شاعرة تونسيّة رائدة، مثّلت تجربتها الشّعريّة أولى التّجارب النّسائيّة الحديثة في تونس. ولدت زبيدة بشير في 8 فيفري بساقية سيدي يوسف (من ولاية الكاف) ووافتها المنيّة في 21 أوت 2011. نشأت في عائلة محافظة من أصول جزائريّة، ذلك أنّ والدها اضطرّ إلى مغادرة قرية «سوف» «الجزائريّة بسبب شظف العيش من أجل الاستقرار في آخر المطاف بتونس العاصمة في حيّ سيدي عبد السّلام العتيق. اعتنى والدها بتعليمها مبادئ اللّغة العربيّة، فحفظت القرآن الكريم وهي صبيّة لم تتجاوز السّابعة من عمرها. وقد أظهرت منذ نعومة أظفارها اهتماما بالأدب العربيّ، فقد كانت تنهل من مرجعيّاته الكلاسيكيّة فيما توفّر لها من نصوصه العريقة في بيتها الأسريّ، وهو ما عمل على صقل موهبتها الشّعريّة الناشئة الّتي كانت تسعى تدريجيّا إلى التبلور، ذلك أنّ محاولاتها الأولى في قرض الشّعر بدأت في سنّ مبكّرة جدّا لم تتجاوز خلالها أربع عشرة سنة. لقد استطاعت وهي العصاميّة أن تتخطّى كلّ العراقيل التّعليميّة الّتي كانت تقف في زمانها عائقا كان يحول دونها ودون تحقيق تطلّعاتها المعرفيّة، وتفتّق مواهبها الإبداعيّة الكامنة.
استطاعت زبيدة بشير أن تشقّ طريقها في مجالي الإبداع والعمل الثّقافيّ بكثير من العزم والثّبات، فظهرت بوادر إشعاعها ومرئيّتها الثّقافيّة الرّياديّة في السّاحة الثّقافيّة التّونسيّة مبكّرا، ونجحت في أن تلفت إليها الأنظار والاهتمام. وهو ما تجلّى في التحاقها بمجال الإعلام بداية من أواخر الخمسينات (1957) إلى عام 1984، حيث تولّت، باعتبارها مذيعة تنشيط، العديد من البرامج الإذاعيّة، مثل برنامج «مرادفات»، و«لقاء الأحبّة» الّذي أحرز شهرة واسعة. وكانت في ذات الوقت تقدّم قصائدها في إذاعات عربيّة مثل إذاعة أمريكا، وإذاعة لندن(BBC). ونالت العديد من الجوائز في مسابقات أدبيّة شاركت فيها (كتابات قصصيّة/شعر. راجع: زبيدة بشير الشاعرة التونسية الرائدة. ملف وثائقي 1957-2010 الكريديف، ص.29.). مثّلت بشعرها تونس في عديد المحافل العربيّة الّتي التقت بها مبدعين كبارا من أمثال أحمد رامي، ونزار قبانيّ، وعائشة عبد الرحمان الّتي أطلقت عليها عبارة» شاعرة العواطف المكلومة». رصدت مؤسّسة الكريديف تكريما لها جائزة زبيدة بشير للإبداع الأدبيّ والعلميّ بداية من سنة 1995 إلى اليوم.
إنّ المنجز الشّعريّ لزبيدة بشير أو «قمريّة الخضراء» –وهي التّسمية الاستعاريّة الّتي ارتضتها لنفسها- ليس غزيرا من حيث الكثرة، ولكنّه منجز جليل من حيث الجودة، مارست خلاله شعر التّفعيلة، والشّعر العموديّ. وتركت لنا ثلاثة دواوين ضمّنتها عصارة تجاربها الحياتيّة والوجدانيّة والروحيّة في مواجهة بيئة لم تكن رحيمة دائمًا بحساسيّتها النّفسيّة، ولا كريمة في إنصاف تطلّعاتها الرياديّة، ولا مشجّعة دائما لخوضها مجالات الحياة الثّقافيّة العامّة في ذلك الطور المبكّر. ويبدو أنّها أقبلت بفعل شعورها المفرط باضطهاد مجهوداتها إلى إعدام كثير من القصائد الّتي نظمتها ولم تنشر. أوّل دواوينها الّذي أحرز شهرة واسعة النّطاق، هو حنين، وقد صدر عن الدّار التّونسيّة للنّشر عام 1986 مصدّرا بإهداء، ومشفوعا بمقدّمة كتبها الشّاعر التّونسيّ مصطفى خريّف (1909- 1967) الّذي آمن بموهبتها الشّعريّة حتّى أنّه وصفها ب «النابغة»، وآزرها متبنيّا إيّاها، قارئا ناقدا لشعرها، ومبدعا موجّها لها. وقد احتوى ديوانها حنين ما يربو على عشرين قصيدة نذكر منها، حنين، فراق، خيبة، نهاية تجربة، نهاية قلب، الحبّ الضائع، وداع...أمّا الديوانان اللاّحقان، فقد تولّت مؤسّسة الكريديف طبعهما، وهما: آلاء الّذي نشر في جويلية 2002، أي بعد فترة اعتزلت فيها زبيدة بشير قول الشّعر والمشاركة في الحياة العامّة دامت حوالي عقدين من الزمن منطوية على عالمها الخاصّ. تصدّرت هذا الديوان مقدّمة، وضمّن إحدى وعشرون قصيدة، أضيفت إليها أربع قصائد من ديوان حنين (عطاء المحال، يا أحبّ النّاس، إباء، وغدا تأتي، وختم بنبذة من الأقوال في الشّاعرة. الديوان الثالث هو طائر الفينيق آخر ما نظمت قبيل وفاتها، وقد صدر عامّ 2017 بعد وفاتها في طبعة أنيقة محلاّة بالرّسوم، وضمّ عدا التقديم ستّ قصائد لا غير، هي: طائر الفينيق، عودة الفينيق، السّمندل، قمريّة الخضراء، أسطورة الصمت، كيف أنساها؟ هذه القصائد ترجمت إلى اللّغتين الفرنسيّة والانجليزيّة في الطبعة المذكورة. جميع الدواوين المذكورة أعادت وزارة الثّقافة نشرها في صورة أعمال كاملة أشرف عليها الشّاعر نورالدين صمّود.
تجربة زبيدة بشير الشّعريّة تجربة متميّزة أثارت اهتماما كبيرا لدى النّقاد والمبدعين في تونس وخارجها. فقد مثّلت البداية الحاسمة منذ نهاية الخمسينات لظهور صوت شعريّ نسائيّ تونسيّ أصيل آخذ في فرض نفسه في نطاق عوالم الشّعر الذكوريّة المهيمنة على حركة الطّليعة التّونسيّة الحديثة. وهو ما بوّأها مرتبة المرجع النّسائيّ في مجالها خاصّة بالنسبة إلى شاعرات تونس بعدها. أهمّ ما يستوقفنا في خصوصيّات هذا الصوت الأصيل جمعه بين متانة أدبيّات القول الشّعري الكلاسيكيّة متمثّلة في جزالة الألفاظ، والانضباط لمعايير جماليّات القصيدة العموديّة المبنيّة على التناظر والمحسّنات البديعيّة وتكثيف الصور الشّعريّة، وبين مقتضيات القول الشّعري العاطفيّ الّذي يظهر تأثّرها بشعراء الرومنطيقيّة وعلى رأسهم أبو القاسم الشّابي (1909-1934). وهو توجّه هيمن على أشعارها بما يقتضيه من سلاسة في التّعبير، وتلقائيّة مؤثّرة في صياغة الأفكار وعرضها في ثوب بعيد الإيحاء، أقرب ما يكون إلى ما يعرف بالسّهل الممتنع. هذه السّمات الّتي زاوجت في شعرها بين متانة القديم وسلاسة الحديث، وهو ينصهر فيه على وجه التّجديد دون أن ينقلب تقليدا يحاكيه ويجترّه، نفسّره بكونه وجها من وجوه عبقريّة الشاعرة الفذّة، ومظهرا من أهمّ مظاهر اندماج شعرها بحياتها الشّخصيّة حتّى كدنا نراهما وجهين لعملة واحدة، فالبعد السّيرذاتيّ المقنّع بغطاء التصوير المجازيّ الاستعاريّ سرعان ما تنجلي للقارئ عراه بما يعرف من المحن و الخيبات العاطفيّة الّتي منيت بها الشّاعرة في حياتها إلى حدّ أنّها اضطرّتها إلى العزلة والانكفاء على الذّات، وذلك لهول ما اصطدم به قلبها الرقيق، وإحساسها المرهف من بشاعة الشرور، والآثام الإنسانيّة المخيّبة للآمال، والأحلام في عالم كانت تحبّه زبيدة بشير جميلا وشاعريّا ومثاليا. ولكنّ أنّى لها أن تسعد، وهي امرأة رائدة راهنت على أنّ تشقّ طريقها بكلّ اقتدار وعزم في بيئة لم تكن مهيّأة بعد للقبول بالمرأة فاعلة اجتماعيّة، ومبدعة تنشد سبل التّحرّر من قيود الحريم وعوالمه المظلمة! لذلك يمكن اعتبار دواوينها الثلاثة بمثابة ملحمتها السيرذاتيّة الّتي نلمس خلالها أهمّ التّطوّرات النّفسانيّة والوجوديّة والفكريّة الّتي مرّت بها الشّاعرة على مدى فترة زمنيّة غطّت أكثر من أربعة عقود، وجميع هذه التطوّرات انعكست بشفافيّة كبيرة في معانيها، مثلما تشكّلت في أساليبها وأدواتها الفنيّة. فديوانها الأوّل حنين كان الأقرب إلى الشّاعريّة الرومنطيقيّة الّتي تتغنّى فيه بالغربة الذاتيّة والشكوى من تقلّب الحبيب، حتّى أنّها قالت في ذلك» كان شكوى من الحياة بصفة عامّة، وقد ذقت مرّها في حداثتي أكثر من حلوها، ثمّ تجسّمت تلك الحياة الّتي أشكو منها في شخصي، وأصبحت الشكوى منه تعبيرا عن الشكوى من الحياة (م. سابق، ص.89). لقد عبّرت عن انسداد أفقها الوجداني هذا في حنين خاصّة، من ذلك قولها:
إنّي أهيم وليس لي
في هذه الدنيا قرارْ
وأودّ لو أسعى إليكَ
أفرّ من دنياي، لكنْ
لا سبيل إلى الفرارْ
فأنا مقيّدة بآلاف القيودِ
تسدّ دربي كالجدارْ
ولقد صُلبتُ على عمود القهرِ
حتّى بتّ أخشى الانهيارْ
هذا اليأس من مباهج الحياة تطوّر في آلاء إلى بحث عن الطمأنينة الأبديّة في الوجد الصوفي والارتماء في أحضان العناية الإلاهيّة الّتي لا تكون إلاّ عدلا ورحمة وأنسا، لا تشوبها شائبة. لذلك فهذه المحطّة الثانية هي مرحلة الخلاص، بما هو التّحرّر من مرارة التّجارب الواقعيّة المحبطة. تقول في قصيدة، طوبى لنا:
«وعدت أهفو إلى فيء يظلّلني
أنا الغريبة في قومي وفي بلدي»
[البسيط]
(آلاء، ص.31)
أمّا المرحلة الأخيرة، فهي مرحلة التّسامي الأسطوريّة الّتي التحمت فيها الشّاعرة بأسطورة طائر الفينيق وما شابهها من أجل أن تتغنّى بانتصارها على آلامها ونجاحها أخيرا في بلوغ مرحلة الخلود. فكان ديوان طائر الفينيق بمثابة رسالة الوداع التّي ختمت ملحمة حياة قطعتها الشّاعرة باحثة عن ذاتها المتعالية في عالم متدهور لا يضاهي سموّها. ولكنّها انتصرت عليه أخيرا بشعرها، عصارة كيانها الفذّ، فإذا هي تتحوّل إلى أيقونة محضة تشعّ بأنوار مواهبها في كلّ زمان ومكان. وتظلّ في الختام عبارة الزّعيم الحبيب بورقيبة أفضل نبوءة بحسن مآل الشّاعرة، وذلك عندما خاطبها قائلا: «هل سيقال عاش بورقيبة في زمن زبيدة بشير، أم عاشت هي في زمن بورقيبة؟ لا ننسى أنّ سيف الدولة عرف من خلال المتنبي لا العكس»!
جليلة الطريطر
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية