من أعمدة النضال والالتزام في الحياة العامّة بالقطر التونسي، تكاد مسيرتها تختصر إسهامين: إسهام المرأة في الحركة الوطنيّة التونسيّة ودورها النوعي الفعّال في التمهيد لاستقلال الوطن ثمّ في بناء الدولة الوطنية، وإسهام تونس الأعماق، ولا سيما منطقة الشمال الغربي، في مقاومة المستعمر الفرنسي وتحقيق الاستقلال والتأسيس للحرّية والكرامة الوطنية.
ولدت زبيدة بنت عمّار صيودية في 03 مارس 1924 بمدينة باجة، ونشأت في أسرة محافظة كانت المرأة فيها لا تخرج إلا مخفورة برجل وكانت الفتيات المحظوظات يتعلّمن قليلا من مبادئ العربيّة والقرآن في الزاوية ثم يتفرّغن لشؤون البيت والمهارات اليدوية والاستعداد للزواج ومهامّ الأمومة.
تزوّجت زبيدة في سنّ مبكّرة من قريبها الشاب خميّس بدّة وأنجبت البنات والبنين، وكان لزوجها نشاط في الحزب الدستوري وإسهام في العمل الوطني فكان يحدّثها عن النضال والمعاناة من الاستعمار الفرنسي فتأثرت بأفكاره وانخرطت في الحزب سنة 1949 بل وأسّست شعبة دستوريّة سنة 1950 تولّت هي رئاستها كما تولّت الكتابة العامّة السيّدة بحلوس وأمانة المال عائشة الكافي وآلت العضويّة لسيدات منهنّ المرحومة أمّ الخير الكافي وغيرها..
وشرعن في النشاط بتنظيم اجتماعات نسائيّة في الزوايا (مقامات الأولياء) كزاوية سيدي علي وزاوية سيدي عبد القادر) حيث كنّ يجتمعن ويفتعلن تقديم قربان للوليّ ويغنّين ويزغردن ويخطبن -في أثناء ذلك- ويوزّعن المناشير والاشتراكات في الحزب ويقمن بتعبئة اجتماعيّة وسياسيّة فعليّة ضدّ المستعمر واستغلاله لأراضي الجهة الخصبة وخيراتها وسوء معاملته لأبنائها الذين كان أغلبهم يعيش الفقر والحرمان.
نشرت جريدة «الصباح» سنة 1952 خبر مظاهرات نظمتها النساء، تحت لواء الحزب، في عدة جهات من القطر، وتم اعتقال العديد من منظماتها ومن بينهن زبيدة بدة من باجة وآسيا غلاّب من نابل وشادليّة بوزقرّو وأسماء بلخوجة وخديجة الطبّال وغيرهنّ... فجاءت ردود فعل من جهات أخرى من بينها جهة صفاقس التي نظمت شعبتها الدستوريّة بقيادة المناضلة الشابة مجيدة بوليلة تظاهرة احتاج وتضامن ومساندة.
وقد ذكرت المناضلة زبيدة بدّة (في تسجيل صوتي مطوّل ضمن تصريح للصحفية سيّدة الدوّالقايد لا يزال موجودا ضمن ما لديها من مخزون توثيقي نادر ومفيد في دراسة الذاكرة النّسائية التونسيّة، عن اندلاع الثورة) أنّ الزعيم الحبيب بورقيبة ذهب إلى بنزرت يوم 13 جانفي 1952، وأشرف هناك على اجتماع أراد من خلاله أن يبعث الحماس في مناضلي الحزب في كلّ الجهات وأن يشعرهم بخطورة الوضع، ثمّ اتصل بمناضلي باجة (أعضاء الجامعة الدستوريّة) وأعلمهم بأنّه مرسل إليهم 13 امرأة من تونس (تذكر زبيدة بدة أنّ منهنّ وسيلة بن عمّار وأختها نايلة بن عمّار وشادليّة بوزقرّو وخديجة الطبّال وجميلة المنكبي وشريفة الفيّاش...) فعقدن اجتماعا سرّيا بزاوية سيدي علي، ثم خرجن في مظاهرة انضمّ إليها في الشارع نساء كثيرات ورجال وواكبها مسؤولو الجامعة الدستوريّة (ومنهم محمود الكافي ومصطفى خلفة وخميس بدّة...): وهنا تؤكد السيدة زبيدة بدّة أنّها هي التي كانت القائدة الميدانية الفعليّة لمظاهرة 15 جانفي 1952، باعتبارها رئيسة الشعبة النسائية، وأنّها هي التي كانت ترفع العلم وتمشي في الصفّ الأوّل، وأنّ وسيلة بن عمّار والوفد النسائي الكبير الذي جاء من تونس إنّما كانت مهمّته الدعم والتأطير والمرافقة، وهي مهمّة لم تقتصر على مدينة باجة وعلى تحريض نساء باجة... وعلى كلّ حال فقد قُمعت المظاهرة وتمّت ملاحقة الجميع -الوافدات والمحلّيات- وأُخذت زبيدة بدّة إلى بنزرت حيث حوكمت أولا بعام سجن ثم بثمانية أشهر، ونظرا إلى كونها كانت حبلى فقد حوكمت بتأجيل التنفيذ. أمّا زوجها (خميّس بدّة) فقد اعتقل أولا في محتشد زعرور بتبرسق ثم سُجن بالقصبة بباجة.
ولكنّ نضال زبيدة بدّة وزوجها تواصل بعد ذلك فتعرّضت للتعذيب والسجن في باجة، وهي مرضع، (وكانت السجينة الوحيدة في حبس الرجال فكانت تبيت في مكتب إداري سمح لها بأن تبيت فيه مدير السّجن، وهي تذكر له في شهادتها ذلك الفضل) وسُجن زوجها مجدّدا ثمّ أُحرق دكّانه بما فيه... وواصلت مع ذلك وبعده النضال والعمل الحركي وكانت على علاقة سرّية بوسيلة بن عمار وببورقيبة، وغامرت عديد المرّات بحياتها وكانت مؤتمنة على توزيع المناشير بل وعلى القنابل اليديوية الصنع...
وواصلت مسيرتها هذه حتّى استقلّت تونس فالتحقت بالاتحاد النسائي الذي ترأسته السيدة راضية الحدّاد وأصبحت إحدى عضواته. وفي سنة 1957 كانت أول امرأة تُنتخب مستشارة بلدية بباجة وعضوة في الهيئة التأسيسية لإنعاش الطفولة، وساهمت في أسبوع الجيش الذي انتظم من 01 إلى 08 أوت 1957، تحت إشراف الرئيس الحبيب بورقيبة وتبرّعت بمصوغها من الذهب للمشاركة في تجهيز الجيش الوطني.
عام 1962 تمّ تعيين السيد خميس بدة معتمدا بمطماطة، من ولاية قابس، فأسّست زبيدة بدّة فرع الاتحاد النسائي بمطماطة. وعند قدوم الرئيس بورقيبة إلى مطماطة وعزمه على إلقاء خطاب في السوق ورفض الرجال أن تحضر النساء هذا الحدث، كانت زبيدة بدّة وغيرها من المناضلات ممّن فرضن أن يكون الاجتماع مختلطا.
وعُيّنت السيدة بدّة نائبة جهوية للاتحاد النسائي ومسؤولة عن المنشطات الاجتماعيّات وفي شهر ماي 1962 سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة ضمن وفد من 15 سيّدة من الاتحاد النسائي برئاسة راضية الحدّاد، وكان هذا تربّصا دام ستة أسابيع بهدف الاطلاع على دور المرأة في مجال الخدمات الاجتماعية، ونشاط المنظمات والجمعيات النسائيّة.
في سنة 1964 أسّست زبيدة بدّة فرع الاتحاد النسائي وفرع الفتاة الريفيّة وفرع محو الأميّة بسجنان، كما ساهمت في بعث فرع الهلال الأحمر وفرع منظمة المستهلك بباجة، ونالت في غرّة جوان 1967 وسام الاستقلال من رئاسة الجمهوريّة ووسام المرأة المناضلة (من الاتحاد الوطني للمرأة) كما تم تكريمها في عديد المناسبات وعديد الجهات، وشاركت في جلّ مؤتمرات الاتحاد ومثلت المنظمة جهويّا ووطنيّا ودوليّا.
هذا، وما انفكت المناضلة زبيدة بدّة تعبّر عن فخرها بماضيها النضالي وباستطاعتها تجسيم البعد الرمزي لتمسّك المرأة التونسية بحقها في المساواة والحرّية وتجنّدها لتحمّل المسؤوليات في الحياة الخاصّة والعامّة ونجاحها الباهر في ذلك: فمن دواعي فخرها ومجدها الخاصّ أنّها نجحت في تربية أبنائها على محبّة تونس وعلى الجدّ في السعي إلى النجاح في الدراسة وفي الحياة، وقالت في ذلك: «شاءت الصدف أنّ ابني محمد فتحي، الذي دخل معي السّجن وهو رضيع، واصل دراسته العليا وعمل في عدّة وظائف من بينها وظيفة قنصل عامّ في جدّة، وأنّ ابنتي فايزة التي «دخلت معي» السجن وأنا حامل بها أصبحت أستاذة جامعية...»
توفيّت المناضلة زبيدة بدّة في 12 نوفمبر 2013 وحضر جنازتها جمع كبير من المسؤولين والمناضلين وتمّ تأبينها ودفنت في مقبرة الجلاّز بتونس العاصمة، رحمها الله.
السيّدة الدوّ القايد
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية