ولدت زبيدة عميرة يوم 26 أفريل 1917 في سوق البلاط بمدينة تونس، من أب أصيل بني خيار تحصّل على التطويع من جامع الزيتونة وانصرف إلى تجارة الحرير والملابس ومن أمّ أصيلة العاصمة، وكانت هي ثالثة أخواتها الأربع، وقد مكّنها طموحها من أن تتحصّل على الإجازة في اللغة والآداب العربية وشهادة الدراسات العليا؛ درّست زبيدة عميرة لفترة في التعليم الابتدائي ثمّ في الثانوي، وأصبحت مديرة لما سيُعرف لاحقا باسم معهد نهج الباشا من سنة 1952 إلى حدّ إحالتها على التقاعد سنة 1979.
لم تكن الظروف التي نشأت فيها زبيدة عميرة مع أخواتها لتسمح لهنّ بأن يتجاوزن عتبة الدار، فالعقلية آنذاك كانت متحجّرة ولا تكاد تسمح بالكاد لأيّة أنثى بأن تتقن إلاّ ما يؤهّلها لاحقا كي تكون ربّة بيت مثاليّة ومطيعة لزوجها. ويرجع الفضل في تعلّم زبيدة وأخواتها إلى أمّهن حبيبة الطرابلسي التي استبسلت في الدفاع عن حق بناتها في الدّراسة، وتحمّلت مقاطعة العائلة لها ونعْتها هي وبناتها بكلّ النعوت المشينة من الجيران والأهل لسنوات عديدة، ولم يكن من اليسير أن تقنع زوجها بهذا التوجّه، لكن مع مرور الزمن، بات هو نفسه يشجّع بناته على التعلّم ومواصلة دراستهنّ.
ولم يكن ذلك سهلا بالمرّة خاصّة وأنّ تمدرس بناتها، ومنهنّ زبيدة سيكون على أيدي «الآخر» المختلف حضاريا وثقافيا، أي الأوروبيّ وخاصّة منه الفرنسيّ، ولكن لم يمنع كلّ هذا زبيدة من أن تثابر في دراستها، مستلهمة بالتأكيد من أمّها روح التحدّي والعزيمة، كي تثبت لكلّ من عيّر هذه العائلة بأنّ خروج البنت إلى الشارع وتعلّمها ثمّ اشتغالها إنّما يشكّل فخرا للعائلة وللمجتمع، عكس ما كان سائدا آنذاك، وبأنّه يحقّ للأب وخاصّة الأمّ أن تجني البذرة التي زرعتها.
يتجلّى هذا التحدّي في تميّزها في الدراسة، إذ كانت لا تألو جهدا في أن تكون هي الأفضل من بين التلميذات الأوروبيات، فتحصّلت سنة 1936 على شهادة «البروفي» العليا التي تعادل الباكالوريا، فعيّنت معلّمة لغة فرنسيّة في سوسة أين التحقت بأختها محرزيّة التي تشتغل هناك، وذلك إلى حدّ سنة 1939.
لكن، لم تكتف زبيدة بذلك، إذ اكتشفت أنّها، وهي التونسية الفخورة بهويّتها العربيّة المسلمة، عاجزة تقريبا عن القدرة على قراءة نصّ عربيّ، فقرّرت الرجوع إلى الدراسة دون أن تنقطع عن التدريس، فكان لها ذلك من خلال الدروس الليليّة التي تلقتها في مكتبة العطّارين في مدينة تونس، إذ كان مستهجنا لفتاة مثلها أن تَدْلُف بين أنهج المدينة وأزقتها ليْلا. وبالرغم من ذلك تمكّنت زبيدة من الحصول على شهادة «البروفي» الأساسيّة للعربيّة في جوان 1942، ثمّ شهادة الديبلوم العليا للعربيّة في جوان 1945 والإجازة في اللغة والآداب العربيّة بالمراسلة من جامعة الجزائر في جوان 1947، حيث غامرت بالذهاب أكثر من مرّة لاجتياز اختبار الشفاهي.
ولم يقف طموحها عند هذا الحدّ بل كادت أن تجتاز التبريز، ولكن خيّرت أن تكتفي بمناظرة «شهادة الكفاءة لتدريس العربيّة في المعاهد» وقد اجتازتها في باريس في مدرسة اللغات الشرقيّة أمام لجنة متكوّنة من ليفي بروفنسال (Lévi-Provençal) وويليام مرسي (William Marçais) ومحمود المسعدي. وهكذا حقّقت زبيدة عميرة طموحها الأقصى بأن تكون قادرة على أن تدرّس في أيّ معهد ثانوي كان باللغتين العربيّة والفرنسيّة، لذلك، لم يأت صدفة تعيينها سنة 1952 مديرة لمعهد لويز ريني ميلي (Collège Louise René Millet) الذي كانت تدرّس فيه منذ سنة 1945، والذي سيسمّى لاحقا منذ سنة 1956 وباقتراح منها «معهد الفتيات نهج الباشا».
اقترن اسم معهد نهج الباشا بزبيدة عميرة والعكس صحيح أيضا، فقد أعطت من عمرها 34 سنة لهذا المعهد، منها سبع سنوات للتدريس والباقي لإدارته وبذلت في ذلك جهدا استثنائيا حتى يحقق المعهد نتائج باهرة، فكانت تحرص على أدق التفاصيل في الحياة اليومية، هاجسها أن يقع احترام هيبة المؤسسة والإدارة وإطار التدريس.
وبالتوازي عملت زبيدة عميرة على تذليل الصعوبات النفسيّة أو المادّية التي تعترض التلميذات، فكانت تصغي بانتباه إليهنّ، ولا تتردّد في استدعاء الوليّ كي تقنعه بعدم إخراج بنته من الدراسة بتعلّة العادات والتقاليد، وكم من بنت أنقذتها من ذلك، فتحصّلت على أرفع الرتب العلمية.
لذلك تمكّن معهد نهج الباشا من أن يوفّر للدولة الوطنيّة الكثير من الكفاءات النسائيّة التي ساهمت في عملية البناء الوطني، ويرجع الفضل هنا إلى «امرأة الظلّ» زبيدة عميرة التي خصّصت كل جهدها لتحرير المرأة من ربقة «الذكورّية المتسلّطة»، انطلاقا من المواقع التي نشطت فيها، سواء في المعهد أو في الاتحاد القومي النسائي التونسي أو في خلايا الحزب الدستوري الجديد ولاحقا الحزب الاشتراكي الدستوري، وهي هنا، ربّما «تثأر» لأمّها حبيبة التي كانت معها في المسكن الإداري داخل المعهد تبارك خطواتها من أجل تعليم أكبر عدد ممكن من البنات.
ولا غرو في ذلك، إذ يمكن أن نستشفّ من خلال المخطوطيْن اللّذين تركتهما، أنّ هاجسها الأكبر منذ شبابها المبكّر يتمحور حول قضايا المرأة والأنوثة ، الأوّل هو مذكّرة لنيل ديبلوم الدراسات العليا نوقشت سنة 1951 في جامعة الجزائر، والثاني دون تاريخ محدّد وقد يتعلّق بملف قدّمته خلال دراستها، وتتحدّث فيه عن «الحمام في الشعر العربي».
وما هو لافت هو أنّ اختيارها لعنوان مذكّرتها لم يكن اعتباطيّا، صحيحٌ أنّ الموضوع يتعلّق بالمرأة في بغداد خلال القرن الرابع للهجرة، إلاّ أنّه من الواضح أنّ زبيدة عميرة قد حدّدت مسار حياتها من خلال هذا الاختيار، فما المرأة وقتئذ إلاّ هي ذاتها في زمن زبيدة، القيود لم تتغيّر والنظرة ذاتها والعقلية الذكوريّة نفسها، تلك التي ترى المرأة مجرّد متاع.
لذلك لم تر زبيدة في هذا القرن امرأة في صلابة الخنساء أو قوّة شخصيّة خديجة بنت خويلد أو الثبات على المبدإ مثل أسماء ذات النطاقين، فكتبت تقول:«حرصتٌ على أن أقوم بدراسة تتعلّق بالمرأة، ولي اهتمام من الدرجة الأولى بل اهتمام حيوي بهذه المسألة. شعرت دائما بحدّة المشاكل التي تطرح على مُسْلمةِ هذه الأيّام، وهي أحيانا مؤلمة وغالبا من الصعب حلّها فرغبت في معرفة هل كانت كذلك من قبل، وإذا كان بعض الرجال يعتبرون المرأة بمثابة الكائن الشرّير بامتياز، فإنّها لدى أغلبهم لا تعدو مجرّد نزوة غير ذات قيمة يُدفع لها بين الحين والآخر، ولكن وجب التخلّص منها بمجرّد تقادمها،...لم أندم على تكريس نفسي لهذه الدراسة، لأنّه لا يمكن لأيّ مجتمع أن يتطوّر في الاتجاه الصحيح إذا ما أغمض عينيه آليا على الفترات المظلمة والخافتة لماضيه، ولم يستخلص الدروس المثمرة للمستقبل»
Amira, Zobéida, «La femme à Bagdad au IV siècle de l’Hégire», : Bornaz Baccar, Alia, «Zobéida Amira : La dame de Dar el Bacha», Tunis, Editions Sahar, 2007 ; pp : 93, 98..
خالد عبيد
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية