضايقة الأمنيّة. وبقي هذا الفضاء الثقافي، على مدى ثلاثين سنة يحتضن كل التّجارب الثقافيّة «اليتيمة المستقلّة في تونس» وبالخصوص، تلك الّتي لا تحظى برضا المسؤولين.
وبذلك مثّل عمل زينب فرحات في المجال الفنّي ضربا من ضروب المقاومة توجّته بوصل الهياكل النّقابيّة النّاشطة في الميادين الإبداعية وتوظيف علاقاتها المتميّزة مع الفاعلين الثقافيين والتّقدير الذي تحظى به لديهم والسّعي إلى النّهوض بالمهن الفنيّة.
كانت زينب فرحات حاضرة، أينما وجدت القضايا العادلة فهي عضو في الرّابطة التّونسيّة لحقوق الانسان ورئيسة شرفيّة لجمعية «كن تونسيّا» Bee Tounsi . وكانت من النّاشطات المتميّزات في الدّفاع عن حقوق المرأة، التّونسيّة في المحافل المحليّة والدّولية، وواحدة من الناّشطات «القاعديّات» في جمعيّة «النساء الدّيمقراطيات» الّتي كانت شقيقتها الرّاحلة صفيّة فرحات واحدة من مؤسّساتها سنة 1989. وكثيراً ما كانت تتعرّض النّاشطات في هذه الجمعيّة للمضايقات البوليسيّة والمحاكمات الكيديّة. إلاّ أنها لم تتوان عن مساندة الحقوق النّسويّة. ومن بين ذلك، اعتبرت في أحد حواراتها الإعلاميّة، أنّ قانون العنف ضدّ النساء لن يكون تطبيقه مجديا، مادام لم يرافق إعلانه، توعية وإصلاح للبرامج التعليميّة بتضمينها أهدافا سلوكيّة وجوانب قيميّة.
ثمّ إنّ انتماء زينب فرحات إلى الفضاء الحضري لم يثنها عن الاهتمام بالمرأة الريفيّة، فقد عملت على التّعريف بحرفيات فخّار سجنان، بعد تأسيس المجمع في أكتوبر من سنة 2012 بمعيّة كافة الحرفيّات وبدعم من السّلطات الجهويّة والمحليّة، وذلك في ريف بلدية الحشاشنة وسجنان بولاية بنزرت. وكان لهذا المجمع مجلس إدارة يضمّ 29 منسّقة تشرف عليه زينب فرحات، التي كانت تنوّه دوما بقدرة هذا المجمع على إحداث مواطن شغل. هذا وشارك هذا المجمع في أكثر من 100 معرض واستقبل أكثر من 200 وفد دبلوماسي وسياسيّين ومسؤولين جهويّين ووطنييّن وعالميّين. وتمكّن بفضل إشعاعه من أن يتولّى إعداد قدّمه عبر وزارة الثقافة تمّ به تسجيل هذا الفخار في منظمة اليونسكو. وبذلك ساهمت زينب فرحات بمعيّة آخرين بقدر مهمّ في إخراج هذا المجمع من المحليّة إلى العالميّة.
كما اهتمّت زينب فرحات بقضايا التّعليم وبوضعيّة التّلاميذ في الأرياف، حيث أسّست جمعيتها «زنّوبيا للفنّ والإبداع» سنة 2014، التي قالت في تعريفها لها إنّها : «كانت نصيرة الكرامة ويومها قرّرتُ تسمية جمعية باسم «زنوبيا»، لكن قبل الثورة لم أستطع الحصول على ترخيص، وفي 2014 ولدت الجمعية زنوبيا نصيرة للفكر والثقافة». وقد وظّفت هذه الجمعيّة في التّحسيس والتّوعية بالوضع المتردّي للتّلاميذ في الأرياف، إثر صدور تقرير عن وزارة التّربية التّونسيّة، يفيد بارتفاع أرقام انقطاع التّلاميذ عن التّعليم سنويّا، بالخصوص في الأرياف وكان من بين أسباب هذا الانقطاع، أنّ المدارس بعيدة عن مقرّ سكناهم. ويبدو أن زينب فرحات قرّرت تسليط الضّوء على هذه «المأساة» التي يعاني منها الأطفال للالتحاق بمؤسساتهم التّعليمية، وكان عملها الإنساني هذا في منطقة السفسافيّة من ريف الشرف في ولاية نابل حيث وفّرت جمعيّتها ما سمّي ب «كريطة الرّسكلة الإبداعيّة» وهي عربة مجرورة من الموروث التّونسي «لصعوبة وصول السّيارات إلى الأرياف العميقة»، ولم تكتف بذلك بل هيئت جمعيّتها مكتبة في مدرسة الشرف. هذا ووجد هذا النّشاط الإنساني المدني صدى في الإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعي وتفاعل بفضله مع تلاميذ الأرياف، العديد من الّتونسيّين. والحقيقة أنّ زينب فرحات كانت تسعى من خلال هذا الفعل الاجتماعي الإنساني، إلى إيقاظ ضمير أصحاب القرار السيّاسي بالبلاد التونسيّة وحثّهم على الاهتمام بهذه الفئة المهمّشة.
ولم تفوّت زينب فرحات الفرصة لنشر ثقافة حبّ الفنّ ولا سيّما المسرح بين الأطفال حيث أشرفت جمعيّة زنوبيا على تأسيس مشروع مسرح دمى متحركة حول حكايات La Fontaine الّتي ترجمت إلى الدّارجة التّونسيّة. وأنشأت ورشات تمثيل مع الأطفال والشّباب برسكلة مواد موجودة في الشّارع واستخدام ما هو متوفّر لصنع الدّمى المتحرّكة، في عمل هدفه الرئيسي، التأسيس لثقافة المواطنة والحفاظ على البيئة والسعي إلى إيجاد جماليّة في الفضاء العامّ.
وهكذا قاومت زينب عبر مسيرتها المهنيّة والحقوقيّة الرّداءة بواسطة الفنّ ونشر الوعي والعمل المدني والحقوقي، وناضلت من أجل حياة أفضل ولم تتراجع عن نصرة الإنسان في حقه، سواءً كان هذا الحقّ أرضًا أو معنى أو كلمة. وتقول في أحد حواراتها «عندما تنغلق على نفسك لن تكون لديك نظرة إيجابيّة إلى الآخر».
وقد كانت زينب فرحات شخصيّة محبّة للحياة تعلي من شأن ثقافة الجمال حتّى أنّها طلبت أن يتحلّى النساء في مماتها بأجمل ملابسهنّ ويتجمّلن ويتعطّرن ويأخذن كامل زينتهنّ... إذ قالت في بعض حواراتها «عندما أموت، لا تحزنّ عليّ، وكنّ كما أنتنّ حالمات مثقفات متحرّرات».
فاطمة شلفوح
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية